فنون و آداب

رؤى التصوُّف في جماليَّات الفنون

رؤى التصوُّف في جماليَّات الفنون

 

 الخط العربي يتسامى إلى بصيرة تجسدها دلالات فنية لفك رموز صوفية أفرزتها ذات عقائدية.

 عملية البناء التشكيلي في عالم صوفي لا تسلك مسارات النشوة لبلوغ أوج ذروتها.

يضعنا الفن أمام تساؤل: هل يتعالى صرح الجمال بمضمون شكل دنيوي، أم يتجلى في علاه بتأمل صوفي؟
هل نرى الحقيقة بالعين .. أم بقدرة العقل الباطن؟
عملية البناء التشكيلي في عالم صوفي لا تسلك مسارات النشوة لبلوغ أوج ذروتها، فالصوفية إن لم تكن في الرؤية الإسلامية مذهبًا له شرائعه وأحكامه، فهي مذهب في المبدأ الجمالي المعاصر، يجسد رؤاه بأدوات الفن الحديث في الفنون والموسيقى والتشكيل والمسرح، رغبة في الإرتقاء لمقام الرؤيا الأعلى في:
“أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
لتنتهي المسارات برؤاها الجمالية المتصوفة عند الله جل وعلا، إثر بلوغ أعلى مراحل النقاء، يصل إلى الله عبر مخاض شخصي ذاتي بعيدا عن قوانين فكر وضعي، نفس تتربى على قيم السماء، وقلب يتطهر من الدنس الوضعي. وتضحى الصوفية التي تتجلى في “حروفيات عربية” تزكية لفعل ذاتي، صار له شكل في أبجدية لغوية، تحاكي الصفاء المنشود.
وتمتد الحروفيات في عمق الكون الخارجي مجسدة الروح الصوفية في التعاطي مع التقنيات التشكيلية، الخالقة لأشكال بصرية بمضامين غيبية، في فلسفة تجريدية، يرى فيها التجريدي الأشياء كما لا يراها أحد.

خصائص جمالية

والتجربة الصوفية أنتجت مخلوقات جمالية تلتقي بأبعاد، يتسامى فيه الخط العربي إلى بصيرة تجسدها دلالات فنية لفك رموز صوفية أفرزتها ذات عقائدية اعتادت أن تمارس طقوسها في فرائض يومية تحت قبة السماوات العلا.
أخذ الحرف العربي خصائصه الجمالية في مبدأ المطلق “ثابت .. لا يخضع لاستثناءات دنيوية”، وصاغ مبادئ مذهب فني يوظف حروفه الأبجدية في إنجاز مكونات تطلق المعنى الغيبي المقدس في امتدادات حروفية، تؤسس نوعا مغايرا لمشهد بصري يحاكي واقعا مرئيا لا يرتقي إلى الكمال.
ويقف الفنان فوق أحد مرتكزات العالم التشكيلي، وهو يخوض في تجاربه التشكيلية رغبة في الارتقاء بجماليات الحرف العربي عبر توظيف حدس تجريدي، تتجلى فيه بناءات حروفية بحركة نحتية لرؤية ذاتية تأخذ أشكالها المرئية في لوحات خطية تعددت أبعادها المؤثرة بمضامين قدسية.
وتمتد الحروفيات في عمق الكون الخارجي مجسدة الروح الصوفية في التعاطي مع التقنيات التشكيلية، الخالقة لأشكال بصرية غيبية، في فلسفة تجريدية، يرى فيها التجريدي الأشياء كما لا يراها أحد.
والحدس في بناءات حروفية ليست من البساطة في شكل، فقد صاغت أشكالها ومضامينها في مختبرات تشكيلية، عناصرها الريشة واللون والخامة التي تتآلف في إنجاز بناء فني، هو نتاج لقدرة فنان يرى الأشياء بعينين مغمضتين ليتلمسها بإدراك صوفي يمنح الغيبي شكل الحدس.
الحدس هو “الطريقة التي يتواصل بها العقل الباطن مع العقل الواعي من أجل التوصل إلى الحقيقة الغيبية”.
والتجربة الصوفية أنتجت مخلوقات جمالية تلتقي بأبعاد، يتسامى فيه الخط العربي إلى بصيرة تجسدها دلالات فنية لفك رموز صوفية أفرزتها ذات عقائدية اعتادت أن تمارس طقوسها في فرائض يومية تحت قبة السماوات العلا.
نظريات “فلسفة” الجمال في الفكر الديني
الجمال المطلق هو المبتغى في الفن الذي يرتقي به الفكر الديني درجات في سلم الإدراك العقلي.
المطلق يرفض المحاكاة نهجا يسعى نحو بلوغ لذة حسية زائلة، لا ترتقي لقيم مثالية عليا،  وهي ترتقي بجماليات الشكل الذي لا تتجاوز مؤثراته حدود إثارة الحواس.

حروفيات مؤطرة بزخارف مذهبة

تعددت نظريات الجمال، وتنوعت رؤاها الفلسفية، والفكر الديني يأخذ النظرية الأقرب من نبع التدفق الإلهي، وتجسيد تجلياته الروحية في قانون مطلق.
الفيثاغوريون رأوا أن التجانس الرياضي، هو قانون التحكم بالظواهر الجمالية، فالجمال نسب وتوافقات رياضية، على قدر من الدقة يتجلى فيه المظهر وبنيته.
أما الفلاسفة الإغريق، فالجمال بات خاضعا لتأملاتهم الفلسفية، التي شرعت أبواب الجدل حول القاسم المشترك في مضمون الجمال.
هذا سقراط يرى الجمال شرطا في بلوغ الغاية المراد الوصول لها، في إعلاء قيم الخير والحق والأخلاق، دون الوقوع في فخ لذة حسية لا تمتلك شرط البقاء بعد الصعود إلى ذروة الإثارة.
أفلاطون يعتقد أن اللذة الجمالية تأتي من تذوق جمال الشكل المعبر عن المثل العليا، هذا الشكل الذي لا تشوبه النواقص، ولا يتأثر بالمتغيرات، وجمال الشكل المقصود، لا يعني جمال تصوير الكائنات الحية، فهو يشترط التجانس الرياضي، في خطوط مستقيمة ودوائر وزوايا ومسطحات، وفق أحجام تحددها الأدوات الهندسية، لضمان جمال مطلق، لا نسبي مثل الأشكال الأخرى.
لكن أرسطو يقف عند حدود عالم الحواس، فهو المؤمن أن الجمال ليس له عالم فوق الحواس، فالجمال نراه من حولنا، ويدعو إلى محاكاته وتقليده، بألوان لها القدرة على التناسق.
ويذهب الفيلسوف اليوناني أفلوطين “أبعد مما وصل إليه أولئك الفلاسفة، حين يجرد الجمال من أي مضمون دنيوي، فهو في نظره تأمل صوفي، باعتباره حقيقة إلهية عليا، له خصائص نورانية، لا يتصف بها إلا الله”. الله هو الخير المطلق الذي يبعث الجمال بطبيعته النورانية التي تدركها الروح دون سواها، أما الحواس فلا تدرك سوى إيماءات الجمال وظلاله.
آمن أفلوطين بأن كل عنصر دنيوي هو صورة فقيرة أو زائفة لمثيله الحقيقي الأعظم والأسمى، وحياته كانت مثالاً للروحانية والفضيلة.
ولم يشذ الفكر الحديث عن تلك الحقائق النظرية، إذ أكد هيجل أن أسمى درجات الجمال حين يتحقق المضمون الروحاني الباطني، ويلتقي معه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي اعتبرت آراءه تتعارض مع علمانية الجمهورية الفرنسية، في القرن العشرين بإطلاق حقيقة أن الجمال لا يدرك إلا عن طريق الحدس، فهو يتجاوز النظرة العلمية المنهجية، هو ينبع من القلب لا من العقل.
لقد وجد الفكر الديني مبتغاه في نظريتي افلاطون وافلاطين، في سعيه لبلوغ المطلق في تجسيد مضامين الجمال الذي تدركه الروح.
ارتقت نظرية الجمال في الفكر الإسلامي برؤى العلامة الصوفي أبو حامد الغزالي: “حين تتغلب البصيرة الباطنة على الحواس الظاهرة يكون الإنسان أشد إدراكا للجمال ومعانيه الباطنية، فأما الحواس فإدراكها شكلي ظاهري”.
حروفيات مؤطرة بزخارف مذهبة، تطلق ذبذباتها اللونية بفيض من المعاني الروحية، إدراكًا لأعلى قيم الجمال الباطني في طريق توحد الروح مع الله.

__________________________________________

*نقلًا عن موقع ” ميدل إيست أونلاين”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى