الحدث التاريخي في اللَّحظة الصوفيَّة من خلال تجربة الأمير عبد القادر
عبد الوهاب بلغراس
الحدث التاريخي في اللَّحظة الصوفيَّة من خلال تجربة الأمير عبد القادر
عبد الوهاب بلغراس
شكلت العلاقة بين الفلسفة والتصوف محور اهتمام الفلسفة المعاصرة، وقد كانت الاهتمامات منصبة حول حدود هذه العلاقة ودرجة حيوية كل منهما1، إلى جانب إشكالية التقابل بين الحقلين من خلال التقابل بين العقلاني والعاطفي، بين المنطقي والغنوصي أو ما يسميه ريموند أبلليو (Raymond Abellio) “البنية المطلقة” التي ميدانها التاريخ والعالم والروح، والتي تجسدت حسبه مع الفينومينولوجيين، خاصة هوسرل.2
لقد بدأ الفكر الفلسفي يهتم بالتقاليد الصوفية المختلفة بما فيها أشكال التصوف “غير الدينية” وتغيراتها التاريخية والجغرافية، وهكذا أصبحت هذه الأشكال مجالا خصبا للدراسات الفلسفية، إذ استفاد الخطاب الصوفي من بعض مفاهيمها، خاصة في النظرة إلى العالم و التأويل والقراءة، كما استفاد الخطاب الفلسفي بأدوات معرفية مكنته من مقاربة ظاهرة التصوف ومفاهيمه.3
في هذا الإطار وقع اختيارنا على موضوع الحدث التاريخي في اللحظة الصوفية من خلال تجربة الأمير عبد القادر، فالحدث يعاش من طرف الإنسان في واقع محدد، غير أن الصوفي، وهو الأمير عبد القادر هنا، يحاول أن يتمثل لحظته أو يحدسها وأحيانا يقفز فوقها.
ما يبرر توجهنا نحو اللحظة الصوفية في تجربة الأمير عبد القادر هو ارتباط هذه التجربة الصوفية بظروف فكرية وسياسية حادة عرفها العالم الإسلامي، ونقصد بها القرن التاسع عشر ميلادي الذي عاش فيه الأمير، حيث جسّد لحظته في قلب الحدث، أي الاستعمار الفرنسي للجزائر.
فإذا كان الأمير عبدالقادر، في كتاب “المواقف”، أي في الفترة التي بلغ فيها تصوفه مرحلة متقدمة جدا، قد شكّل عزلة على غرار العزلة المعروفة عند المتصوفة، فهل عزلته هذه جعلته خارج التاريخ وبالتالي خارج الزمان والمكان؟ وهل للمتصوف، انطلاقا من تجربته الصوفية، مكان وزمان خاصين يشكل من خلالهما صيرورته وماهيته؟
من بين الدراسات السابقة التي اهتمت بالموضوع، إضافة للدراسات التاريخية التي تركز على الأمير المقاوم أو المؤسس للدولة أ والأمير المحاور والإنساني، استوقفتنا دراسة برونو إيتيان4 لأنها تحاول أن تؤول م ار الأمير ومواقفه، خاصة بعد توقف ل مقاومة ثم استقراره بدمشق، بكونه متصوفا وبالتالي كل المفارقات أو ما يبدو أنها مفارقة في حياته يجب أن ينظر إليه انطلاقا م تكون الرؤية الصوفية؛ إلى جانب أطروحة منير بهادي حول التجربة الوجودية في الخطاب الصوفي حيث ركز خ في عرضه على خطاب الأمير عبدالقادر.5
من خلال كتاب “المواقف” نكتشف رؤية مغايرة للتاريخ ُيفْتَرَضُ أن تتجاوز إلى حد بعيد الرؤية السائدة، نصل من خلالها إلى رؤية تحاول الاقتراب من رؤية إشراقية للتاريخ من منطلق أن الوجود الإنساني ينطوي على بعد روحاني لا يمكن تجاهله، بل هو عند الأمير عبد القادر والمتصوفة جوهر الوجود.
إذن، انطلاقا من تحليل المحتوى لكتاب “المواقف”، خاصة الموقف 248 الذي يبرز فيه الأمير عبدالقادر الوجود ومراتبه وكيفية تنزل الأسماء والصفات في إطار ما يسمى في عرف المتصوفة بالصعود والنزول، عملنا على استخراج هذه الخصائص الدالة على الزمان واللحظة بناءا على رؤية صوفية عرفانية، ثم مقابلتها ببعض الفلسفات المعاصرة التي تنظر إلى الزمان نظرة مغايرة بحيث يتحول المعيش إلى مفهوم، والزمان الموضوعي إلى وعي مرتبط بالذات.
وبناء على الإشكالات التي تركها المسار التاريخي للأمير عبدالقادر، والذي يبدو للكثير من المؤرخين والمهتمين مليئا بالمفارقات، إن لم نقل تناقضات، في مواقفه وعلاقاته خاصة مع الغرب و بالضبط فرنسا الاستعمارية، نعمل على تبيان علاقة كل ذلك بمواقفه الفكرية والمعرفية، مواقف وإن كانت تبدو من المفارقات غير أنها في اصطلاح الصوفية توازي الثنائيات الموجودة في القرآن الكريم على شكل جدلية أو علاقة بين المطلق و النسبي.
تحمل التجربة الصوفية خصائص تختلف عن التجربة الفلسفية ولكنها تحمل رهانات فلسفية، ما يمكننا من التطلع عليها ومقاربتها من خلال ما يصدر عن المتصوفة6. فالتجربة الخاصة بالصوفي تتميز كمنهج أو كنمط معرفة للوصول إلى حالة مغايرة أسمى، وقد أشار كتاب الرهانات الفلسفية للتصوف إلى مدى المزج بين التصوف في تقليده المرتبط بالقرون الوسطى والعمل الشعري والرومانسية الألمانية.7
والتصوف بنظرة فلسفية محضة هو مكان لتجربة أنطولوجية معلنة انطلاقا من جدلية الباطن والظاهر.8 كما أن “العقلانية الصوفية”، وهي عقلانية المقرَّب أو العقل المؤَيَد كما يسميه طه عبد الرحمن، هي عقلانية مرتبطة بتجربة حية يتجاوز من خلالها الصوفي الآفات العلمية من تجريد وتسييس، والآفات الخلقية كالتظاهر والتقليد9 باعتباره مؤيَدا من الله.
بالنسبة للأمير عبدالقادر الجزائري، فقد بدت عليه إرهاصات التصوف منذ الصغر. يقول عن مرحلة صباه : ” كنُتُ مغرما بمطالعة كتب القوم- رضي الله عنهم –(يقصد الصوفية )منذ الصبا، غير سالك طريقهم، فكنت أثناء المطالعة أعثر على كلمات تصدر من سادات القوم وأكابرهم يقف شعري وتنقبض نفسي منها، مع إيماني بكلامهم على مرادهم لأني على يقين من آدابهم الكاملة وأخلاقهم الفاضلة...” وسوف تبرز مرحلة النضج في المجال الصوفي أثناء منفاه وسجنه في فرنسا، ثم تنمو وتتطور عندما يستقر في الشام بدمشق.
- 10مرابط، ج
أما كتابه “المواقف” فقد مهّد لمحتوياته العقدية والصوفية في الموقف 231 حيث قال : “كل ما تقوله الطائفة العلية-رضي الله عنها-(يقصد الصوفية) له دليل من الكتاب والسنة عرفه من عرفه وجهله من جهله، لأن طريقتهم مؤسسة على الكتاب والسنة، غير أن من علومهم أمورا وجانيات لا يمكن أن يقام عليها دليل ولا تحد بحد”.10
- 11الأمير عبدالقاد
تتميز الرؤية الفلسفية للوجود في الخطاب الصوفي للأمير من خلال تصوره للوجود والعدم، وهو تصور يختلف عن تصور المتكلمين وتصور الفلاسفة. فهو يرى أن التمايز بين الحقيقة والمجاز تمايز صوري إلى درجة انعدام الغيرية تماما بالنسبة للذات الإنسانية كما هو الوجود المحض11، فالغيرية توجد فقط لفظا ومجازا.
- 12سورة
ولما كان الوجود عند الصوفية، خاصة القائلين بوحدة الوجود، واحدا غير متعدد، فإنه يتنزل عبر مراتب يسميها الأمير مراتب الوجود، وكل مرتبة هي نفسها الوجود الأول بدرجة أضعف. وهذه الرؤية مستنبطة من الآية القرآنية : “الله نور السموات والأرض”12. ولكي يبرر كون الوجود واحدا، لا بد من نفي الغيرية وكل الوجودات غير وجود الحق (الله)، فالكل إما هو أو مظاهره وتجلياته13.
هذا التأويل المتميز الذي استعمله الأمير عبدالقادر، والذي فسّر بواسطته مراتب الوجود، يروي من خلاله التكوين الوجودي أو كيف تولدت الكثرة عن الوحدة عبر فيض من التجليات في شكل رؤية وجودية تشكّل المراتب والصور والأسماء أشخاصَها وموضوعاتِها.
والتصنيف الذي وضعه الأمير عبدالقادر تصنيف نصي يقوم على أساس النص القرآني، وهو أيضا تصنيف وجودي جاء نتيجة التأويل التأملي للنص القرآني والأحاديث النبوية والخطابات الصوفية والفلسفية والكلامية السابقة، تأويل يعود إلى تجربة توحّد و مجاهدة ومحبة للوجود، تجربة تزول فيها الفوارق والفواصل بين الذات والموضوع. فالرائي والمرئي كل منهما يشير إلى الآخر ويعّبر عنه الآخر تماما كما تعبر الوحدة عن الكثرة والكثرة عن الوحدة في مدرسة ابن عربي.
- 14كوربان، هنر
يخطو الأمير عبدالقادر في فكرته هذه خطوات شيخه محيي الدين بن عربي، فهو إذ يؤكد على تجليات الأسماء الإلهية في العالَم يؤكد أيضا على أن هذه التجليات تتجدد باستمرار وبالتالي يتجدد الخلق، ومنه نتحدث عن لا نهائية المخلوقات، و هذا ما نجده لدى ابن عربي أيضا، أي القول بفكرة تجدد الخلق، فهو يقول بلانهائية المخلوقات و أن عملية الخلق باعتبارها معيارا للوجود عبارة عن حركة أزلية ومستمرة بحيث يظهر الموجود في كل لحظة بحُلة جديدة والخالق هو الجوهر14 .
- 15الأمير عبدالقاد
ويعتقد الأمير أن كل ما يوجد في العالم له ما يقابله في الحقيقة الإلهية، ولا يمكن أن يخلق الله أو يفعل شيئا ليست له منه نسبة بوجه من الوجوه. ويستند إلى المحققين من المتصوفة –الذين يعلمون حقائق الأشياء- كما يقول مستدلا بالفكرة الأساسية عن طبيعة الشيء وهي أن “الشيء لا ينتج شيئا ليكون ضده أو نقيضه”15، أي أن النسخة الكونية هي صورة للنسخة الإلهية. و يستند في كل ذلك إلى الآية القرآنية “قل كل يعمل على شاكلته“16. والمقصود بالشاكلة –حسب الأمير-ما يناسبه لا ما يناقضه ويضاده.
- 17
وإن كان المألوف في فلسفات التاريخ أن الحدث تصنعه الجماعات، ما يجعل الحدث التاريخي موضوعيا بمعنى أنه يرتبط بما هو خارجا عن ذات الفرد، فإنه في حالة الأمير عبدالقادر و الحالة الصوفية عموما نحن أمام تاريخ يتشكًل داخل الذات، وبالتالي يؤول الصوفي العالَم انطلاقا من ذاته، ما يجعل التجربة الصوفية تجربة فردية وفريدة من نوعها17.
يتعامل الفكر الصوفي مع مفهوم الزمان تعاملا وظيفيا حيث لا يولي اهتماما كبيرا للتنظير للمفهوم إلا نادرا، ومع ذلك لم تخل المؤلفات الصوفية من بعض البحوث الخاصة حول معاني الزمان أو “الوقت” كما نجده عند ابن عربي في “الفتوحات المكية”18. إذ لا يعترف الصوفي بالزمان كإطار للحوادث ولا كديمومة للحالات الشعورية19، فالزمان لديه مثل المكان يمكن أن يسافر فيه في أي اتجاه شاء، أماما أو خلفا، كما يمكن أن يحضر فيه ويمكن أن يغيب. و من هنا جاءت المقولة الصوفية : “لا فرق بين غيبة المكان وغيبة الزمان”20.
إلى جانب أهمية “المواقف” و”الموقف” و”الوقفة” كمفاهيم خاصة في التجربة الصوفية، والتي يمكن من خلالها استخلاص أهمية تجربة الأمير عبدالقادر الصوفية على اعتبار أنه عاش تجربة خاصة أو وقف وقفة وموقفا خاصا مع الله، إذ تحضر اللحظة أو الآن على اعتبار أن الموقف في ذاته يشكل لحظة صوفية يعيشها الأمير عبدالقادر في تجربته الصوفية ومن خلالها يعيش الحدث التاريخي. كما أنه، ووفقا لرؤية ابن عربي حسب قراءة “ليلي إيشغي”21، يجسد الواقف العارف الذي يتمكن من العودة إلى عالم الحس في عملية تأويلية وقراءة دلالية يعبر عن الحدث من خلال اللحظة الصوفية.
- 22الجابري،
وهكذا، فإذا كان الزمان في التصور اليوناني زمانا دائريا يتبع الحركة الدائرية للكواكب، وإذا كان الزمان في الفكر المسيحي زمانا متصلا صاعدا ينطلق من ابتداء الخلق إلى نهاية الخلاص، فإن الزمان العرفاني زمان منكسر متقطع، وعلى العموم يميل الفكر العرفاني إلى إنكار الزمن أو تخطيه وتجاوزه22.
بالنسبة للأمير عبدالقادر الحاضر هو الجزء الوحيد من الزمان الذي نعرفه بالإحساس، وهو الزمان الوحيد الذي نعيشه بأجسادنا وأنفسنا، ولهذا سماه الصوفية زمان الأنفس في مقابل زمان الآفاق الذي يقاس بمقاييس فلكية. ولما كان حاضر الصوفي مرتبطا بلحظته الآنية (“الصوفي ابن وقته”) فإنه يعيش حاضره أو بتعبيرنا يعيش وقته الحداثي ولكن بصورة مغايرة، فهو يعمل على تمديد لحظته لدرجة ربطها بالأبدية.
وكل تجلّ إلهي بالنسبة للأمير عبارة عن خلق جديد إذ “لا يتجلى الحق باسم واحد مرتين”، وبالتالي فكل لحظة هي لحظة جديدة وفريدة من نوعها وغير قابلة للتكرار. ويتلقى الصوفي التجلي الإلهي بواسطة القلب باعتباره المرآة للتجلي الإلهي، وكل تغير في التجلي يُحدث تغيرا في القلب وبالتالي في الفرد، بل وفي العالم.
يلاحظ في اللحظة الصوفية أثر الحضور الإلهي في الهُنا ici والآن maintenant والله هو الذي يحدد شكل ذلك الحضور في الخلق وهو الذي يحدد مختلف الأشكال التي تتخذها اللحظة. فإذا كان الحلاج في لحظته أكثر تطرفا من خلال شطحته المشهورة : “أنا الحق”، لأنه في تلك اللحظة لا الأزل ولا الأبد كانا يشكلان له معنى بالنظر إلى لحظة اليقين التي رآها قلبه، فإن الأمير عبدالقادر كان أكثر تماسكا في لحظته ولم يعبر عنها بالطريقة نفسها : “قيلت لي ولم أقلها” على حد تعبيره، وهي لحظة تتجدد دائما مع الله ومع الإنسان.
ومع ذلك نجد الأمير عبدالقادر يؤكد في الموقف 44 على ضرورة التمسك بالأسباب باعتبارها من آداب العارفين، “فالعوائد الجارية والأسباب العادية ثبّتها الله” والعارف لا ينفيها وإنما يرفع الحكم عنها لأنه يشهد الحق فيها ولأنها، أي الأسباب، لا تأثير لها في شيء مما جرت به العادة، وبالتالي الفاعل الحقيقي هو الله. فهو إذن يدعو للأخذ بالأسباب الخارجية في تداخلها أو جدليتها مع الغيب.
أما الحدث التاريخي في لحظة الأمير الصوفية فيدل على ما يسمى في اصطلاح الصوفية بالقراءة القرآنية أي الجمع أو الجدل بين الظاهر والباطن، بين الغيب والشهادة أو الحق والخلق، ومن هنا تنتقل قوانين الطبيعة من عالم الحس إلى عالم الخيال وهو خيال مبدع للمعنى على غرار الخيال الذي يتصف به كل فنان من رسامين ونحاتين وغيرهم، غير أنه يعود إلى الفرق (الفرقان) أو ما يسمى بمشاهدة الكثرة بعين الوحدة، ومن هنا تتضح لنا حياته الاجتماعية والسياسية ومشاركته في كل مستلزمات الحياة.
وكانت قراءته تقوم على ما يسمى عند المتصوفة بالفتح الرباني أو الكشف، إذ كانت الآية القرآنية تأتيه تلقيا أو عبر الرؤيا أو الواقعة كما كان يسميها، وهذا بإمكانه أن يساعدنا على فهم ما يبدو مفارقات في تعامله خاصة مع الأوربيين آنذاك. والآية القرآنية هنا عبارة عن إشارة بالمعنى السيميائي، فهي ذات دلالة رمزية يستبطن معناها أي يؤولها وفقا للمضامين التي تحملها. و من خلال ما يستوحيه من هذه الإشارة يتعامل مع الخلق كله بالإقدام أو العزوف.
لقد قدم لنا الأمير عبدالقادر باعتباره متصوفا وفيلسوف تاريخ ما يمكن أن نسميه شبكة مفاهيمية يتم بواسطتها قراءة التاريخ وقراءة الحدث التاريخي. والتاريخ عند الأمير من الناحية الميتافيزيقية عبارة عن دورة وجودية أساسها أسماء الله الحسنى المنبثقة عن الأسماء العامة وهي : الأول والآخر، الظاهر والباطن. هذه الثنائية أو الجدلية بين المطلق والنسبي التي تجعل العالم أو الوجود هو اسم الله الظاهر، وهذه الثنائيات أو المفارقات الشبيهة بالثنائيات الموجودة في القرآن الكريم –والتي تميز الخطاب الصوفي كله- لا يمكن استيعابها -حسب الأمير عبدالقادر- إلا في إطار الدورة أو الدائرة، فلا يمكن الحديث عن أول وهو آخر وعن ظاهر وهو باطن إلا ضمن هذه الدورة التي بدايتها عين نهايتها، وبالتالي الوجود عبارة عن دورة نِهَايَتُها عين بدايتها وفقا للآية القرآنية “كما بدأكم تعودون”.
هذه الشبكة تسمح لنا بفهم ما يبدو من تناقضات في سيرة الأمير عبدالقادر من خلال المشكلات التي تركها مساره التاريخي من ُمحارِب للاستعمار إلى أسير ومحاوِر للغرب، أو ما سماه البعض التعايش الحضاري أو الثقافي بل اعتبره البعض “صديقا لفرنسا”. إذن، من خلال ما سميناه بالشبكة المفاهيمية التي قدمها لنا الأمير، يمكننا تبيان علاقة كل ذلك بمواقفه الفكرية والمعرفية، وهي المواقف التي وإن كانت تبدو من المفارقات غير أن الأدبيات الصوفية تجعلها موازية للثنائيات الموجودة في القرآن الكريم والمتمثلة في صفات الخالق، وبالتالي نحن أمام خطاب صوفي مبني على الجمع بين التناقضات أو ما يسمى في هذه الأدبيات بالقرآن والفرقان أي الجمع والتفريق.
في تجربته الأنطولوجية، نجد الأمير يتمثل اللحظة من خلال الجمع بين المفهوم والمعيش أي يتمثل الحدث تمثلا ذاتيا، ولهذا لا يتمثل اللحظة بآنيتها وإنما يبدع معناها من خلال القدرة التأويلية التي تجعله يحول الأشياء إلى أضدادها، فرؤيته ليست رؤية الفلاسفة ولا المتكلمين ولا حتى الفقهاء، وكلهم في رأيه يكتفون بالظاهر من الأشياء، بل رؤية الصوفية الذين يستبطنون الأحداث ويخرجون الضد من الضد في صورة متكاملة.
وهذا يفسر لنا إلى حد ما مختلف المواقف التي عاشها الأمير في مختلف مراحل حياته وكيف أنه كان دائما في عمق الحدث. فمثلا، في حضوره تدشين قناة السويس نظر إلى هذا الحدث الدنيوي المحض ومزاياه بنظرة صوفية باعتباره برزخا أرضيا يمثل مرآة لمحور العالم، وكأنه –على حد تعبير برونو إيتيان- يريد أن يضم السماء إلى الأرض من أجل المصلحة الكبرى لكل الناس.
كما يجعلنا هذا نفهم تفسير الأمير عبدالقادر للتفوق المادي للغرب، وهو يتساءل عن الحكمة الإلهية من تلك الحداثة الغربية ذات الطابع المادي، أن الأسماء الإلهية تؤثر مباشرة في العالم الظاهر وهذا التفوق الغربي دليل على تعدد وتغير الأسماء الإلهية “فالمخلوقات آثار الأسماء الإلهية المؤثرة وعلامة على تجليات الحق فهو المضل والهادي والمعز والمذل”؛ ومن جهة أخرى نجده يأخذ بالسنن الكونية أو الإلهية في الوقت ذاته حين يفسر هذا التفوق المادي وتأثر المسلمين بالغرب، في كون المغلوب دائما ينظر إلى الغالب بعين الكمال فيقتدي به في كل شيء ويتكلم بلسانه.
وهكذا، فإنه كما وجهت الشبكة المفاهيمية الصوفية سلوك الأمير عبدالقادر وسيرته الذاتية، وجّهت أيضا فكره الفلسفي والتاريخي، أي رؤيته للعالم.
بيبليوغرافيا:
– الأمير عبدالقادر الجزائري. (2004)، المواقف الروحية و الفيوضات السبوحية، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، بيروت، دار الكتب العلمية.
– الأمير عبدالقادر. (1976)، ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، تحقيق ممدوح حقي، القاهرة، مكتبة الخانجي.
الأمير عبدالقادر. (1989)، المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد، الجزائر، دار الطاسيلي للنشر والتوزيع.
-ابن عربي، محيي الدين. الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، لبنان، د. ت.
-ابن عربي. (1986)، الفتوحات المكية، تحقيق عثمان يحيي وإبراهيم مذكور، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب.
-بن الأمير عبدالقادر، محمد. ( 1964)، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبدالقادر، تحقيق ممدوح حقي، الجزء الأول والثاني، ط 2، بيروت، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر.
– برونو، إيتيان. (2001)، عبدالقادر الجزائري، ترجمة ميشيل خوري، ط2، دار الفارابي
– بن بريكة، محمد. (2006)، التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان، الجزائر، دار المتون للنشر والترجمة والطباعة والتوزيع.
– الجابري، محمد عابد. (2004)، بنية العقل العربي، ط09، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
– عبد الرحمن، طه. (2000)، العمل الديني وتجديد العقل، ط3، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي.
– كوربان، هنري. (2006)، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي، الرباط، مراسم للنشر.
Bensussan, G. (2001), Le temps messianique-Temps historique et temps vécu, Paris, Librairie Philosophique J VRIN.
Chodkiewicz, M. (1982), Emir Abdelkader, Écrits Spirituels, Paris, du Seuil.
De Courcelles, D. (dir.), (2007), Les enjeux philosophiques de la mystique, Actes du colloque du Collège internationale de philosophie, Paris, éd. Jérôme Million.
Echghi, L. (1992), Un temps entre les temps, (préf. de Christian Jambet), Paris, les éd. du Cerf.
Geoffroy, E. (2000), L’instant Soufi, Paris, Actes Sud.
Geoffroy, E. (2009), L’islam sera spirituel ou ne sera plus, Paris, du Seuil.
حواشي:
1 De Courcelles, D. (dir.), (2007) Les enjeux philosophiques de la mystique, Actes du colloque du Collège internationale de philosophie, Paris, éd. Jérôme Million, p. 366.
2 Abellio, R. (1982), Approches de la nouvelle gnose, Paris, Gallimard, p. 08.
3 De Courcelles, D. (dir.), Les enjeux philosophiques de la mystique …, op.cit., p. 367.
4 إيتيان، برونو .(2001)، عبدالقادر الجزائري، ترجمة ميشيل خوري، ط2، بيروت، دار الفارابي.
5 بهادي، منير. )2007 (، التجربة الوجودية في الخطاب الصوفي : مقاربة تأويلية لفلسفة الخلاص في الإسلام، أطروحة دكتوراه دولة، إشراف أ. د. محمد عبد اللاوي، قسم الفلسفة، جامعة وهران.
6 De Courcelles, D. (dir.), Les enjeux philosophiques de la mystique …, op.cit., p. 15.
7 Ibid., p. 56.
8 Ibid., p. 17.
9 عبد الرحمن، طه. (2000)، العمل الديني وتجديد العقل، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط3، ص. 66.
10 مرابط، جواد. (1966)، التصوف والأمير عبدالقادر، دمشق، دار اليقظة، ص. 89.
11 الأمير عبدالقادر. (2004)، المواقف الروحية و الفيوضات السبوحية، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، بيروت، دار الكتب العلمية، ص. 118.
12 سورة النور، الآية 35.
13 الأمير عبدالقادر، المواقف، ص. 120.
14 كوربان، هنري. (2006)، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي، الرباط، مراسم للنشر، ص. 173.
15 الأمير عبدالقادر، المرجع السابق.
16 سورة الإسراء، الآية 84.
17 الجابري، محمد عابد. (2004)، بنية العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،ط9، ص. 355.
18 اعتمدنا على مصدرين : ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت، دار صادرن د. ت. والثانية : ابن عربي (1986)، الفتوحات المكية، تحقيق عثمان يحيي و إبراهيم مذكور، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب.
19 الجابري، مرجع سابق، ص. 352.
20 المرجع نفسه.
21 Echghi, L. (1992), Un temps entre les temps, (préf. de Christian Jambet), Paris, les éd. du Cerf.
22 الجابري، مرجع سابق، ص.356.
___________________________________
*نقلًا عن موقع ” إنسانيات”- المجلة الجزائرية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية.