الدراسات والبحوث

الحقيقة الإنسانية في المدرسة العرفانية

د. فادي ناصر

الحقيقة الإنسانية في المدرسة العرفانية

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في جامعة المعارف – لبنان.

 

يقسم ظهور الحق وتعيُّنه إلى قسمين: تعيّن تغلب عليه أحكام الوحدة والبطون وهو التعين الأول، وتعين تغلب عليه احكام الكثرة والظهور وهو المسمى بالتعين الثاني.

ولما كانت الوحدة غالبة على الكثرة في التعين الاول بسبب ظهور القاهرية الاحدية والواحدية، وكانت الكثرة غالبة على الوحدة في التعين الثاني بسبب ظهور النفس الرحماني وتجليه في المراتب الخلقية من العقل والخيال والجسم، اراد الحق تعالى ان يظهر في مظهر جامع للكثرة والوحدة معا ليكون على صورته كما في الحديث:”ان الله خلق آدم على صورته([i]). وليكون مظهرا كاملا وتاما وخليفة حقيقيا له كما في قوله تعالى :﴿اني جاعل في الأرض خليفة([ii])، مظهرا يكون جامعا للحقائق الالهية والامكانية، اي جامعا لمرتبتي الجمع والتفصيل والوجوب والامكان، ليغدو بحق مظهرا للإسم الأعظم، وهذا الذي يصطلح عليه العرفاء بالحق المقيد الذي هو تجلي الحق المطلق، والانسان الكامل، والحقيقة المحمدية، وآدم، والكون الجامع…

يقول ابن تركة الأصفهاني في تمهيد القواعد:

“ان الوحدة الذاتية والهوية المطلقة لغلبة حكم الإطلاق فيها، لا يمكن أن يكون للتفصيل الأسمائي فيها مجال أصلا. وكذلك المظاهر التفصيلية التي هي أجزاء العالم الكبير أيضا لغلبة حكم القيود الكونية والكثرة الأمكانية فيها لا يمكن ان يكون للجمعية الإلهية التي هي صورة الوحدة الحقيقية فيها ظهور، فإقتضى الأمر الإلهي أن تكون صورة إعتدالية ليس للوحدة الذاتية فيها غلبة، ولا للكثرة الإمكانية عليها سلطنة، حتى تصلح لأن تكون مظهرا للحق من حيث تفاصيله الأسمائية، وأحدية جمعيته الذاتية، بسعة قابليتها وعموم عدالتها، وذلك هو النشأة العنصرية الإنسانية، إذ ليس في الإمكان أجمع من الإنسان لإحاطته بالمرتبة الإطلاقية الإلهية والقيدية العبدية.”([iii]).

وسمي هذا الموجود بالكون الجامع لانه جامع لمظهرية الذات في حضرة الأحدية، ومظهرية الأسماء والصفات في حضرة الواحدية،    ومظهرية الأفعال في حضرة الشهادة. وبذلك كان حاصرا لكل المراتب ومحيطا بسائر الموجودات لانه آخر التنزلات والتجليات الإلهية وعندهم قاعدة تقول:”كل سافل محيط بالعالي”([iv]). بمعنى انه كلما تنزلنا في مراتب والوجود اشتملت هذه المرتبة النازلة على ما هو موجود في المرتبة العالية بالإضافة الى مختصات مرتبتها. فمرتبة المثال مثلا مشتملة على ما في العقل والمثال معا، ومرتبة الجسد مشتملة على مختصات الطبيعة بالإضافة الى عالمي المثال والعقل. فالشيء كلما ازداد قيودا ازداد كثرة وكلما ازداد كثرة ازداد ظهورا وكلما ازداد ظهورا ازداد ادراكا، كما يقول صاحب التمهيد:

“فكل مرتبة أنزل بحسب رتبة الوجود، لا بد وأن تكون تلك القيود فيه اكثر، إذ النازل مشتمل على ما اشتمل على العالي من تلك القيود مع ما اختص به في تنزلاته، وكل ما كان انزل لا بد وأن يكون للخواص والأحكام أشمل، وكل ما كان أشمل كان أكمل، ضرورة أن الكمال هو الجامعية الى تستتبع الخلافة الإلهية”([v]).

ولجامعيته بين الوحدة والكثرة، وبين المراتب العلوية والسفلية (من العقلية والمثالية والطبيعية)، ولكونه اخر التنزلات والتجليات، صار اكمل الموجودات وبسبب أكمليته صار المظهر التام للحق والذي لا يصلح لهذه المظهرية التامة غيره. لان المظهر الكامل للحق يجب ان يكون جامعا لخواص كل المراتب ومحتو على نماذمج منها، وبذلك يستحق المظهرية التامة لإسم الله الأعظم:

“ان المظهر الكامل، عبارة عن الكون الجامع الحاصر لجميع المظاهر التي في سائر المراتب الموجودة فيه وهذا هو النشأة العنصرية الانسانيَّة لا غير، فانّها آخر تنزُّلات المظاهر الواقعة في آخر تنزلات المراتب. وقد عرفت ان كل مظهر سافل شامل للعالي وكل مرتبة سافلة شاملة لعلياها بما فيها من المظاهر، فيكون الإنسان العنصري هو الحائز لسائر المراتب والمظاهر، فلا يصلح للمظهريَّة المذكورة الا هو لأن المظهر الكامل الذي هو عبارة عمّا يصلح لأن يكون مرآة جامعة لجميع الحضرات الإلهيَّة والعوالم الكيانيَّة، يجب ان يكون له بحسب كل مرتبة من المراتب الكليَّة المذكورة انموذج خاص به يكون ذلك عنده كالنسخة الجامعة لسائر جزئيّات تلك المرتبة(الهيَّة كانت أو كونيَّة) … وذلك مختص بالنشأة العنصريَّة الانسانيَّة. فإنها لما كانت آخر تنزُّلات الوجود، فقد حصل لها من كل مرتبة عند وصولها إليها في مرورها عليها انموذج، ونسخة شاملة يظهر فيها جميع ما في تلك المرتبة، صالحة لأن تكون مرآة لما فيها عندها، فيكون نشأته هذه، عبارة عن مجموع مشتمل على هذه النسخ والأنموذجات والمرايا مع احديَّة جمع الجمع”([vi]).

ويعلل القيصري في فصوص الحكم سبب كونه آخر المراتب والتنزلات:

“لأنه لما جعلت حقيقته متصفة بجميع الكمالات، جامعة لحقائقها، وجب أن توجد الحقائق كلها في الخارج قبل وجوده، حتى يمر عند تنزلاته عليها، فيتصف بمعانيها طورا بعد طور من أطوار الروحانيات والسماويات والعنصريات، إلى أن تظهر في صورته النوعية الحسية، والمعاني النازلة عليه من الحضرات الأسمائية، لا بد أن تمر على هذه الوسائط أيضا الى أن تصل اليه وتكمله. وذلك المرور إنما هو لتهيئة استعداده للكمالات اللائقة به، ولإجتماع ما فصل من مقام جمعه من الحقائق والخصائص فيه، وللإشهاد والإطلاع على ما اريد ان يكون خليفة عليه”([vii]).

“وأيضا: لما كان الإنسان مقصودا أوليا، ووجوده الخارجي يستدعي وجود حقائق العالم، أوجد أجزاء العالم أولاً ليوجد الإنسان آخراً لذلك جاء في الخبر: «لولاك لما خلقت الأفلاك»”([viii]).

وبذلك استحق الإنسان أن يكون المظهر التام للحق ولإسمه الأعظم. ولما كان اسم “الله” الأعظم مشتملا على جميع الأسماء ومقدم بالذات عليها ومتجل فيها بحسب المراتب الإلهية ومظاهرها، فإن مظهره التام ايضا الذي هو الإنسان الكامل يجب ان يكون مقدّما على جميع المظاهر ومتجل فيها ايضا بحسب مراتبه، ولهذا صارت حقائق العالم في حضرة العلم والشهادة كلها مظاهر الحقيقة الانسانية ايضا والتي هي بدورها مظهر الاسم الاعظم “الله“، وصار لهذه الحقيقة الإنسانية مظاهر في كل العوالم. ففي الحضرة العلمية ظهرت أولاً بصورة كلية اجمالية فكانت الحقيقة المحمدية التي هي حقيقة النوع الإنساني، ومن ثم بصورة تفصيلية فكانت العين الثابتة للإنسان الكامل الجامعة لجميع الأعيان الثابتة، ثم ظهرت في حضرة العين والشهادة فكانت في عالم الجبروت (وهو عالم الارواح والعقول) العقل الأول وهو اول موجود في نشأة الخلق والذي قال عنه رسول الله(ص):”«اول ما خلق الله العقل»”([ix]).

ثم ظهرت هذه الحقيقة الإنسانية في عالم الملكوت وهو عالم النفوس فكانت النفس الكلية التي تتولد منها النفوس الجزئية، وفي النهاية ظهرت في عالم الملك والطبيعة فكان آدم ابو البشر.

يقول القيصري في شرح الفصوص:

“الحق تعالى لما تجل لذاته بذاته، وشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته، واراد أن يشاهدها في حقيقة تكون له كالمرآة، أوجد الحقيقة المحمدية التي هي حقيقة هذا النوع الإنساني في الحضرة العلمية، فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها وجوداً إجماليا لإشتمالها عليها من  حيث مضاهاتها للمرتبة الإلهية الجامعة للأسماء كلها، ثم أوجدها فيها وجودا تفصيليا، فصارت أعيانا ثابتة. وأما في العين…فمظهره الأول في عالم الجبروت هو الروح الكلي المسمى بالعقل الأول…وفي عالم الملكوت هو النفس الكلية…وفي عالم الملك هو آدم أبو البشر”([x]).

وهكذا طابق العالم الكبير الكوني العالم الصغير الإنساني، وصار الإنسان الكامل خليفة الحق، والمظهر الأتم لأسمائه وصفاته، والواسطة بينه وبين خلقه، والوسيلة التي من خلالها يحفظهم، ولذلك كله اختصه تعالى بخزائن علمه وودائع اسراره كما قال تعالى في كتابه: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها([xi]).

يقول القيصري في شرح الفصوص:

“الحق يحفظ خلقه بالإنسان الكامل عند إستتاره بمظاهر أسمائه وصفاته وكان هو الحافظ لها قبل الإستتار والإختفاء وإظهار الخلق، فحفظ الإنسان لها بالخلافة فتسمى بـ”الخليفة” لذلك.

فما دام هذا الإنسان موجودا في العالم، يكون محفوظا بوجوده وتصرفه في عوالمه العلوية والسفلية فلا يجسر أحد من حقائق العالم وأرواحها على فتح الخزائن الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل، لأنه هو صاحب الإسم الأعظم، الذي به يربي العالم كله، فلا يخرج من الباطن الى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شيئ إلا بأمره، إن كان يجهله عند غلبة البشرية عليه، فهو البرزخ بين البحرين، والحاجز بين العالمين، وإليه الإشارة بقوله: ﴿مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان﴾”([xii]).

 

 

[i] – بحار الأنوار:ج4،ح1،ص11.

[ii] – سورة البقرة:آية 30.

[iii] – تمهيد القواعد: ص 322.

[iv] – تمهيد القواعد:ص 326.

[v] – المصدر السابق:ص 313.

[vi] – المصدر السابق:ص 360.

[vii] – شرح فصوص الحكم: ج 1،ص 244.

[viii] – المصدر السابق: ج 1،ص 241.

[ix] – بحار الأنوار:ج1،ح9،ص 97.

[x] – شرح فصوص الحكم: ج 1،ص 240 و 306.

[xi] – سورة البقرة: آية 31.

[xii] – شرح فصوص الحكم: ج 1،ص 248.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى