البهتان الإيديولوجي للتمركُز الغربي
د. محمود حيدر
مفكّر وباحث في الفلسفة ـ لبنان.
لم يكن لاصطلاح المركزيّة الغربيّة أنْ يتحوّل إلى ظاهرة في الواقع التاريخي للغرب الحديث لولا وقوع سلسلة مِن التحوّلات الكبرى جرت وقائعها في جغرافيّات الغرب على امتداد خمسة قرون متّصلة. ولو عاينَّا المدوَّنة المعجميّة الأوروبيّة في حقولها المختلفة، الفلسفيّة والثقافيّة والسوسيولوجيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، نكاد لا نعثر عليه كمصطلح قائم بذاته، كما هو واقع الحال مع المصطلحات والمفاهيم المنتزعة مِن فضاء الحداثة. مع هذا، سنكون أمام لوحة لا تتناهى في توصيف أحوال الغرب وسلوكه، سواء حيال نفسه أو حيال جهات العالم الأخرى، الأمر الذي يفضي إلى استنتاج مركَّب، مؤدّاه الآتي، مِن وجه أنَّ المركزيّة الغربيّة، التي خُلعت على أوروبا كنعتٍ لحقبتها المعاصرة، قد اكتسبت ماهيتها وهويّتها مِن تموضعها المتدرِّج في النظام العالمي. ومِن وجهٍ ثانٍ، أنَّها اتّخذت مفهومها بأبعاده الدلاليّة والاصطلاحيّة، ممّا ترتّب على تموضعها مِن آثار في الميدان الجيوستراتيجي في الحروب الاستعماريّة المتواترة، لكنَّ منبت الجدل الذي يطلقه مصطلح المركزيّة الغربيّة، هو أنَّه حاصل خطبة فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة مضت بعيدًا في تسويغ أطروحة العنف التي أخذت بها أوروبا الحديثة لتسويغ تمدّدها الاستعماري الاستيطاني إلى ما سمّي بعالم الأطراف.
مِن مفكّري الغرب وعلمائه مَنْ هالهم التناقض الحاصل بين مدَّعيات الأنسنة والعقلانيّة والتنوير، وما تركه المسلك التقويضي تجاه الأعراق غير الأوروبيّة، إلّا أنَّ الخطاب التساؤلي، وأحيانًا النقدي لهؤلاء، لم يكن له أثر جوهري في تصويب سلوك الطبقات الحاكمة، كما لم يبدِّل مِن ضراوة التمركز حول الذات ونزعاتها الاستعلائيّة،.حتّى إنَّ هنالك مَنْ رأى إلى هذا التناقض المريع بأنَّ عقل الغرب بات منحكمًا إلى ذهنيّة انفصاميّة لا شفاء منها، ذلك أنّه لا يتعلّق فقط بإعادة إحياء الوثنيّة الموروثة مِن السَلَف الإغريقي عبر الإصرار على العلمنة الحادّة، بل أيضًا وأساسًا مِن تضخّم الأنانيّة الحضاريّة التي بلغت ذروتها مع الامتداد الكولونيالي نحو العالم.
مؤدّى ما ستنتهي إليه إيديولوجيّة التمركز، أنَّ التفكير الاستعماري العنصري هو حيِّزٌ معرفيٌّ متأصِّلٌ في فلسفة الغرب ومناهج تفكيره. ولو كان مِن استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدَّعى، ففيما درج عليه جمعٌ مِن فلاسفة وعلماء الطبيعة الأوروبيين، بدءًا مِن عنصر النهضة في القرن الثامن عشر حتّى أزمنة ما بعد الحداثة، فقد انصرف جلّ هؤلاء إلى وضع فلسفة سياسيّة عنصريّة أجرت تصنيفًا هَرَميًّا للجماعات البشريّة، لا سيّما مبدأ الأرقى والأدنى، الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة إلى إيديولوجيا للعنف والإفناء الجماعي. أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربيّة، تلك التي تزامنت مع نمو الإمبرياليّات العابرة للحدود، ولقد كان مِن تمظهرات هذا التمدّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة لم تشأ أنْ ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص. لهذا ما كان غريبًا أنْ تتحوّل هذه الغيريّة الإلغائيّة إلى عقدة «نفسٍ حضاريّةٍ» ليس منها بارقة أمل بشفاء، وما جعل الحال على هذه الدرجة مِن الاستعصاء، أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج إيديولوجيا لمركزيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.
* * *
المسألة الأكثر استدعاءً للنقاش في هذا الموضع، تتمثّل في التأسيس الفلسفي للمركزيّة الغربيّة. لنأخذ مثالًا على ذلك: تصنيف كانط الحضارات الإنسانيّة وفق مراتب ومدارج، أدنى ما يقال فيها أنَّها تشكّل إحدى أكثر الركائز المرجعيّة لتمركز الغرب:
ـ في المرتبة الأولى: يضع كانط العرق الأبيض في مقدّمة شعوب الأرض، ويرى أنَّه يتّصف بجميع المواهب والإمكانيّات.
ـ في المرتبة الثانية: يبيِّن أنَّ طريقة تفكير الهندي والصيني تتّسم بالجمود على الموروث، وتفتقد القدرة على التجديد والتطوير.
ـ في المرتبة الثالثة: يزعم كانط أنَّ الزنوج يتّصفون بالحيويّة والقوّة والشغف للحياة والتفاخر، إلّا أنَّهم عاجزون عن التعلّم رغم كونهم يحوزون على قابليّة التدريب والتلقين.
ـ في المرتبة الرابعة والأخيرة: يأتي سكّان أميركا الأصليّون، ويرى أنَّهم غير قادرين على التعلُّم، ولا يتَّسمون بالإرادة، وهم ضعفاء حتّى في البيان والكلام.
هذا هو رأي كانط الذي يُعتبر بداهةً مِن بين أشهر الفلاسفة في تاريخ الغرب الحديث، لكنَّ الأمر لم يقتصر عليه أو على مَنْ شاطروه الأحكام، بل ثمّة مِن المعاصرين مَنْ يجهرون بعدم وجود فلسفةٍ غير غربيّةٍ، وأنّ الموروث الفكري لتلك الشعوب إنّما هو محض مصادفة تاريخيّة.
* * *
خلال زمن قياسي، تشكَّلت رؤية الغرب للغير على النظر إلى كلّ تنوعٍ حضاريٍّ باعتباره اختلافًا جوهريًّا مع ذاته الحضاريّة. ولم تكن التجربة الاستعماريّة المديدة سوى حاصل رؤيةٍ فلسفيّةٍ تمجّد ذاتها وتستهر بذات الغير. مِن أجل ذلك، سنلاحظ كيف أنشأ فلاسفة الحداثة وعلماؤها أساسًا علميًّا معرفيًّا لشرعنة الهيمنة على الغير بذريعة تمدينه وتحديثه. ومِن جملة الفلاسفة البارزين الذين كان لهم التأثير الكبير في نشأة مركزيّة الغرب: نيكولو ميكافيلي الفيلسوف الإيطالي في أطروحته المشهورة: السياسة لا تخضع للأخلاق، والغاية تبرر الوسيلة، وأنَّ الغلبة هي للأقوياء والأذكياء والدهاة. تشارلز داروين عالم الطبيعة الجيولوجي البريطاني في نظريّته القائلة بأنَّ الطبيعة فرضت على الكائنات المختلفة أنْ تتطوّر عبر عمليّة انتقاء مكَّنت الأقوى والأصلح في البقاء والاستمرار، وقوله أيضاً أنَّ بعض الأعراق الإنسانيّة لا بدّ أنْ تنقرض كي يبقى إنسان (الساينز) الذي سيكون انتقاء الطبيعة القادم منه. وكارل ماركس فيلسوف رأس المال في قوله إنَّ حركة التاريخ محكومة إلى ديالكتيك التناحر وصراع الطبقات.. فريدريش نيتشه في عدميّته الصارخة وقوله إنَّ الأخلاق ليست سوى اختراع الضعفاء. وسيغموند فرويد إذ يختزل الكائن الإنساني بغريزته الجنسيّة المحضة. وهكذا يصير الجامع بين أطروحات هؤلاء وغيرهم مِن الفلاسفة هو العدوان على الغير أنَّى كانت النتائج، وكذلك التصادم مع الحضارات لتحقيق الغلبة عليها، ناهيك عن نزع الأخلاق عن العالم كممرّ حتميّ لتطوّر الحضارة البشريّة.
* * *
ما يضاعف مِن معضلة التمركز الغربي ظهور أعراض «أزمة هوياتيّة” (Crise Identitaire) عميقة الغور. تبرز هذه الأعراض بشكلٍ خاصّ في التوتّر الواضح بين تضخّم موقفه المرتبط بالحضارة الكونيّة، والطابع المحوري الذي تتّخذه أزمة الهويّة فيه، وكذلك في علاقته ببقيّة العالم، حيث تُختزلُ هذه العلاقة بالتسليع وإرساء الأمن وتعميم الطابع الإنساني، وفي قَلَقِهِ وضيقه الشديد حيال التنوّع الثقافي والإثني والديني.
هنا لا مناصّ مِن الالتفات إلى أنَّنا لسنا بإزاء مُشكلٍ معرفيٍّ مستحدث، فلطالما شكّل «العالم الغربي» موضوع تساؤلاتٍ متعدّدةٍ حول وجوده وتعريفاتٍ شتّى لهويّته. لقد جرى استدعاء التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة إلى غيرها مِن العناصر مِن أجل تركيب الهويّة التي رأى العالم الغربي نفسه ورآه العالم مِن خلالها، غير أنّ المفهوم الأنطولوجي الواقع في قلب تعريفه الذاتي، والذي استقت منه كلّ هذه العوامل معناها ومحتواها، هو مفهوم عالميّة حضارته. قدَّم الغرب نفسه عبر التاريخ كمفهومٍ عالميٍّ، وبالتالي كنموذجٍ معياريٍّ وتعبيرٍ نهائيٍّ عن التطوّر البشري. ولقد بدا بوضوح أنّ جغرافيّة الغرب الأوليّة التي تمثّلت تعيينًا بأوروبا، أعطت لنفسها «رسالة تحضيريّة (Mission Civilisatrice)»؛ ففي علاقة الغرب مع بقيّة شعوب العالم، بدت عدساته الثقافيّة مع الوقت مصبوغةً برؤيةٍ عالميّة، وهذا ما عرف بـ «العالميّةـ المرآة»، التي تعتبر أنّ «كلّ ما يشبهني هو عالميٌّ»، وقد انبنت رؤيته التاريخيّة للغيريّة على النظر إلى الآخر باعتباره كائنًا مختلفًا بصورةٍ جذريّةٍ، وعليه راح فلاسفته وعلماؤه، لا سيّما علماء الطبيعة، يقدّمون أساسًا علميًّا وفلسفيًّا لشرعنة «رسالته التحضيريّة”.
وفق هرميّة الثقافات والأعراق والأجناس حسب بعض علماء الاجتماع، فقد تبلورت «العالميّة – المرآة» في الوعي التاريخي للغرب مِن خلال ثلاثة مجالات حديثة: حقوق الإنسان، والعمل الإنساني، والاقتصاد. ففي إطار ديناميكيّة المركزيّة التاريخيّة الغربيّة، تكتسب عالميّة حقوق الإنسان شرعيّتها بفعل السمة العالميّة للنموذج الغربي نفسه؛ بمعنى أنّ الحضارة الغربيّة – باتت تبعًا لهذا الادّعاء – هي المكان الوحيد والمتميّز والحصري الذي تنبثق منه القيم التي تحدّد وتعبّر عن المرحلة النهائيّة مِن التطوّر البشري. لذا، صارت “الرسالة التحضيريّة” للغرب تعبيرًا طبيعيًّا عن هذه الشرعيّة الأنطولوجيّة. وعلى هذا النحو مِن التنظير والممارسة، جرت ترجمة هذه الشرعيّة المدّعاة عبر خطبةٍ إيديولوجيّةٍ تقوم على مسلَّمتَين حول علاقة الغرب بالعالم، وهما: الإيمان بعالميّة القيم الغربيّة، والمماثلة القطعيّة والتطابق بين حقوق الإنسان والقيم الغربيّة.
تأسيسًا على هاتين المسلّمَتين، صار يُنظَر إلى أيّ معارضةٍ سياسيّة للقيم الغربيّة على أنّها تشكيكٌ بعالميّة حقوق الإنسان، ومِن الوقائع الدالّة على ذلك، استخدام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأداةٍ إيديولوجيّةٍ تستهدف المعارضَين السياسيَّيْن التاريخيَّين للغرب، وهما: العالم الشيوعي والعالم الإسلامي المستعمَر. ما تجوز الإشارة إليه في هذا الصدد أنّ نظريّة نهاية التاريخ التي أنتجتها النيوليبراليّة في نهاية القرن العشرين المنصرم، شكّلت التعبير الأبلغ عن مفهوم «العالميّة ـ المرآة» مِن جهة كونها تسلّم بأنّ النصر الإيديولوجي النهائي سيكون لليبراليّة السياسيّة والاقتصاديّة.
في التراث الاستشراقي الذي حفر سبيله بالتوازي مع صعود الحداثة وبداية تشكُّل المركزيّة الأوروبيّة، سوف نقرأ العلامات الكبرى التي تأسّس عليها وعي الغرب الاستعلائي حيال الشرق عمومًا، وتجاه الإسلام على وجه الخصوص. مِن أبرز تلك العلامات، النظر إلى الشرق كنقيضٍ وجوديّ للغرب؛ أي بما هو الوجه المغاير للعقلانيّة، والعلم، والتطوّر، والنموّ الاقتصادي، والازدهار. وبتعبيرٍ آخر، لقد انبنى هذا الوعي على قاعدةٍ مؤدّاها أنّ كلّ عناصر التفوّق التي تحقّقت في الغرب كانت مفقودةً في الشرق. نتيجة ذلك، أهمل علماء الاجتماع الغربيّون إجراء بحوثٍ حول طبيعة التحوّلات الكبرى فيما كان يسمّى «الشرق»، وهذا يعود إلى أنّ الشرق، بما هو شرقٌ برأيهم، لم يتسنّ له أنْ يسري بصورةٍ طبيعيّةٍ في الوعي التاريخي الغربي؛ ذلك أنّ ما ترسَّخ في هذا الوعي هو صورة شرقٍ أنتجه الغرب وفق منطقِهِ وتبعًا لرغباته.
لم تفلح إيديولوجيّة التمركز الغربي في تجاوز الأفق الجيو- ديني لأوروبا، وهي تصوغ فلسفتها السياسيّة. لقد زعمت الحضارةُ الغربيّة، وهي ترسم الهندسة الكليّة لمركزيّتها، أنَّها الحضارة الأخيرة والمطلقة؛ أي تلك التي يجب أنْ تعمّ العالم كلّه، وأنْ يدخلَ فيها البشر جميعًا. في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد مِن الشواهد ما يعرب عن الكثير مِن الشك بحقّانيّة الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة، لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّةٍ بسبب مِن حجبها أو احتجابها في أقلّ تقديرٍ، ولذلك فهي لم تترك أثرًا في عجلة التاريخ الأوروبي، فلقد بدا مِن صريح الصورة أنّ التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأوّل مِن القرن العشرين، وعلى الرغم مِن أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلّا أنّها خلت على الإجمال مِن أيّ إشارةٍ إلى الحضارات الأخرى المنافسة للحضارة الغربيّة، حتّى إنّ توينبي وشبنغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما على حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهة الحضارة الغربيّة، ولم يكن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاري الآخر، ففي نظرهما لا وجود إلّا لحضارةٍ واحدةٍ حيّةٍ ناشطةٍ، هي حضارة الغرب، وأمّا الحضارات الأخرى، فهي ميتةٌ وخامدةٌ وساكنة.
_________
* نقلًا عن موقع ” التنويري”.