فريد الدين العطار وشعر الغزل العرفاني
فريد الدين العطار وشعر الغزل العرفاني
في إطار استعراضنا لآثار الشاعر والعارف الإيراني فريد الدين العطار النيسابوري.
نحاول أن نستعرض في حلقة هذا الأسبوع ديوانه، ومقطوعاته في الغزل الصوفي.
يشتمل ديوان العطار على عشرة آلاف بيت يتضمن القصائد الغزلية والرباعيات، وأنواعا وأشكال النظم الاخرى.
وفي ما يتعلق بالقصائد الغزلية يعد العطار من الملتزمين بالمدرسة العراقية في النظم، هذه المدرسة التي بلغت ذروتها في النضج، في ما بعد على يد شعراء كبار مثل سعدي الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي.
وفي الحقيقة فان الحديث عن مسيرة شعر الغزل العرفاني في الشعر الفارسي هو حديث ذو شجون، فقد كان في بداية ظهوره عبارة عن مطلع يأتي به الشاعر في بداية القصيدة، ويمدح من خلال الحاكم أو الأمير، أو ليبسط فيه الحديث عن الموضوعات الدنيوية، والارتباطات الأرضية.
وفي مثل هذا النوع من الغزل يبدو العاشق في غاية الذل والمسكنة، ولا يعني العشق لديه سوى المبالغة والتصنع.
ولكن، واعتباراً من ظهور سنائي الغزنوي بدأ الغزل ينحو منحىً آخر، ففي عصر هذا الشاعر شاعت النزعة العرفانية والصوفية، واتخذت ابعاداً جديدة انتقلت بها من أثقال التراب والأرض إلى رحاب السماء والملكوت، فغزا الفكر العرفاني الأغراض الشعرية.
وهكذا شاعت، اعتباراً من هذا العصر، أي القرن الخامس الهجري، مصطلحات وألفاظ المسلك العرفاني والتصوفي في قصائد وأشعار ذلك العصر، وبدأ الشعراء يتجهون اتجاهاً آخر في القالب الغزلي يقوم أساساً على مناجاة الخالق تعالى، ومحاولة مكاشفته.
إلى درجة أن المصطلحات والتعبيرات الخاصة بالغزل احتُكرت كلياً من قبل شعراء العرفان حتى أننا قلما نرى قصيدة، أو مقطوعة شعرية تنحو منحىً غزلياً في الألفاظ والأساليب التعبيرية من دون أن يكون المقصود منها ذلك النوع من الغزل العرفاني الشائع لدى شعراء المسلك الصوفي.
فالعشق لديهم ما هو إلا ذلك العشق الأزلي والحقيقي الذي يملأ كيان العابد تجاه المعبود، والمعشوق ليس إلا البارئ سبحانه وتعالى، والعاشق هو دائماً السائر في طريق الله، المحاول للوصول إلى الكمال من خلال الرياضات الروحية.
وهكذا نفذت الأفكار العرفانية مضامين قصائد الشعراء، وسار في هذا السبيل شعراء مثل العطار، ومولوي، وحافظ وغيرهم.
إلا أن العطار يحتل في هذا المجال مكانة خاصة، فهو يرى أن للعشق حرمة لا يحق لكل شخص أن يلجها سوى ذلك الانسان الذي سار في هذا الطريق وهو مؤمن كل الإيمان أن عليه أن يتحد معه، ويندمج فيه.
وما يتحدث عنه فريد الدين العطار في قصائده، ومقطوعاته الغزلية يتمثل في المحبة التي لا يمكن أن ينالها إلا من تجاوز ذاته، واستعدّ لأن يفني هذه الذات في الحق، وفعل ما هو موجود هو منه تعالى، وعلى الإنسان ان يتجرد بشكل كامل في هذا المجال من حالة الانانية، وعبادة الذات.
وهو يحذر في هذا الصدد من أن كل شيء من الممكن أن يتحول إلى عقبة تعيق وصول الإنسان إلى الكمال، بل إن العشق نفسه قد يتحول بالنسبة إلى البعض الى ما يشبه القيد، ليحول بينهم وبين الوصول إلى الهدف الحقيقي، ولذلك فإن على الإنسان ان يكون حذراً دوماً، كما يقرر ذلك العطار في قوله:
(إنّ القلبَ الذي يتألّمُ من عشقِ الأرواح
هو القلبُ الذي يعرِفَ قدرَ العشق
فان خُيّلَ إليه انّ يسلُك سبيلَ العشقِ
فان هذا العشقَ الذي يصنعهُ لنفسهِ
سوف يتحوّلُ إلى قيد يرسُفُ فيه…).
وهكذا فإن بغية العطار هي الله جل وعلا، ومن المعلوم أن الخالق يمثل ذاتاً مقدسة أزلية وسرمدية أضمر لها العطار الحبّ منذ أن أخذ الله العهد من الأرواح البشرية في عالم الذرّ.
ونحن نرى العطار والعرفاء الآخرين يمضون في سلوك هذا الطريق إلى درجة الغوص في بحر لطف الخالق تعالى، حتى يهتف أحدهم قائلاً على سبيل المجاز والاستعارة:
(يا معشوقي! لقد اصبحتُ مُلْكاً لك بِكُلّيتي
فكُنْ انت مُلْكاً لي من خلال
توفيقي لمعرفتك، وعبادتك حقّ العبادة…).
ويرى العطار أن الله عز وجل يتجلَّى دوماً في قلب الانسان، إلا أن هذا القلب غافل عن ذلك، وهو يتحدث في هذا المجال بصراحة، ويوجّه سهام نقده إلى الأشخاص الذين يصدرون أحكامهم استناداً إلى ظاهر الأمور.
كما يدعو في أشعاره العرفانية الناس الى الأخلاق الحسنة، ويحاول أن يعلمهم آداب وسلوك وأسلوب السير إلى الله، وهو يقرر في أشعاره أن الإنسان لو أراد أن يلج طريق الحق، فإن عليه أن يشدّ رحال السفر حاملًا معه الزاد المتمثل في تهذيب النفس، ومعرفة الذات.
وهو يرى أن الإنسان لا يمكن ان يمزّق الحجب، وينطلق في رحاب المعرفة الإلهية إلا إذا تحرر من أسر ذاته، وأزاح تلك الحجب، وغاص في اعماق الروح والنفس.
ويركز العطار في تفكيره في مراحل السير والسلوك المختلفة على الالتقاء بالمحبوب قبل اي شيء آخر، وقد بذل هو نفسه جهوداً كبيرة من أجل تحقيق هذه البغية.
وأما بالنسبة الى رباعيات فريد الدين العطار، فإن بالإمكان أن يصنفها بأنها تمثل مقطوعات غزلية قصيرة، ذلك لأنه تحدث في هذا الكون من أشعاره أيضًا عن وجده، وآلام اشتياقه إلى المعشوق، وبسط الحديث عن منازل ودرجات الطريق.
وهو يتحدث في رباعياته هذا احياناً عن حقيقة الإيمان التي هي العبودية لله سبحانه، ويرى أن عبدة الذات محرومون من لذة الإيمان مهما كان دينهم أو مذهبهم، كما يعلن عن ذلك في قوله:
(أين العاشق النقيّ، وأين القلبُ الحيّ؟
وأين المتحرّقةُ روحُه، والعازفُ نفسه عن ملاذ الحياة؟
إنّ الجميع يعبدون أفكارهم وذواتهم
فأين تجدُ العبدَ الحقيقيّ لله؟!…).
* نقلًا عن: إذاعة طهران – برنامج : عبارات و اشارات – فقرة : الأديب العطار وشعر الغزل العرفاني.