الأدب الصوفي هو البوابة السحريَّة التي عبر منها الصوفيون وأبدعوا
د. بليغ حمدي اسماعيل
*الرسائل هي قطع من الحكمة وخلاصة التجربة الروحية والتجارة المربحة مع الله
* توجيه الضوء وتسليطه على شخصيتين صوفيتين كبيرتي المقام والمكانة هما؛ الحكيم الترمذي وعبدالجبارالنفري.
البوابة السحرية التي عبر الصوفيون منها وأجادوا وأبدعوا من خلالها هي الأدب الصوفي – إن صلحت التسمية وجازت – والأدب الصوفي لم يقتصر بالطبع على النص النثري، بل تعدى ليشمل الشعر أيضاً، والأبرز في هذا الإنتاج الاستثنائي أنه حمل أغراضا تعليمية تربوية، تأكيدا على الدور التنموي والتربوي للتصوف، وفي هذا يؤكد أكبر مستشرقي التصوف الإسلامي جوزيبي سكاتولين على أن هذه الحقبة التاريخية التي دافع فيها التصوف عن وجوده وتبريره لكنها مثلت انتقالا مهما وخطيرا من مرحلة الإبداع المحض في الخبرة والتجربة الصوفية، وانتقل التصوف من مرحلة التجميع للأقوال والحكم وتنظيمها وتدوينها إلى مرحلة إبداع خاص.
الرَّسَائِلُ الصُّوفِيَّةُ:
كما أن هذه الفترة التاريخية اشتهرت بظهور ما يعرف بالرسائل الصوفية وهي تصنيفات فريدة من نوعها تلخص التصوف وتوضح حقيقته فهي قطع من الحكمة وخلاصة التجربة الروحية والتجارة المربحة مع الله عن طريق العبادة الخالصة وإلزام النفس بأوامر الله ونواهيه والحرص الشديد على الطاعات وتأديتها، ويمكن توجيه الضوء وتسليطه على شخصيتين صوفيتين كبيرتي المقام والمكانة هما؛ الحكيم الترمذي الذي سنفرد السطور القادمة للحديث عنه وعن مصنفاته الرائدة، وعبدالجبار النفري صاحب المخاطبات والمواقف الذي حير بتصنيفه أولي الألباب والعقول المستنيرة، وهو ما يحتاج منا إلى وقت كافٍ ومساحات عريضة لتناول تلك المواقف.
إذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة
ظَاهِرَةُ الحَكِيْمِ التِّرْمِذِي:
تخبرنا كتب التراجم الذاتية أن الحكيم الترمذي هو أبوعبد الله محمد بن علي بن الحسن من ترمذ بمدينة خراسان، عاش بها وفيها توفي، ولاشك أن دراسته للحديث والفقه لاسيما الفقه الحنفي قد مكنته من التحدث في أمور العقيدة، ورغم هذا نال ما ناله سابقوه من اتهام بخروج عن الدين ولصقت به البدعة في الكلام لكنه برئ من كل هذا تماما. قال أبوعبد الرحمن السلمي: أخرجوا الحكيم من ترمذ، وشهدوا عليه بالكفر، وذلك بسبب تصنيفه كتاب: “ختم الولاية” وكتاب “علل الشريعة”، وقالوا: إنه يقول : إن للأولياء خاتما كالأنبياء لهم خاتم. وإنه يفضل الولاية على النبوة، واحتج بحديث: يغبطهم النبيون والشهداء فقدم بلخ ، فقبلوه لموافقته لهم في المذهب.
والحكيم الترمذي تجده أكثر اختلافا عن سابقيه أيضا، في أنه رفض إدخال العقل في أمور الدين بل قاوم التيارات الفلسفية مقاومة شرسة، ورغم ذلك اتسم بتوجه أساسي ميز مذهبه في التصوف، وهو إدراك الحقائق الدينية عن طريق الذوق والمعرفة العرفانية الحدسية المختبئة وراء النصوص، والحكيم الترمذي هو أول من تكلم عن الولاية والأولياء وله في ذلك كتاب عنوانه “ختم الأولياء”.
عِلْمُ الأوْلِيَاءِ وعِلْمُ الأنْبِيَاءِ:
يبدو أن الحكيم الترمذي وعبدالجبار النفري قد اتفقا في طريقة عرض رسائلهما الصوفية حيث اعتمدا على الموقف وطرح السؤال الذي بالضرورة يثير الدهشة ومن ثم اقتناص الوعي والانتباه والإدراك لدى المتلقي المريد، وهذا ما فعله النفري في المواقف، وما اعتمده الحكيم الترمذي في ختم الأولياء من إثارة الأسئلة من مثل قوله: قال له قائل: صف لنا شأن الذين وصلوا، فوقفوا في مراتبهم على شريطة لزوم حفظ المرتبة؛ وما سبب اللزوم؟ وصف لنا شأن الذين وصلوا فرفعت عنهم الشريطة، وفوضت إليهم الأمور. ومن ولَّى حق الله؟ ومن ولي الله؟
قال: إن الواصل إلى مكان القربة، رتب له محل، فحل بقلبه هناك، مع نفس فيها تلك الهنات باقية، فإنه إنما ألزم المرتبة، لأنه إذا توجه إلى عمل من أعمال البر، ينال في موضع القربة، ليعتق من رق النفس، مازجه الهوى ومحبة محمدة الناس، وخوف سقوط المنزلة. فعمله لا يخلو من التزين والرياء، وإن دق. أفيطمع أن يترك قلبه مع دنس الرياء والتزين فيحل محل القربة؟
بل يقال له: يشترط عليك، مع العتق من رق النفس، الثبات ههنا، فلا تصدر إلى عمل بدون إذن. فإن أذنا لك، أصدرناك مع الحراس، ووكلنا الحق شاهدا عليك ومؤيدا لك؛ والحرس يذبون عنك.
قال له قائل: وما تلك الحرس؟ قال: أنوار العصمة موكلة به؛ تحرق هنات النفس ونواجم ما انكمن منها. وكل ما ينجم من مكامن النفس، من تلك الهنات أحرقته تلك الأنوار حتى يرجع إلى مرتبته، ولم تجد النفس سبيلا إلى أن تأخذ بحظها من ذلك العمل. فيرجع إلى مرتبه طاهرا كما صدر؛ لم يتدنس بأدناس النفس: من التزين والتصنع، والركون إلى موقع الأمور عند الخلق.
فهذا المغرور، لما وجد قوة المحل، ونور القربة، وطهارته، ظن أنه استولى، ونظر إلى نفسه فلم يجد فيها شيئا في الظاهر يتحرك. ولا يعلم أن المكامن مشحونة بالعجائب.
خِصَالُ الولايَةِ العَشْر:
وتنبغي الإشارة إلى ما ذكره الحكيم الترمذي من خصال عشر تتحقق بها الولاية وهو الحديث الذي ألحقه بكلام عن ولي الله الذي وصفه برجل ثبت في مرتبته وافيا بالشروط كما وفي بالصدق في سيره، وبالصبر في عمل الطاعة، واضطراره، فأدى الفرائض وحفظ الحدود ولزم المرتبة، حتى قوّم وهذب ونقّي وأدب وطهر وطيب ووسع وزكى وشجع وعوذ .
ورسالة خصال الولاية العشر تستحق النشر بأكملها لأن بها من الطاعات والآداب ما يؤثر النفس ويطهرها، يقول الحكيم الترمذي: اعلم أن الله ـ سبحانه، عرَّف العباد أسماءه، ولكل اسم ملك، ولكل ملك سلطان، وفي كل ملك مجلس ونجوى وهدايا لأهلها.
وجعل الله لقلوب خاصته، من الأولياء، هناك مقامات، “يعني” أولئك الأولياء الذين تخطوا من المكان إلى الملك. فرب ولي مقامه في أول ملك، وله من أسمائه ذلك الاسم. ورب ولي مقامه التخطي إلى ملك ثان وثالث ورابع. فكلما تخطى إلى ملك أعطى ذلك الاسم؛ حتى يكون الذي يتخطى جميع ذلك إلى ملك الوحدانية الفردانية هو الذي يأخذ بجميع حظوظه من الأسماء. وهو محظوظ من ربه، وهو سيد الأولياء؛ وله ختم الولاية من ربه. فإذا بلغ المنتهى من أسمائه؛ فإلى أين يذهب؟ وقد صار إلى الباطن الذي انقطعت عنه الصفات.
اِنْتِهَاءٌ :
رحم الله إمامنا حجة الإسلام أبا حامد الغزالي القائل في كتابه “إحياء علوم الدين”: “الطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك كان الله المتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم”. ويضيف حجة الإسلام الغزالي في كتابه الذي أمتع الملايين من مريديه والباحثين عن سبل وطرائق الوصل: “وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة”.
_______________________________
*نقلًا عن موقع ” ميدل إيست أونلاين”.