حوارات

حوار مع الروائي المغربي عبد الاله بن عرفة الرواية العرفانيَّة في مسيرتها نحو آفاق عالميَّة

عبد الحي كريط

حوار مع الروائي المغربي عبد الاله بن عرفة الرواية العرفانيَّة في مسيرتها نحو آفاق عالميَّة

عبد الحي كريط

عبد الإله بن عرفة إسم أشهر من علم من مواليد مدينة سلا  المغربية، روائي وباحث في التراث والتاريخ والتصوف له العديد من الإنتاجات الأدبية ذات الطابع العرفاني من أبرزها:

“جبل قاف”، 2002

“بحر نون”، 2007

“بلاد صاد”، 2009

“الحواميم”، 2010

“طواسين الغزالي”، 2011

“ابن الخطيب في روضة طه”، 2012 وهو موضوع هذا الحوار

“جبل قاف حول سيرة ابن العربي الحاتمي”، 2013

“ياسين قلب الخلافة”، 2013

“طوق سر المحبة، 2015

“الجنيد: أل”م المعرفة”، 2016

كما له نتاجات أدبية ونقدية أخرى منها كتاب حول علم الدلالة ونشأة المفاهيم في اللغات” (باللغة الفرنسية)، 1997

الشهاب موعظة لأولي الألباب لابن سيدبونة الخزاعي الأندلسي (524-624 هـ)” (دراسة وتحقيق)، 2005

جماليات السرد في الرواية العرفانية”، 2014

أبو الحسن الششتري، سيرته، وآثاره ومذهبه” (ضمن كتاب “التصوف المغربي، مصدر إشعاع وتواصل، أعمال مهداة للأستاذة نفيسة الذهبي)، 2015 .

ونظراً لدوره المحوري في خدمة التراث، حصل بن عرفة على العديد من الجوائز والتكريمات على المستويين الدولي والعربي ورواية ابن الخطيب في روضة طه تعتبر نموذجاً لربط الماضي بالحاضر باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة التاريخية التي تؤرخ لفترة مهمة في الأندلس والمغرب من خلال أبرز الشخصيات في التراث الإسلامي والإنساني وهو  لسان الدين بن الخطيب الذي قال عنه معاصره ابن خلدون «آية من آيات الله في النظم والنثر والمعارف والأدب، لا يُساجل مداهُ، ولا يُهْتدى بمثل هُداه»

هذا ما سنحاول مناقشته مع الضيف د عبدالاله بن عرفة ليكشف لنا بعضا من لمحات أسرار هذه الرواية الساحرة القابعة على ضفاف الذاكرة بكل أفراحها وأتراحها.

* كيف ترى واقع الرواية العرفانية في ظل العولمة ؟

– الرواية العرفانية مشروع أدبي جديد في السرد العربي ارتبط نشأةً وتسميةً وتنظيرًا مع هذه التجربة التي أطلقتها في بداية الألفية الثالثة. فمن رأس الألفية الثالثة نشأ مشروع الرواية العرفانية، ولا أخفيك أن إرهاصات هذا المشروع قد وجدت في أعمال سابقة إلا أنها كانت إرهاصات متفرقة ولم يكن هناك وعي كامل بما يمكن أن يمنحه العرفان من آفاق غير مسبوقة في تجديد السرد الروائي عربيا وكونيا. لقد حمل مشروع الرواية العرفانية على عاتقه قراءة التاريخ العربي الإسلامي روائياً منذ نشأته إلى اليوم، وهذا ليس بالأمر الهين لما يتطلبه هذا الاشتغال من عُدَّة فكرية وإحاطة علمية وبحث طويل وخيال خلاق ومعرفة بالنفس البشرية، ولغة أدبية سامية وذوق جمالي يؤديان كل ذلك في شكل روائي. الرواية العرفانية بهذا المعنى تلج إلى العولمة من هذا الباب الأدبي العريض لتؤكد على أننا جزء من هذه العولمة، وأن تاريخنا هو تاريخ إنساني عظيم، وأن أدبنا هو من الآداب الكونية التي ستبقى في رصيد الأدب العالمي. إنه طموح كبير وعلى الإنسان أن يجعل همته عالية وأن لا يرضى بالمراتب الدَّنيَّة لأن القول القرآني والكلمة القرآنية حاكمة على غيرها ﴿ولله العزة ولرسوله وللمومنين﴾. وبمقتضى هذه الآية، فنحن لا نرضى أن تنحطَّ مرتبةُ الأدب العربي عن غير هذا الأفق الإنساني الكوني. الرواية العرفانية أقدر من غيرها على معالجة الأزمة الإنسانية الحالية المنفلتة من أي ضوابط أخلاقية، والغارقة في فراغ روحي كبير قد يؤدي إلى “موت الإنسان”.

* كيف تنظرون إلى مستقبل الرواية العرفانية في العالم العربي أمام تعدد الأصوات الروائية وقلة الاهتمام الإعلامي ؟

– العرفان جزء أصيل في الإنسان لأنه ثمرة المعرفة المتخلقة عن تجربة روحية وجدانية. إنه معرفة ذوقية مبنية على شهود الآيات وتحقق بالبينات. حينما يتحد العارف والمعروف فذلك هو العرفان كما أفهمه. مستقبل الرواية العرفانية أصبح اليوم أفقًا سرديا وفلسفيا وروحيا يسعى إليه كثير من المبدعين والروائيين. بل إن الأمر لم يعد منحصرا في الرواية وانتقل إلى الشعر والفلسفة والتشكيل والموسيقى لأن العرفان كما بينت أعلاه يخاطب في الإنسان شيئًا عميقا، ولا ينحصر في شكل بعينه بل يخترق الوجود الإنساني برمته. وقد اخترت التعبير عن هذه المعرفة الذوقية عبر بوابة الأدب لأن الرواية هي أقدر الأجناس الأدبية على توصيف كل تعقيدات الحياة.

أما الإعلام الذي تحدثتَ عنه فهو قد سَجَنَ نفسَه في حيز السياسة بمفهومها السطحي في استهلاك الأخبار المتناسلة التي ينسخ بعضها بعضًا بسرعة البرق. سابقا كان لدينا إعلام ثقافي رصين، وكان كبار الأدباء يساهمون في ازدهار صحافة أدبية، وكان كُتاب العمود من أبرز الأدباء. أما اليوم، فإن هذا أمر عزيز. إن أزمة الإعلام الحالية ستؤدي إلى موته لا محالة حيث دخلت على الخط وسائل التواصل الاجتماعي التي دلَّست على الكثيرين أن بإمكانهم أن يصبحوا إعلاميين دون ثقافة ولا تكوين ولا معرفة بأخلاقيات المهنة. لقد اختفت كثير من الجرائد والمجلات وعوَّضتها المواقع الإلكترونية، وكثر التدليس والخداع والأخبار المزيفة والتزوير والصور الملفقة، وتسبب ذلك في انعدام الثقة مع القُراء، وأطاح بما كان يسمى السلطة الرابعة. أعتقد أن مستقبل الإعلام لن يصلح بالجري خلف السرعة وملاحقة الأخبار وصناعتها، بل بتقديم تحليل رصين وأدوات للتفكير فيما يُسَتَجَدُّ من وقائع. إن على الإعلام الرصين أن يرتبط بالثقافة والأدب ويُفْرِدَ لهما حيزا كبيرا حتى يرتقي بأذواق الناس ومعارفهم وقدرتهم على تحليل الأشياء وتكوين الحس النقدي البناء.

هذه هي شروط نهوض إعلام متصالح مع الأدب ومع الأعمال الأدبية الكبرى. السرعة قتلت لدى المشتغلين في هذا الإعلام الجديد، أي قدرة على قراءة الأعمال الروائية والأدبية والفكرية بصفة عامة، فأنتجت لنا إعلاميين مزيفين لغتهم ضحلة وثقافتهم سطحية ولا دراية لهم بالإبداع. كي تكتب عن الرواية العرفانية أو غيرها من الأعمال الأدبية الرصينة ؟ ينبغي أن تقرأها أولا وتعرف أبعادها ودلالاتها وجماليتها. المشكلة في نظري ليست في الإعلام، فهو اليوم صورة عن هذا التسارع المرضي في زمن الأشياء بما لا يترك مسافة للتفكير والتأمل وإنتاج المعنى. الأشياء الكبرى ينبغي أن تتخلَّقَ في رحم المعاناة، ولا تأتي بالإكراه.

إن ما يشغلني أكثر هو الصناعة السينمائية في بلداننا التي لم تربط، بما فيه الكفاية، مصيرَها بالإبداع الروائي. انظر مثلا إلى الصناعة السينمائية في الهند والغرب عمومًا، وأمريكا خصوصًا، وكيف صنعت أساطير جديدة وتاريخا جديدا شغل الناس وملأ الدنيا، رغم أن أمريكا قارة حديثة وتاريخها قصير، وليس لديها تراكم ثقافي ورصيد حضاري كما في منطقتنا التي صنعت الحضارة الإنسانية، ففيها ظهرت الأديان الكبرى والحضارات العظمى، وفيها اكتشف الإنسان الكتابة ودرج على سلم التاريخ والحضارة.  ومع ذلك فقد أصبحت أمريكا بصناعتها السينمائية جزءًا من الحضارة الإنسانية المعاصرة. لقد ارتبطت السينما الأمريكية بالرواية وأنتجت أفلاما تاريخية كبيرة، بل لقد وظفت تراثنا، وقدمته بشكل مُشَوَّه. انظر إلى ألف ليلة وليلة، وكيف أن حكاية علاء الدين وسندباد وشهرزاد وغيرها قد أصبحت في حُلَّة غربية. فماذا لو اشتغل السينمائيون العرب بما كتبناه من أدب رفيع عن ابن العربي والغزالي والجنيد ومولاي إدريس والششتري وابن حزم وابن الخطيب وابن خلدون ومن سواهم. لو قُدِّرَ ذلك لكان لنا موقع تحت الشمس بين الأمم، لكن لا حياة لمن تنادي. وما دور المؤسسات الداعمة للإنتاج السينمائي؟ وما دور الجوائز العربية في تشجيع المشاريع الأدبية والتوجه نحو هذا السبيل ؟ أليس حَرِيًّا بها أن تجعلَ من شروط الحصول على الدعم الاشتغالَ بتشبيك العلاقة مع الإبداع الروائي الرصين الذي يقدم حضارتنا وتاريخنا بالشكل اللائق، لا في تلك الصورة النمطية المشوهة والمنقوصة التي يُعْرَضُ بها في غالب الأحيان. لقد ازدهرت السينما المصرية في القرن العشرين لأنها اشتغلت بأعمال كبار الأدباء والروائيين وحوّلتها إلى أفلام سينمائية، وهو استثناء يؤكد القاعدة، لأن الأفلام العربية التي تنتج اليوم تخضع لمنطق تجاري صرف، وتدغدغ المكبوتات المختلفة تحت إملاءات داخلية أو خارجية تسعى إلى الإثارة بدل الاستنارة. وقل نفس الشيء في الأغنية التي تم اختطافها هي الأخرى وخضوعها إلى ديكتاتورية الفيديو كليب أو أفلام الأغنيات التصويرية، وإكراهات السرعة دون عمق ولا إبداع طربي ولا تلحين جمالي ولا كلمات عميقة معبرة تمتح من المدونة الشعرية العربية الزاخرة. ولاحظ معي أني قلت “كلمات” جريًا على الاستعمال الرائج حاليا، ولم أقل “شعر”، علما بأن الموسيقى في الساس مرتبطة بالشعر، لكنها انفصلت عنه وارتبطت بكلمات مفككة سطحية. طبعًا لا أتحدث عن الاستثناءات، فهي كلها تؤكد هذه القاعدة العامة. هذه هي القضية، فهل من مُنْصِتٍ عاقل حكيم ؟

* ما الفرق بين الرواية العرفانية والرواية التاريخية؟

– سبق أن أجبت عن هذا السؤال في مناسبات سابقة، لكني أقول مرة أخرى، إن الكتابة الروائية في مشروع الرواية العرفانية تتميز بتوظيفها للتاريخ والعرفان معًا. فكيف يتم التعامل مع كل من العرفان والتاريخ في السرد الروائي لهذا المشروع ؟ إن المؤرخ يعتمد على المادة الخبرية فينتقد الأخبار ويدقق في صحتها ثم يقوم بتنظيمها ضمن نسق الكتابة التاريخية. أما بالنسبة للروائي الذي يكتب الرواية التاريخية، فهو يمزج الأحداث والوقائع التاريخية وفق قواعد تختلف عن شكل تعامل المؤرخ مع المادة الخبرية. هذه الرواية التاريخية تنسج أحداثا متخيلة انطلاقًا من أحداث تاريخية، وتختلق شخصيات متخيلة بجوار شخصيات تاريخية. الضابط الذي يحتكم إليه الروائي الذي يكتب الرواية التاريخية هو أن المادة التاريخية المشكلة بواسطة السرد لا يمكن أن تنضبط بشرط المطابقة للمرجعية التاريخية كما هو الأمر عند المؤرخ. والسبب راجع إلى كون الروائي لم يعد يشتغل بوقائع تاريخية بمعناها الوصفي التوثيقي، بل إن الروائي يوظف تلك الوقائع التاريخية لتخدم أغراضًا تخييلية وجمالية ورمزية، ولهذا يحصل للقارئ تماهٍ مع الرواية ولا يشعر بالفارق الزمني كما في الكتابة التاريخية.

* الرواية العرفانية كانت بالنسبة لك عبارة عن تأسيس لمشروع روائي وحضاري انطلاقا من التراث والذاكرة والتاريخ، هل يمكن لك أن توضح  لنا هذه النقطة بإيجاز؟

– لقد أجبت أعلاه عن هذا السؤال بشكل أو بآخر، لكني أعود فأقول، إن هذا المشروع السردي العرفاني يزخر برؤية حضارية وجمالية كبيرة وطموحة كما ذكرت. فليس من اليسير أن ينهض مشروع روائي بقراءة التاريخ العربي الإسلامي منذ بدايته إلى اليوم. ومما يزيد هذا الأمر تعقيدًا هو أن يعرض هذا التاريخ من خلال السيرة الفكرية والحياتية لمجموعة من القامات الفكرية والروحية الكبرى مثل ابن العربي الحاتمي، والششتري وابن سبعين، وابن حزم، والغزالي، وابن الخطيب وابن خلدون والجنيد وغيرهم. فمثل هذا العرض يقتضي الإحاطة الفكرية بمجمل أعمالهم ومعرفة مختلف الصراعات الفكرية والنقاشات العلمية التي جمعتهم مع خصومهم، إضافة إلى تقديم المرحلة التي تتحدث عنها الرواية في مختلف مظاهرها الحضارية من لباس وعمارة وفنون. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل خاضت الرواية العرفانية في دوائر حضارية متنوعة في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا والشرق الأدنى والأوسط وآسيا. وتعرضت لتاريخ الدولة الأموية والعباسية والمرابطية والموحدية والعثمانية والفاطمية والأيوبية والسلجوقية وغيرها في هذه المناطق، وللحواضر التي كانت مسرح تلك الأحداث التاريخية مثل فاس ومراكش وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وتلمسان والقيروان والقاهرة ودمشق ومكة والمدينة وإستانبول وغيرها. هذه بعض العناصر التي يحملها طموح مشروع الرواية العرفانية، ناهيك عن العمق الروحي والاشتغال على اللغة في سموها وفرادتها، وعلى النفس البشرية في تلاوينها وتعقيداتها.

* ابن الخطيب في روضة طه هي مثال للرواية القابعة على ضفاف الذاكرة بين الضفتين بكل أفراحها وأتراحها. ما مدى صحة هذا التوصيف؟

– نعم هي رواية برزخية تجمع بين ضفتين وثقافتين ومجالين كان لفترة مجالا موحَّدًا، وأضحى مع حروب الاسترداد يفقد تميزه ونبوغه وفرادته الإنسانية الاستثنائية. إنها رواية تشبه ما يسميه العارفون بالمواقف، وهي مناطق استراحة ومقامات برزخية يدخلها العارف فيتحقق بعلومها إجمالا قبل أن يحصل له بها علم تفصيلي. إنها محطة استراحة وتقييم مرحلي وترويح وتأمل تمكن من استيعاب ما حصّله العارف سابقا، واستشرافه لما سيقبل عليه لاحقا. رواية ابن الخطيب هي من هذا النوع، هي رواية من هذه المنطقة الوسطى التي لا وجود لها إلا بالاعتبار لا على الحقيقة، فهي تشبه الزمن الحاضر بين الماضي والمستقبل. عنوان هذه الرواية عنوان دال، فالروضة تحيل على روضة الأندلس لكنها تتعداها لتصبح روضة مرتبطة بفاتحة نورانية هي “طه”، وهي كلمة قرآنية. فهذه الروضة من عالم آخر، ابن الخطيب هو بين روضتين: روضة الأندلس وروضة طه. إنها رواية عبور بين عالمين، والمبدع الحقيقي هو مسافر عابر بين الثقافات والحضارات والأزمنة والأمكنة.

* ماذا يمكن أن نستفيد من تجربة لسان الدين بن الخطيب في وقتنا الحاضر؟

– ابن الخطيب من طينة أولئك الرجال الذين لا يَفْنَوْنَ ولا يموتون. إنه باقٍ معنا وتجربته تُغنينا وتصاحبنا في حياتنا. لم ينعم ابن الخطيب بالراحة إلا لما استقر في خلوته في مدينة سلا حيث خاض تجربة روحية سامية بقرب شيخه ولي الله الحاج أحمد ابن عاشر الذي كان أوحَدَ زمانه في الزهد والمعرفة بالله. لقد جاء ابن الخطيب إلى سلا بعد انقلاب سياسي أطاح بالسلطان محمد الخامس بن يوسف النصري ودفعه إلى المنفى مع وزيره ابن الخطيب إلى مدينة فاس في المغرب، لكن لسان الدين ترك مدينة فاس وجاء إلى مدينة سلا ليلازم هذا الشيخ العارف ويسلك على يديه. وقد كان ينوي أن يذهب إلى الحج لكن السلطان استعاد ملكه، فطلب من وزيره ابن الخطيب أن يعود إلى الخدمة والمشورة بجانبه. تعلل ابن الخطيب عدة تعلات لكنه لم يستطع أن يتهرب من إلحاح السلطان عليه في عودته إلى الوزارة، ولم يتمكن من أداء فريضة الحج التي كان ينوي أن يقوم بها. هذه الخلوة السلاوية هي التي أثمرت عند ابن الخطيب لاحقا كتابه “روضة التعريف بالحب الشريف”، وهو كتاب استعرض فيه كل ما قيل في المحبة عند جميع الفلسفات وأهل الحكمة والتصوف والمعرفة. هذه المحبة التي افتقدها بوفاة زوجته في مدينة سلا لا شك أنها هي التي أثمرت شجرة المحبة في هذا الكتاب الذي سيستغل أعداؤه بعض نقولاته عن أصحاب بعض المذاهب ليلفقوا له تهمة الزندقة زورًا في محاكمة صورية لم تفلح، فقاموا باغتياله خنقا ثم إخراجه من قبره وإحراقه، وسُمِّي الباب الذي دفن خارجه بـ “باب المحروق”.

لقد عرَّفت بهذه النهاية المأساوية، وعقدت منظمة الإيسيسكو ندوة برعاية ملكية سامية، بالتعاون مع سلطات مدينة فاس وجهات أخرى بتاريخ 15-16 نونبر 2013، وذلك احتفاء بمرور الذكرى المئوية السابعة على ولادته، ونجحنا ولله الحمد في تغيير اسم الساحة التي كانت تحمل اسم “ساحة باب المحروق” فأعيد تسميتها بمناسبة عقد هذه الندوة المباركة “ساحة لسان الدين ابن الخطيب”، ورُمِّمَ ضريحه بالتعاون مع سلطات مدينة لوشا Loja  المدينة الأندلسية التي ولد فيها.

* هل هناك رسائل ضمنية وصريحة انبثقت من تجربة بن الخطيب المثيرة والمريرة لأهل السياسية وأهل الدين وحتى للمواطن العادي؟ كيف يمكن لنا أن نقرأها؟

– تعد تجربة ابن الخطيب مليئة بالعِبر والدروس للملاحظ العابر كما للمؤرخ ودارس الأدب والسياسي وكل مثقف يهمه تحرير المقال فيما بين السياسة والأدب من الاتصال. أهم رسالة يمكن استخلاصها من تجربة ابن الخطيب هو انتصاره لمنطق الوحدة مع المغرب بعد أن استقرأ مآل جزيرة الأندلس من موقعه كوزير في إمارة لم يكن يراهن على بقائها واستمرارها. كان يريد أن يحصن الأندلس من خلال تحالف هذه الإمارة النصرية مع المغرب، لكن أصحاب الإمارة ومن في محيطهم من المنتفعين، كانوا يفكرون بمنطق المصلحة الظرفية والأنانية الضيقة، ولم يفكروا أبدًا في مآلات مملكتهم في جوار مسيحي مُعادٍ سيكتسحها. كان ابن الخطيب يفكر بمنطق الدولة القوية وليس بمنطق الإمارة، لقد رأى ما حدث في السابق لملوك الطوائف الذين كانوا فريسة سهلة لأطماع الممالك المسيحية، ولم يخلصهم من مصيرهم البائس إلا دولة المرابطين العظيمة التي كانت تدرك طبيعة الصراع على خط تقاطع دائرة نفوذ الإسلام، ودائرة نفوذ المسيحية. كان الأندلس ساحة القتال في تدافع الدائرتين. سخّر ابن الخطيب الأدب والتاريخ والتصوف والسياسة لخدمة مشروع وحدوي، بينما كان خصومه يدافعون عن مشروع طائفي. واليوم ما زلنا نعيش نفس البنيات الذهنية بين منطق الدولة القوية ومنطق القبيلة أو الطائفة. وإذا كان ممكنا في الماضي أن تظهر إمارات صغيرة، فإن عصر العولمة لا يقبل إلا بالتكتلات القوية، فهل نستخلص هذه الدروس والعبر إقليميا وعربيا؟

لقد حاول ابن الخطيب أن يعتزل السياسة حينما ذاق حلاوة الخلوة الروحية التي عاشها في مدينة سلا، ومَنَّى النفسَ بأداء فريضة الحج، ولو قُيِّض له تحقيق تلك الأمنية لكان استقر في المشرق كما فعل تلميذه وصديقه ابن خلدون الذي استطاع أن يفلت بجلده من أحابيل السياسة ومكايدها، وتفرَّغ للعلم، فأهدانا المقدمة وكتاب العِبر. لو قُدِّر لابن الخطيب هذه الفرصة لكان مصيره مختلفًا، ولعله كان سيعيش حياة أخرى. لكن التاريخ لا يصنع بمثل هذه الاحتمالات. فأحياناً يؤدي العباقرةُ حياتهُم ضريبةً للحرية. سيبقى ابن الخطيب كوكبًا مضيئًا في سماء الأدب والفكر لم تنجب مثله الأندلس في تاريخها الطويل، لكنه كان أيضًا ترنيمة وداع وخاتمة الفردوس المفقود، وهذا ما تنبه إليه المقري في موسوعته “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذِكْرِ وزيرها لسان الدين ابن الخطيب”.

____________________________

*نقلًا عن موقع ” المدائن”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى