التعدّديّة الدينيّة بوصفها إيديولوجيا زائفة هَشاشةِ المفهوم وتهافت التطبيق
التعدّديّة الدينيّة بوصفها إيديولوجيا زائفة هَشاشةِ المفهوم وتهافت التطبيق
علا عبد الله خطيب محمد
تحاول هذه الدراسة أن تجيب على هذه الأسئلة المحوريّة مُبيّنةً أنَّ التعدديَّة الدّينيَّة ليست بحثًا في انتفاء حرّيّة المعنى وتفكيك مركزيّة الطريق إلى الله، كما يراها بعض الباحثين، رافضةً فكرة قولبة الدين الهيجليّة بوصفها فكرة متعالية غامضة يمكن أن تنكشف وتتجلّى في تعبيرات أو انعكاسات مختلفة خلال مسيرة التاريخ.
وتكمن أهمّيّة هذه الدراسة في بيان مدى هشاشة المضمون الإيديولوجيّ النوعيّ لمفهوم التعدديَّة الدّينيَّة أمام عمليّة التفكيك النقديّ لمضمونه وبيان مدى زائفيّة تقديمه بوصفه دعوة للتسامح وسبيلًا للتعايش السلميّ مع الآخر. كذلك تعمل هذه الدراسة على بيان الأسس التي بُنيت عليها قضيّة التعدديَّة الدّينيَّة لنقد النظريّة برمّتها وبيان زيفها. وبيان عظمة الدين الإسلاميّ في نشر قيم التسامح الدينيّ بعيدًا عن تلك النظريّة الملتبسة التي مازال ينخدع ببريق ظاهرها كثير من الباحثين في البلاد الإسلاميّة والعربيّة.
«المحرّر»
ليست التعدديَّة الدّينيَّة بحثًا عن إمكانيّة العيش سويًّا أو تحجيم التعصّب بين أَتباع الدِّيانات المختلفة رغم تلاحمها الظاهريّ مع المفاهيم الفلسفيّة العميقة التي ترتكز في جوهرها على تَقبُّل الآخر المختلف عنّي عقديًّا، والمتمايز عنّي دينيًّا ولاهوتيًّا. وإنَّما هي قضيّة نوعيّة من قضايا فلسفة الدين تقدّم محتوىً معيّن، ينطلق من افتراض إمكانيّة البحث في تعدّد مصادر الحقيقة، وتنوّع سُبُل الهداية، ووفرة القداسة وعمومها. ويتبلور مفهوم التعدديَّة الدّينيَّة عبر مجموعة من الأسئلة المحوريّة التي تعبِّر عن طبيعتها الخاصّة، من قبيل: هل الأديان صور متنوّعة لحقيقة الله الواحدة؟ بمعنى هل أنّ ثمّة حقيقة تتعدّد السبل إليها تبعًا لتعدّد الأديان وتنوعها، ومن ثمّ يكون الكلّ مشمولًا بالنجاة والخلاص؟ أم أنَّ ثمّة ديانة واحدة حقّة ومن لا يعتنقها لا أمل له بالنجاة الأخرويّة؟ وهل التعدّديّة تعني تشابه الأديان وتماثلها الباطنيّ رغم الاختلاف الظاهريّ؟ وهل التعدّديَّة الدّينيَّة تعتمد أديانًا بعينها وتهمل أديانًا أخرى ترى أنّها غير جديرة بأن تدخل في نطاق الأديان المتساوية من حيث قيمتها المقدّسة؟ أم أنّ كلّ الأديان من منظور التعدّديَّة الدّينيَّة تحمل الجزء نفسه من الحقيقة؟ وهل تعدّد الرسل والأنبياء واختلاف رسائلهم وكتبهم المقدَّسة دليل إلهيّ على مشروعيّة التعدّديَّة الدّينيَّة؟
أوّلاً- المقصود بالتعدديَّة الدّينيَّة
التَعدّديّة في اللغة تعني الْكَثْرَة، وهي نقيض الأُحاديَّة. وتَعدَّدَ الشيء أَي صَارَ ذَا عَددٍ، فالعَددُ هو الكمّيّة المتألِّفة من الوحدات، فيختصّ بالمتعدّد في ذاته، وعلى هذا فالواحد ليس بعدد، لأنَّه غير مُتَعدِّد؛ إذ التّعَدّديّة الكثرة[2]. وفي لسان العرب: العدُّ هو الكثرة. يُقال إنَّهم لذو عِدٍّ وقبصٍ. وأَعدَّه أي أكثره عِدةً وأتمَّه وأشدَّه استعدادًا. وهم يتعادُّون ويتعدّدون على عدد كذا أي يزيدون عليه في العدد، وعدَّ الدراهم وغيرها عدًّا وتعدادًا: حسبها وأحصاها. وتَعَدّد تنوّع وصَارَ ذا عَددٍ[3]. والتَعَدُّدِيَّة: اسم مؤنَّث منسوب إلى تعدُّد. مصدر صناعيّ مثل «التَّعدُّديَّة الثقافيَّة»[4].
أمَّا من جِهة الاصطلاح فإنّ مصطلح التعدّديّة يشير إلى «نزعة فلسفيّة ترمي إلى تفسير الوجود، والمعرفة، والسلوك في ضوء مبادئ متعدّدة، وتُقابل الواحديّة والثنائيّة»[5]. والتعدّديَّة مذهبٌ فلسفيّ معروف في الحضارة الغربيّة منذ اليونان، الذين ذهبوا إلى القول بالتعدّد في شتّى المجالات: تعدّد الأصول، وتعدّد النفوس، وتعدّد الحقائق، وتعدّد الآلهة، وتعدّد الغايات، وتعدّد معاني الألفاظ، وتعدّد القيم.
أمَّا المقصود بالتعدديَّة الدّينيَّة كمفهوم فلسفيّ محدّد، فهو يعني «ضرورة الاعتراف المعرفيّ- وليس فقط الاجتماعيّ والأخلاقيّ- بكافّة الأديان والمذاهب، وإعطاء المعذوريّة للمؤمنين بها، وبالتالي عدّلت من مفهوم النجاة الذي كان يعني في الماضي حصر الخلاص في طائفة دينيّة واحدة بحيث صار أكثر شمولًا واتساعًا، ليشمل أكثريّة أبناء الدِّيانات والمذاهب، كما عدّلت من مفهوم التعايش من مجرّد كونه ضرورة مرحليّة إلى حاجة إنسانيّة ثابتة»[6].
أي أنّ التعدّديَّة الدّينيَّة نظريّة فلسفيّة تعتقد بأصالة تنوّع الأديان، والاعتقاد بتشابهها وتساويها من حيث إنّها جميعًا حقّ، أو جميعًا باطل، أو جميعًا لا تخلو من شوائب، أو من حيث إنَّ الدين الحقّ غير معلوم أساسًا، أو أنّه أحيانًا لا حقيقة له في نفس الأمر! ولذا، فالذي يؤمن بأيّ دين لا يعتقد في الحقيقة بالتعدّديّة أبدًا؛ لأنّ الإيمان لا يتلاءم مع النسبيّة والشك، أو مع بطلان متعلَّقه[7].
في حين يرى بعضُ الباحثين أنَّ التعدّديَّة الدّينيَّة مصطلح يتضمّن خاصّيّة رئيسة هي الحرص على تطبيق حقّ المواطنة في صورته الكبرى؛ لأنّ هذه الخاصّيّة تنطوي على أمرين: الاعتراف بتعدّد المعتَقَد داخل وطن ما، والتعايش السلميّ بين أصحاب هذه المعتقدات مع احتفاظ كلٍّ منهم بخصائصه العقديّة، وعلى هذا فإنّ مصطلح التعدّديّة السائد المتداول، يُقْصَد به تلك التصوّرات والمناهج الغربيّة المعاصرة لتفسير وتنظيم مشكلة التنوّع والتباين في المجتمعات البشريّة[8].
ومن أشهر التعريفات الغربيّة للتعدّديّة الدّينيَّة والتي تضع المعالم الرئيسة للمفهوم تعريف جون هيغ John Harwood Hick (1922-2012)[9]. لها، حيث يقول: «إنّ التعدّديَّة الدّينيَّة هي وجهة النظر القائلة إنّ الأديان العالميّة الكبرى، إنّما هي بمثابة تصوّرات وأفهام عن الحقيقة الإلهيّة الخفيّة العليا الواحدة، واستجابات مختلفة للحقيقة النهائيّة المطلقة، أو الذات العليا من خلال ثقافات الناس المختلفة، وأن تحوّل الوجود الإنسانيّ من محوريّة الذات إلى محوريّة الحقيقة يحدث في كلّ الأديان بنسب متساوية»[10].
ونستتنج من هذا التعريف الذي قدّمه جون هيغ عدّة استنتاجات مهمّة في تحديد مفهوم التعدّديَّة الدّينيَّة، لعلّ أهمّها:
توجد حقيقة إلهيّة خفيّة عليا واحدة لا يحيط بها دين بعينه، ولا تدركها الأبصار أو البصائر، وتتجاوز أيّ نعت أو توصيف.
الأديان العالميّة الكبرى يعبّر كلّ منها عن جانب من جوانب الحقيقة الإلهيّة.
تحوّل الوجود الإنسانيّ من محوريّة الذات إلى محوريّة الحقيقة يحدث في كلّ الأديان بنسب متساوية.
ومن ثمّ، ينبغي أن لا يتعصب أحدٌ لدينه؛ لأنَّ دِينه يحمل مثل غيره جزءًا من الحقيقة الإلهيّة الخفيّة.
كلّ الأديان الكبرى تتساوى فيما بينها في الحصول على جزء من الحقيقة الإلهيّة الخفيّة.
ومن ثمّ يؤكّد جون هيغ على التعدّديَّة الدّينيَّة في العديد من كتبه ومؤلّفاته وفي كثير من محاوراته المكتوبة مؤكِّدًا من خلالها على أنّه ليس ثمّة ديانة واحدة، بل توجد تعدّديّة من ديانات العالم الكبرى[11]. ويدلّل هيك على رؤيته هذه بقوله: إنَّ الأديان تعبد كائنًا إلهيًّا واحدًا ولا متناهيًا في غناه وكماله، ويتجاوز قدرتنا على إدراكه أو الإحاطة بأوصافه الحقيقيّة. فاختلاف الأديان في تسمية الكائن الإلهيّ الأسمى وتوصيفه لا يعكس اختلاف الحقيقة الإلهيّة، موضوع العبادة والاختبار والتجربة الروحيّة، بل يعكس اختلاف البشر في لغة التعبير وأنماط الفهم، ومبادئ الإدراك، التي تؤطّرها الشروط الثقافيّة والبنى العلائقيّة السائدة في كلّ تكوين مجتمعيّ وكلّ بيئة حضاريّة. ومن ثمّ تكون الأديان العظمى في العالم استجابات مختلفة لذات الحقيقة المتعالية المحتجبة بذاتها عن أيّ إدراك بشريّ. فالاختلاف في التعبير هو اختلاف في التجربة وفي طبيعة العلاقة مع المتعالي، وليس اختلافًا في ذات الحقيقة الإلهيّة الواحدة، التي تتفق جميع الأديان على واقعيّتها رغم الاختلاف في تسميتها أو الإشارة إليها[12].
وهذا هو الاستنتاج الذي يبني عليه جون هيغ فرضيّته المعرفيّة واللاهوتيّة حول التعدّديَّة الدّينيَّة، أي التي تنطلق من الناس الذين يعبدون المعبود نفسه، على الرغم من إشاراتهم إليه بإشارات مختلفة، هو كائن يفوق الوصف، وهو وراء كلّ التسميات وكلّ التجارب، ومهما قيل فيه، فهو أكبر من أن يُوصف، وإنّما يمكن تسميته بالحقّ في ذاته[13].
وجون هيغ هنا متأثّر برؤية سلفه فريدرك شلايرماخر Friedrich Schleiermacher (1768-1834)[14]. الذي يرى أنّ الدين لبّ وقشور، أمّا اللبّ فهو الانسلاخ عن الذات والعروج إلى الله، أمّا القشور فهي كافّة التعاليم والأحكام والطقوس والشعائر التي يقوم بها المتديّنون بأيّ دين. ويرى أنّ وظيفة القشور هي المحافظة على اللبّ؛ ولذلك علينا أن نحافظ على الجوهر الذي هو الهدف الأسمى للدين، أمّا القشور فيجب أن لا نتمسّك بها بصورة قطعيّة مطلقة فتتحوّل إلى جوهر، فهي مرنة مطّاطة همّهما الأوّل والأخير المحافظة على جوهر الدين، والذي هو واحد في الأديان كلّها مهما اختلفت القشور.
ومن ثم يرى جون هيغ أنّ قبول التعدّديَّة الدّينيَّة اليوم أمر لا مفرٌ منه، وخاصّة في المجتمعات التي تتميّز بتعدّد الثقافات، فالتعدّديَّة الدّينيَّة تعكس تجربة جديدة وصعبة بالنسبة لمعظم الناس، وخاصّة من المسيحيّين البريطانيّين، وأن ما يطلبه الوضع الجديد منّا ما هو إلا امتداد إضافيّ للتسامح الذي تمّ تطويره في الحياة الدّينيَّة والمدنيّة البريطانيّة منذ أواخر القرن السابع عشر[15]. بما أثاره من شكوك في الدوغماطيقيّة الدّينيَّة؛ وبما شهد ذاك العصر من عوامل اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة التي أكّدت على ضرورة التسامح كمطلب للواقع الأوروبيّ على مستوى النظر والممارسة العمليّة؛ حيث دعا جون لوك John Locke (1632-1704) الفيلسوف الإنكليزيّ الأشهر في ذلك العصر، إلى التسامح الدينيّ تحت شعار «عش ودع الآخرين يعيشون»، مستندًا إلى نظريّة في المعرفة ترى أنّ كلّ فهم للحقيقة هو فهم إنسانيّ، وليس في إمكان أحد أن يفرض فهمه على أحد. مما لزم عن رأيه وجوب التسامح الدينيّ والتخلّي عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، مما جعله يهاجم أهل الحميّة الذين كانوا يعتبرون رؤيتهم للدين هي الحقّ المطلق[16]، مرتئيًا أنّ الله لم يكلّف أيّ إنسان في أن يفرض على أيّ إنسان دينًا بعينه[17].
ويعدّ جون هيغ التطوّرات التي شهدتها العقود الأخيرة والتي شهدت مزيدًا من التواصل والتحاور بين المسيحيّين وأتباع الديانات الأخرى، وكذلك بين القادة الدينيّين أو المندوبين عنهم، وبين رجال دين آخرين في أديان أخرى مختلفة أمرًا مهمًّا في تفعيل متطلّبات التعدّديَّة الدّينيَّة. ومن ناحية أخرى يرى القس الإنكليزيّ بريان ليزلي هبليثويت Brian Leslie Hebblethwaite (1939-؟)[18] أنّ نموّ المليشيّات المسلّحة في العالم الإسلاميّ، وتصاعد القوميّة اليهوديّة الصهيونيّة، وإحياء المسيحيّة الصربيّة القوميّة، والقوميّة الهندوسيّة في الهند. لا شكّ أنّ هذه الأمثلة الأربعة على سبيل المثال لا الحصر تشير إلى تطوّرات ذات أهمّيّة قصوى تجعل الناس يدركون مخاطر الصراع بين الأديان، ومن ثم يرون ضرورة السلام والتعاون بين الأديان[19]، وضرورة سيادة التقبّل التامّ لمصطلح التعدّديَّة الدّينيَّة كمفهوم نوعيّ.
والحقيقة -من وجهة نظرنا- أنَّ هذا التصوّر الذي يقدّمه شلايرماخر ومن بعده جون هيغ وهبليثويت للتعدّديّة الدِّينيَّة يخرجها عن هدفها الأسمى الذي رسموه لها، والذي ينشد التعايش السلميّ، وحقّ الآخر في الحرّيّة الدِّينيَّة، وعدم التفتيش في صدور الناس، وحرّيّة العبادة والاعتقاد، وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة، وحقّ الاختلاف، وعدم اقصاء الآخر، وتفعيل مبدأ المواطنة …إلخ، ويحيلها إلى مصطلح مفخَّخ يذيب الخصوصيّات الدِّينيَّة، ويرى أنّ كافّة الطقوس والشعائر وسائر التعاليم الدِّينيَّة ما هي إلّا تصوّرات بشريّة محضة، الأمر الذي يؤدّي إلى سلب اليقين الدينيّ من قلوب المتديِّنين وأفئدتهم، والخوض في شكوك وريب مطلقة تنتهي بترك الدين بصورة نهائيّة.
كما أنّ التعدّديَّة الدّينيَّة كما يقدّمها جون هيغ وكارل رانر Karl Rahner (1904-1984)[20] تضع الأديان جميعها في خانة واحدة، وتعتقد بتشابهها وتساويها من حيث إنّها جميعًا حقّ، أو جميعًا باطلة، أو جميعًا لا تخلو من شوائب. أو أنّها ترى أنّ الدين الحقّ غير معلوم أساسًا أو أنّه لا حقيقة له، وهذا ما لا يقبله صاحب أيّ دين وإلّا ما كان ثمّة مبرر لاعتناق دينًا ما دون غيره ما دامت كلّ الأديان تعبّر عن حقيقة واحدة، وهي متساوية مهما اختلفت قشورها[21].
ويدافع كارل رانر عن هذه الفكرة دفاعًا مستميتًا في كتابه «المسيحيّون المجهولون»؛ وهم أولئك الذين لم يسمعوا أو يعرفوا إنجيل المسيح أو كنيسته، ولكنّهم مع ذلك يطلبون الله بقلب صادق، وبدافع من النعمة. يحاولون من خلال أفعالهم تنفيذ إرادة الله كما يعرفونها من خلال إملاءات ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم تحقيق الخلاص الأبديّ، ومن ثم يرفض رانر الخلاص التاريخيّ، فيقول:»إنّ جوهر النعم الموجود دائمًا، في كلّ مكان، لا يجعل تاريخ الخلاص يتوقّف على كونه خلاصًا تاريخيًّا فحسب«[22]. ومن ثمّ تفتح كريستولوجيا رانر المتسامية أفقًا آخر يضمّ الأديان الأخرى غير المسيحيّة. حيث إنّه إمّا أن «يصبح الورع «صوفيًّا» لدى مسيحيّ المستقبل ونابعًا من تجربة شخصيّة أو لا يكون شيئًا على الإطلاق»[23].
كذلك هي التجربة الدِّينيَّة عند جون هيغ هي التي تجعل المعتقد الدينيّ عقلانيًّا وانطلاقًا من هذه التجربة من خلال بُعدها العقلانيّ يحاول هيك تلمُّس المشتركات بين الأديان، فيرى أنّ المسيحيّين ليسوا أوفر حظًّا من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى في تجسيد الإيمان واستيعاب مفهوم البراءة. هنا يعتقد هيك أنّ المسيحيّة ليست على تضاد مع أتباع الديانات الأخرى في العالم؛ إذ يقفون على قدم المساواة، بمقدار ما يتعلّق الأمر بفهمهم لفكر البراءة في معتقداتهم الدّينيَّة، والتي يطرحها على أنها نابعة من التجربة الدّينيَّة وتقف على أرضيّتها.
ولذلك يمكننا القول بدايةً في تهافت التعدديَّة الدِّينيَّة إنّها لا تتوافق بأيّ شكل من الأشكال مع المسلّمات والمُحْكَمَات الدِّينيَّة لأيّ دين؛ إذ كيف يكون الاختلاف بين المسلم والبوذيّ اختلافًا بين الحقّ والحقّ؟! أو اختلافًا على مستوى القشور وليس اختلافًا بين الحقّ والباطل؟! فكيف يستوي الاعتقاد بوجود الله الواحد الأحد عند المسلم مع عدم الإيمان بوجود إله عند البوذيّ؟! وكيف يستوي القول بوحدانيّة الله المطلقة عند المسلم والقول بالثالوث في المسيحيّة، رغم أنّهما (أي الإسلام والمسيحيّة) من الأديان السماويّة؟! وكيف يمكن اعتبار هذه الاختلافات اختلافات قشريّة متنوّعة للبٍ واحد وحقيقةٍ واحدة؟!
ومثل هذه الأسئلة هي ما جعلت جون هيغ فيلسوف التعدديَّة الدّينيَّة الأوّل يبدو مضطربًا متناقضًا، فهو يبدو بالفعل من دعاة النزعة النسبيّة أحيانًا والعدميّة أحيانًا أخرى رغم تصريحه بمعارضته لهما، كما بدا عاجزًا عن الإجابة غير المتناقضة في كثير من الأحيان وذلك في ردوده على أسئلة طُرحت عليه في حوار له مع الشيخ علي أكبر رشاد بتاريخ 13 كانون الأول (ديسمبر) لعام 2002 على هامش مؤتمر عُقد في جامعة برمنجهام البريطانيّة[24].
ومن ثمّ تبدو التعدّديَّة الدِّينيَّة متناقضة تنطوي على بوادر دمارها؛ إذ يصبح الإيمان بدين معيّن لغوًا وعبثًا، والعمل انطلاقًا من شريعة محدّدة لهوًا ولعبًا، إذ إنّها تنفي الواقع الموضوعيّ للتعليمات الدِّينيَّة. وهنا يتساءل علي أكبر رشاد كيف يمكن أن تكون الاعتقادات المتباينة والمتباعدة من قبيل «إنكار وجود الله، وعبادة الله» و«التوحيد، والاعتقاد بالثنويّة أو الثالوث» و«الاعتقاد بالمعاد، والقول بالتناسخ» و«التنزيه، والتشبيه والتعطيل» و«الجبر والتفويض، والاختيار» و«العقلانيّة والنصّيّة» ومئات القضايا الأخرى المتشعّبة، المقولة والمفترضة، المعقولة وغير المعقولة، كلُّها اعتقادات مُنجية وجالبة للسعادة!»[25]. إذ كيف تؤدّي كلّ الطرق المتناقضة الاتجاه إلى مدينة واحدة؟!
ثانيًا: التعدّديَّة الدِّينيَّة وأكذوبة السلام المجتمعيّ والعيش سويًّا
من أهمّ المبرّرات والمرتكزات التي يرتكز عليها مفهوم التعدديَّة الدِّينيَّة هو أنَّه دعوة إلى تجاوز الاحتراب المجتمعيّ، وضرورة لقبول الآخر، وإتاحة الفرصة كاملة لأبناء الأمّة الواحدة أو الأمم المختلفة للعيش سويًّا، فيعيش أتباع الديانات المختلفة مع بعضهم حياةً مسالمة، ولا يكون ثمّة مبرر لتزكية الخطاب الداعي إلى التقاتل بحجّة الخلاص أو الولاء للدين.
وقد ذهب كثير من الباحثين إلى تأكيد هذا الرأي، وخاصّة في ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة، الذين ارتأوا أن «جوهر الدين يقوم على بحث الإنسان عن حقيقة عظمى وراء هذا الوجود يشعر بشوق إلى بلوغها وإرضائها. ومن ثمَّ، فإنه ليس لأتباع دينٍ بعينه ادَّعاء أن دينهم يحتكر تلك الحقيقة دون غيرهم من أتباع الأديان. وإذا كان أساس التديّن مركوزًا في النفس البشريّة، ويمثّل حاجة عميقة وأصيلة، فإنّ لأتباع كلّ دين أو عقيدة نصيبهم من الاجتهاد في بلوغ الحقيقة وابتغائها، وأنّ اختلاف طرق الولوج إلى الغاية الدّينيَّة لا يعني عدم التقائها جميعًا في النهايات العظمى والمقاصد الكبرى»[26].
وبِناءً عليه، يرى أنصار التعدديَّة الدِّينيَّة أنّ مساحة الاتفاق بين الأديان في أمهات الأفكار عصيّة على الإنكار، خلافًا للطقوس والأحكام العمليّة التي يمثّل الاختلاف فيها تنوّعًا محمودًا يجعل الطواف حول الآخر مهمازًا لبلوغ أشواق الذات، ويحقّق مناط التعارف في أعمق معانيه. ومن ثمّ يرى هؤلاء الباحثين أنّ للتعدّديّة الدِّينيَّة بُعدًا اجتماعيًّا يقوم على احترام معتقدات الآخرين وحقّهم في الإيمان وفقًا لتلك المعتقدات، والعيش معهم بسلام، واحترام الأديان الآخرى والاعتراف بها على المستوى الاجتماعيّ يؤكّد مشروعيّة التعدّد وحقوق أتباع الأديان في ممارسة تعاليمهم والمشاركة في تسيير شؤون المجتمع[27].
ومن ثمّ لا يبقى مع التعدديَّة الدِّينيَّة من منظور أنصارها أيّ دين من الممكن أن يكون مركزًا حصريًّا كبديل أوحد للخلاص والانعتاقيّة، بل تصبح أديان الكون برمّتها استجابات متعدّدة ومتنوّعة لحقيقة لاهوتيّة سمحة واحدة. فيظنّون(أنصار التعدّديّة الدينيّة) أنّهم بذلك يفتحون أبواب السماء أمام الفضلاء من كلّ الديانات من الذين انتهجوا حياة مخلصة مفعمة بالقيم المستقيمة أو مبنيّة على الاستقامة، وهم الذين يطلق عليهم كارل رانر مسمى «المسيحيّين المجهولين» الذين يدخلون الجنّة بصرف النظر عن العرق أو اللون أو المعتقد، شريطة أن يجتاز الشخص مرحلة العبور أو الانتقال من مركزيّة الحقيقة مع أداء أشياء بسيطة من التعاليم الدّينيَّة[28].
وأرى أن مفهوم التعدديَّة الدِّينيَّة قد بدا عند أنصاره بهذا المنظور؛ لأنّهم نظروا إلى الدّين لا كوحدة متماسكة من منظومة عقائد ورؤى مقدّسة نزلت من مصدر متعالٍ مقدّس خبير عليم بشؤون البشر وما ينفعهم، وإنّما نظرت إلى الدين كظاهرة اجتماعيّة تاريخيّة وجغرافيّة؛ ومن ذلك ما ذهب إليه الطبيب والفيلسوف الكَنَدي ويلفرد كانتويل سميث Wilfred Cantwell Smith
(1916-2000)[29]، المهتمّ بمقارنة الأديان الذي يقول في كتابه «معنى الدين وغايته The Meaning and End of Religion»: «إنَّ ما نُسمّيه ونُميّزه كدِّين، هو وحدة تجريبيّة يمكن تَعَقُّبْ وقائعها في التاريخ، ويمكن تحديد تواجدها الجغرافيّ. إنّ ما يُسمى دينًا، كالإسلام والمسيحيّة والبوذيّة، هو مجرّد ظاهرة بشريّة أو مجموعة موجودات بشريّة ذات تاريخ خاصّ»[30]؛ إذ يرفض كانتويل كلّ ما عدا الله والبشر كمفاهيم حقيقيّة، وكلّ ما عدا ذلك هي مفاهيم تجريديّة أو صفات[31]. ومن ثمَّ يرى كانتويل أنّه بدلًا من التفكير في الأديان كأنساق مغلقة، علينا النظر إلى حياة البشر الدّينيَّة كديناميّة مستمرّة ومتحرّكة، تمرّ من وقت لآخر باختلالات واضطرابات ذات طبيعة خلاّقة، فتقيم حقول قوّة جديدة وتقدّم نُظم علاقات معقّدة، من الانجذاب والنفور والاستيعاب والمقاومة وإعادة البناء والدعم. هذه الاختلالات الرئيسة هي الحركات الدّينيَّة الإبداعيّة في التاريخ البشريّ، والتي يتمّ من خلالها بناء التقاليد الدّينيَّة، فما نسميه مسيحيّة وإسلام وهندوسيّة وبوذيّة، هو نتاج ثقافيّ تراكم وتبلور داخل تفاعلات حضاريّة وبيئة خاصّة، أي هي تقاليد وعلاقات تطوّرت عبر تفاعل معقّد بين عوامل دينيّة وغير دينيّة داخل مجال اجتماعيّ أو حضاريّ محدّد، فالأفكار المسيحيّة مثلًا، تشكّلت ضمن الإطار الفكريّ الذي وفّرته الفلسفة اليونانيّة، كما أنّ الكنيسة المسيحيّة تمّ بناؤها وقولبتها كمؤسّسة من قبل الإمبراطوريّة الرومانيّة ومن خلال نظامها القانونيّ، كذلك فإنَّ العقل الكاثوليكيّ يعكس شيئًا من الطبع اللاتينيّ الشرق أوسطيّ، في حين يعكس العقل البروتستانتيّ شيئًا من الطبع الألمانيّ. فالحياة والتقاليد المسيحيّة ليست سوى انعكاس وتجلٍّ للحياة الغربيّة نفسها في التاريخ. وعلى المنوال نفسه يمكن الحديث عن التقاليد الدّينيَّة الأخرى في العالم[32].
أي أنَّ الدين عند كانتويل ليس جوهرًا بمعنى أنّه ليس مجرّد أفكار المؤسّسين الأوائل الأصليّة كمحمّد والمسيح وبوذا، بل هو نتاج تفاعل البيئة الثقافيّة مع هذه الأفكار، بحيث يتولّد منها معتقدات وتقاليد وممارسات وعلاقات، تتطوّر عبر الزمن وتُراكِمُ من خلاله تراثها اللاهوتيّ. فيتطوّر الدين بالتالي من مجموعة تعاليم تأسيسيّة إلى مؤسّسة ذات بعد تنظيميّ ومجموعة عقائد وآليّات لتفسير الدين، أي تتطوّر من التأسيس إلى التمأسس. إلّا أنّ هذا التطوّر اللاحق ليس نابعًا بالضرورة من تعاليم المؤسّسين الأوائل بقدر ما هو تفاعل تاريخيّ بين بيئة المجتمع الثقافيّة والحضاريّة وبين هذه التعاليم ، أنتج آخر الأمر ضرورات عقائديّة وأنماط تفكير وآليّات تفسير خاصّة[33]. ومن ثمّ لا يملك أي دين صلاحية الحكم على غيره بالصواب أو بالخطأ؛ لأن هذا من وظائف المنظومات المعرفيّة والإيديولوجيّة، والأديان ليست كذلك[34]. كما أنّ تطوّر الأديان قد حصل داخل ثقافات وحضارات مغلقة، ولم يكن أيّ منها على علم بالتطوّرات التي تحدث في الأديان الأخرى، مما نتج عنه تولّد تقاليد دينيّة مغلقة داخل كلّ بيئة دينيّة، أي أنّ التقاليد الدّينيَّة لم تنشأ لتنفي باقي التقاليد؛ لأنّها على جهل تامّ بها. أمّا اليوم وقد انفتحت كلّ الثقافات على بعضها وأصبحت آليّات معرفة الأديان ببعضها متوفّرة بضغطة زر فإنّ هذا من منظور هيك وكانتويل وغيرهما من أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة سيفتح الطريق إلى تقاليد دينيّة جديدة، تتجاوز الحدود الجغرافيّة وتتعالى على القيود الثقافيّة الخاصّة، وتتجه نحو المزيد من التسامح ومن الاعتراف والقبول المتبادل بينها[35].
لكن هذا المعنى لفهم التعدديَّة الدّينيَّة يرى أنّ معظم التعاليم الدّينيَّة لأيّ دين تكوّنت عبر التاريخ وفقًا لاحتياجات البشر في فترات زمنيّة وتاريخيّة بعينها؛ ولذلك فهي من صنع البشر وليست تنزيلًا إلهيًّا، ومن ثمّ فلا مانع من تغييرها واستبدالها بتعاليم أخرى تتناسب مع المتغيّرات المجتمعيّة والتاريخيّة للواقع الراهن. ومن ثمّ لا يصبح أّي دين حقيقيًّا أو صحيحًا، الأمر الذي ينتهي بأتباع الأديان إلى التشكيك في معتقداتهم؛ لأنّها معتقدات تكوّنت وتطوّرت عبر التاريخ البشريّ، الأمر الذي ينتهي إلى سلب اليقين الدينيّ من قلوب وأفئدة المتديّنين، والخوض في شكوك تنتهي بترك الدين بصورة نهائيّة.
وهنا قد يحتجّ القائلون بالتعدّديَّة الدّينيَّة بالقول: كيف تكون أنانيًّا دوجماطيقيًّا وتحصر ديانتك بمفردها في دائرة الناجين وتُقحم الآخرين في دائرة الخاسرين؟ مما يترتّب على ذلك إقصاء الآخر وتكفيره والعمل على الخلاص منه، ومن ثم لا يكون هناك مفر من هذا الجحيم المجتمعيّ إلّا بالقول بالتعدّديَّة الدّينيَّة. فإنّ هذا القول أيضًا مردود عليه، فإنّ من الجيّد أن توسّع دائرة الهداية والسعادة، وأن نرى للآخرين أيضًا حظًّا من النجاة والسعادة والحقّانيّة، لكن ليس إلى درجة ألّا يبقى ثمّة مناطٌ للنجاة والسعادة، ولا معنى للصدق والحقّانيّة، ولا ملاك للهداية والضلالة! وباختصار لا يمكن استواء الكفر والدين، والضلال والهدى، ولا تصوّر الإيمان بأيّ شيء منجيًا وجالبًا للسعادة[36]. كما أنّ كافة الأديان السماويّة قد أكّدت حقّ الآخر في الحياة، والحرّيّة، وعدم الإكراه في الدين، هذا فضلًا عن تلك الدعوات الدّينيَّة التي تدعو المؤمنين بالبر والعدل تجاه أصحاب الديانات الأخرى سواء أكانت سماويّة أو غير سماويّة طالما لم يلجؤوا هم أنفسهم إلى استخدام العنف تجاه المؤمنين. فلا يوجد عاقل يكره أن يعيش في سلام ووئام مع المحيطين به مهما اختلفت عقائدهم.
ولا شكّ أنّ الدين الإسلاميّ قد أفسح مجالًا كبيرًا للتسامح والعيش سويًّا، ودعا إلى احترام الآخر وحقّه في الاختلاف والتنوّع، وحقّه في اعتناق ما يشاء من الأديان. فما أجمل التسامح واحترام الآخر لكن دون أن يكون هذا التسامح تسامحًا كاذبًا يأباه القرآن وترفضه الأحاديث النبويّة الشريفة. فالتسامح لا يعني بأيّ حال من الأحوال التنازل عن المعتقد أو الخضوع لمبدأ المساومة، وإنّما يعني القبول بالآخر والتعامل معه على أسس العدالة والمساواة بصرف النظر عن أفكاره وقناعاته الأخرى[37].
فبقدر ما يكون التسامح شيئًا محمودًا يكون الكذب والمخادعة والتزوير شيئًا يستحقّ النكير والازدراء والمقت بل أكثر منه بدرجات. والذي تسوّل له نفسه بأن يتظاهر بهذا التسامح أو يرى في التعدديَّة الدِّينيَّة أنّها تمثّل الخلاص لهذا الكون من الحروب والصراعات، فليقل هذا كوجهة نظر خاصّة به، لا يدّعي أنّ هذه الرؤية دينيّة تمثّل رؤية دين بعينه أو بالأحرى تمثّل رؤية الدين الإسلاميّ؛ لأنّ الدين الإسلاميّ لم يرَ إلّا سبيلًا واحدًا للنجاة الأخرويّة، ولا سبيل غيره.
ثالثًا: التعدديَّة الدّينيَّة تقف على طرفي نقيض مع الدِّيانات السماويّة
ومما سبق يمكننا القول إنَّ التعدديَّة الدّينيَّة – كما قدّمها جون هيغ وتابَعَه في ذلك العديد من الفلاسفة والمفكّرين والكُتَّاب والباحثين- تقف على طرفي نقيض من كافّة الديانات السماويّة التي ترى النجاة والسعادة الدنيويّة والأخرويّة موجودة في دين واحد فقط لا غير. فمثلًا في الإسلام يقول الله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، ويقول تعالى: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153). ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:39). وفي المسيحيّة جاء في العهد الجديد: «لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الله إلّا عن طريقي» (يوحنّا 14: 6) وفي اليهوديّة نجد سيادة فكرة الميثاق الأبديّ لشعب الله المختار، أو ما جاء في العهد القديم من آيات تؤكّد على أنّ طريق الخلاص مرتبط باليهوديّة وحدها، من قبيل ما جاء في العهد القديم لحثّ العبرانيّين على التمسّك باليهوديّة بوصفها الطريق الوحيد للخلاص والنجاة: «وَلكِنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا الْتَصَقَ بِآبَائِكَ لِيُحِبَّهُمْ، فَاخْتَارَ مِنْ بَعْدِهِمْ نَسْلَهُمُ الَّذِي هُوَ أَنْتُمْ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ كَمَا فِي هذَا الْيَوْم».(التثنية،10: 15). وجعل شرط دوام الحبّ الإلهيّ والاختيار هو طاعة الوصايا والأحكام والفرائض الخاصّة باليهوديّة: «وَمِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ هذِهِ الأَحْكَامَ وَتَحْفَظُونَها وَتَعْمَلُونَهَا، يَحْفَظُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ اللَّذَيْنِ أَقْسَمَ لآبَائِكَ. وَيُحِبُّكَ وَيُبَارِكُكَ وَيُكَثِّرُكَ وَيُبَارِكُ ثَمَرَةَ بَطْنِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ:… مُبَارَكًا تَكُونُ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ.(التثنية، 7 :12: 14) مُحَذِرًا إيّاه من ترك هذه الوصايا والفرائض، والذهاب إلى غيرها: «اِحْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ وَلاَ تَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ.»(التثنية، 8 :11)، مؤكّدًا تحذيره لليهود من ترك تعاليم اليهوديّة الخاصّة لغيرها: «وَإِنْ نَسِيتَ الرَّبَّ إِلهَكَ، وَذَهَبْتَ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدْتَهَا وَسَجَدْتَ لَهَا، أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ لاَ مَحَالَةَ” . (التثنية، 8: 19).
وإن كان على المسلم الحقّ أن يؤمن بكلّ رسل الله وكتبه المقدّسة. ومن ثمَّ يمكننا القول إنّ الدّعوة إلى التعدّديَّة الدّينيَّة هي دعوة للقضاء على الأديان، وهدم القواعد والثوابت الشرعيّة الخاصّة بكلّ دين تحت مسمّيات خادعة وشعارات زائفة. وهو ما أشار إليه بعض الكتّاب الغربيّين من أمثال: ألفين بلانتينغا Alvin Plantinga (1932-؟)[38]، وكارل بارث Karl Barth
(1886- 1968) [39]، الذي رأى أن لا نور في العالم ولا هدى إلّا نور السّيد المسيح وهديه[40]، وغافين دي كوستا Gavin DsCosta (1958-؟)[41]. الذي رفض بشدّة التعدّديَّة الدّينيَّة، وأيّد النزعة الانحصاريّة التي ترى أنّ الحقّ منحصر في دين واحد، وباقي الأديان والمشارب باطلة برمتها، ولا يوجد ما يسمى بالتعدّديّة[42].
ولكن أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة قد يعترضون على هذا الرأي، ويحتجّون بقوله تعالى في القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62)، ويتمسّكون بالآية لإثبات أنّ النجاة الأخرويّة لن تكون لدينٍ واحدٍ كما تزعمون، ولكن لعدّة أديان متعدّدة، ومن ثمّ يمكن للإنسان أن ينال النجاة الأخرويّة وينعم بالنعيم المقيم في الجنة دون أن يتقيّد بدين الإسلام؛ إذ لا فرق البتّة بين كونه مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا أو صائبيًّا أو هندوكيًّا أو غيره.
والحقيقة أنّ من التفسيرات الخاطئة والبعيدة عن الروح القرآنيّة والإسلاميّة تفسير الآية الكريمة على أنّ الإيمان بالله واليوم الآخر فقط يكفي للنجاة، وأنّه لا حاجة للإنسان بعد ذلك إلى الإيمان برسول أو كتاب ولا إلى اتّباع شريعة. أو أن تُفسّر على أنّ المقصود أن يكون النصرانيّ راسخًا في نصرانيّته، واليهوديّ راسخًا في يهوديّته، والهندوكيّ راسخًا في هندوكيّته، وأن يتّبع كلّ واحد منهم اتّباعًا محكمًا لما هو عليه من الدين، فينال بذلك النجاة في الآخرة دون حاجة للإيمان بالقرآن والرسالة المحمّديّة كشرط أساسيّ للنجاة. فهذا التفسير هو ما يحتجّ به أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة ويتزعّمون به.
وفي رأينا هذا زعم لا يثبت أمام القراءة المتأنّية للآية الكريمة، إذ يرى أبو الأعلى المودوديّ أنّ هذا التفسير هو أكبر افتراء على القرآن، وأنّ عين السماء ما رأت أشنع منه في أيّ عصر من عصور الإسلام الماضية، فليفرح الذكاء الذي استخرج من كتاب الهداية هذا السلاح القويّ للغواية[43].
ويرى المودوديّ – أيضًا- أنّ من يفسّر الآية التي يحتجّ بها أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة بهذا التفسير الوارد أعلاه لا يفسّر القرآن، بل يستهزئ به، ولا يصحّ الأخذ برأيه إلا إذا كفرنا بالقرآن كلّه إلّا هذه الآية[44]. فالواضح من الآية تحت التفسير أنّه ليس المراد بـ «الإيمان بالله» هو الاعتقاد بالله فقط، بل المراد أن تؤمن بالله وفقًا لتعاليم الأنبياء والكتب السماوية. وإنه هو الإسلام، والقرآن في غير آية واحدة من آياته يبدئ ويعيد في بيان أنّ وسيلة النبيّ والكتب مما لا غنى عنه أبدًا لاهتداء الإنسان إلى صراط الله المستقيم. وبناء على هذا لا يمكن لإنسان أن يكون مؤمنًا في نظر القرآن ما دام لا يؤمن – مع إيمانه بالله- بأنبياء الله وكتبه. قال تعالى : (وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء:136). فلا يجوز عدم الإيمان إلّا بكّل الأنبياء والكتب السماويّة، ومن كفر بواحدٍ منهم فكأنّما كفر بالجميع. وبناءً عليه، أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يؤمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلّم ورسالته، وأنّ أيّ إنسان إذا آمن بسائر الأنبياء ولم يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، أو إذا آمن بسائر الكتب السماويّة ولم يؤمن بالقرآن، فإنَّه يكون منكرًا لجميع الأنبياء والكتب، بل لأصل الدين كلّه، ولا نجاة له في الآخرة.
ووفقًا لذلك فإنَّ القول إن الإسلام لا يحتكر الصدق لنفسه بل هو يصدّق أيضًا كلّ ما سواه من الأديان في الأرض، وليس من دعواه أنّ الناس لن يهتدوا ولن يستحقّوا النجاة ما داموا لا يدخلون فيه بتركهم أديانهم التي هم عليها الآن، بل هو يقول بالنسبة لأهل الأرض أجمعين أنّ عليهم أن يتّبعوا، بكلّ جدٍ واهتمام، التعاليمَ الأصليّة لأديانهم، هو قول بلا شكّ يفيض تسامحًا في الظاهر، ولكنّك إذا تأمّلته حقّ التأمّل ووقفت على حقيقته، وجدته في منتهى السخافة واللغو، فالإسلام إذا قال عن نفسه أنَّه هو الصراط المستقيم بين الله والإنسان، لزم هذا الحكم على كل ما سواه بالزيغ والاعوجاج والنقص والخطأ. فلا يليق برجل أن يقرّ بأن ما جاء في القرآن أو في الإسلام عمومًا أنَّه الصراط مستقيم، ثمّ يقول في الوقت نفسه عن الطرق المختلفة الأخرى أنّها طرق مستقيمة أيضًا كما ذهب إلى ذلك المفكّر الإيرانيّ عبدالكريم سروش في كتابه الذي أطلق عليه اسم «الصراطات المستقيمة»، زاعمًا أنّ «الكثرة في عالم الأديان (وغير القابلة للاجتناب حسب الظاهر) حادثة طبيعيّة تعكس في طيّاتها حقّانيّة كثير من الأديان، وأنّ كثيرًا من المتديّنين محقّون في اعتناقهم لدينهم، وأنّ ذلك مقتضى الجهاز الإدراكيّ للبشر، وتعدّد أبعاد الواقع، ومقتضى كون الله هاديًا ويريد الخير والسعادة للبشر، وليس بسبب سوء فهمهم، أو مؤامرة قوى الانحراف والباطل، أو اتّباع الهوى والشهوات، أو سوء اختيار الإنسان، أو غلبة قوى الشيطان»[45].
وهنا يمكنني القول إنّ ما يذهب إليه سروش في كتابه» الصراطات المستقيمة» هو أمر لا يتّفق مع ما جاء في القرآن الكريم الذي رأى أنّ الصراط واحدٌ وليس صراطات كما ادّعى سروش، فيقول تعالى: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام 153). وقال سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة 6-7) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(الأنعام:161).
كذلك يمكننا القول ردًا على دعاة التعدّديَّة الدّينيَّة إنّه مادام لم يتوصّل أحد إلى الحقيقة، وكلّ شخص ينظر إليها بمنظور خاصّ، فإنّه يترتّب على ذلك أنّ جميع الشرائع أو الأديان ستكون (طرقًا) غير مستقيمة ومعارفَ غير ثابتة، وتفاسيرَ قلقة من شهود الحقيقة المطلقة، ولم يعثر الإنسان على الحقيقة منذ ولادته، وهو يتخبّط دائمًا في بحر الجهل، وسيبقى في ضلاله إلى يوم يبعثون[46]. وإذا كانت جميع الشرائع أو الأديان في صفٍّ واحد، وجميع الرسالات مختلفة بسبب الظروف التي نشأت فيها، فينبغي أن نقول: إنَّه لا فرق حينئذٍ بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام والأديان الوضعيّة الأخرى، مثل البوذيّة والهندوسيّة، بل لا فرق بينها وبين المذاهب الإلحاديّة مثل المادّيّة والواقعيّة الحديثة؛ لأنَّ الجميع يشتركون في رسم صورة خطأ للوجود، وعليه سيكون الإنسان مخيّرًا في اختيار تثليث المسيحيّة أو توحيد الإسلام أو ألوهيّة براهما وبوذا. وهذا التفسير يعكس وجود أزمة فكريّة لدى أصحاب هذه النظريّة[47].
وأغرب ما يذهب إليه سروش هو أنّه يرى أنّ الله -سبحانه وتعالى- هو أوّل من وضع بذور التعدّديّة الدينيّة في العالم، إذ يقول: «وأوّل شخص بَذَرَ بذور التعدديّة في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلًا وأنبياء مختلفين وتجلّى لكلّ واحد منهم بمظهر خاصّ، وبعث كلّ واحد منهم إلى مجتمع خاصّ، ورسم تفسيرًا للحقيقة المطلقة في ذهن كلّ واحد منهم يختلف عن الآخر»[48].
وهنا يمكن بيان تهافت هذا القول، لأنَّ الأديان الكبرى في العالم ليست كلّها ديانات توحيديّة- كما سبق أن بيَّنا، فهل أوحى الله إلى بعض أنبيائه التوحيد، وأوحى إلى بعضهم الآخر الشرك؟! حاشا لله أن يوحي لأنبيائه بالشرك، فجميع أنبياء الله قد جاؤوا بالتوحيد، ودليل ذلك قوله تعالى: }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ (النحل:36)، والطاغوت هو كلّ ما يُعبد من دون الله، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25). ومن ثمّ يتهافت هذا الزعم الذي يرى في تعدّد أنبياء الله ورسله دعوة إلهيّة صريحة إلى القول بالتعدّديّة الدينيّة.
ولا شكّ أنّ أنصار التعدديّة ينظرون إلى التعاليم الدّينيَّة والنصوص الدّينيَّة الخاصّة بكل دين بأنّها لا تمثّل جوهر الدين، بل يرون أنّه يمكن مراجعة هذه التعاليم بل وتغييرها إذا لزم الأمر؛ لأنّها ليست كالنظريّات العلميّة التي إمَّا تكون صادقة أو كاذبة، وأنَّه ما دام للإنسان أسئلة حول الحياة والأوامر الإلهيّة، فعلى العقيدة الدّينيَّة أن تجيب على هذه الأسئلة، وما دامت هذه العقائد والتعاليم تؤثّر في رؤيتنا للحياة فهي صادقة. وعلى هذا فليس المهم عقائد الإنسان فقط؛ لأنّ عقيدة كلّ فرد هي خلاصة تجاربه وثقافته ومقولاته المصاغة بشكل أسطوريّ والمكتسبة من الواقع، وعلى هذا فالدعوة إلى دين واحد يلتزم الناس به دعوة لا معنى لها. وما هو مهمّ أن يتأثّر واقعنا لكي يتغيّر؛ ولذلك لا مانع في نظر هؤلاء التعدّديّين من التخلّي عن الإيمان بالعقائد الدّينيَّة بحجّة أنّ «القوّة والعنف آفة الإيمان»[49]. ليكون السلام في مقابل الإيمان! وما هذه سوى أكذوبة كبرى ودعوى مُقَنَّعَة للخلاص من الأديان.
رابعًا- التناقض الذاتيّ والمغالطات لدى أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة
رأى اللاهوتيّ والفيلسوف الأميركيّ ألفين بلانتنغا أنّ جون هِيك قد طرح مفهوم التعدديَّة الدِّينيَّة لكي يرضي الجميع، لكن هذه النظريّة أدّت إلى سخط الجميع منه! [50]. والحقيقة أنّ بلانتينغا محقٌّ إلى حدٍّ كبيرٍ في مقولته هذه؛ لأنَّه لو كانت نظريّة التعدّديَّة الدِّينيَّة تعني الحقّانيّة المتساوية مع جميع الأديان بما فيها من آراء متعارضة ومتناقضة، فينبغي إمّا افتراض أنّ الحقيقة اعتباريّة وغير حقيقيّة، أو الإقرار بإمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما؛ لأنّه مثلًا (على فرض قبول التعدديَّة الدِّينيَّة) إن كانت مقولات «الله موجود» و«الله واحد» واقعيّة وصادقة، فلن تتناسب مع مقولات «الله ليس موجودًا» و«الله اثنان» و«الله ثلاثة». وفي النتيجة، إمَّا ينبغي أن تكون جميعها كاذبة- وآنذاك سوف يكون الله، الذي هو أعظم حقيقة، اعتباريًّا وغير حقيقيّ، وسنكون قد أقررنا أيضًا بارتفاع النقيضين. وإن تكن هذه المقولات صادقة، فنكون قد قبلنا باجتماعهما! [51]. وهذا يعدّ قمة التناقض بأن نجمع بين المتناقضات.
ورغم ذلك نجد هيك يدافع عن نظريّته بقوله: «إنه لا يدّعي عدم وجود حقيقة، لكنّه يرى أنّ الحقيقة متكثّرة، ومتعدّدة وكلّ شخص يكشف جزءًا منها ويخبر عنه»[52]. وهنا يقع هيك في مغالطة جديدة وتناقض جديد ألا وهو كثرة الحقائق بصورة لا متناهية أو بعدد البشر وحسب تجاربهم الشخصيّة، وهنا نقع في النسبيّة المطلقة، بل الأحرى أن نقول في العدميّة.
ويرى عبدالكريم سروش، أنّ اختلاف الأديان ليس اختلاف الحقّ والباطل، بل هو اختلاف الحقّ والحقّ! وأنّ مثل هذه الرؤية تدفع بالإنسان إلى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليُرى كيد الشيطان ضعيفًا كما يقول القرآن ويعتقد بأنّ للآخرين نصيبًا من النجاة والسعادة والحقّانيّة[53]. مما يجعلنا نتساءل، أيّ حقّ يقصد؟ وكيف يمكننا أن نعتبر أنّ الأديان الوضعيّة التي لا تعترف بوجود الإله متساوية في الحقّانيّة مع الاعتقاد بالإله ذي الأقانيم الثلاثة لدى كثير من المسيحيّين، والاعتقاد بالثنويّة لدى بعض الزرادشتيّين، والاعتقاد بالله الواحد الأحد لدى المسلمين واليهود؟!
ومن البديهيّ أنّك عندما تقول: إنَّ المبدأ واحدٌ، فهو ليس اثنين ولا ثلاثة، ولو كان اثنين أو ثلاثة، فهو ليس بواحد. ومن الواضح أنّه لا يمكن حمل محمولات متناقضة على موضوع واحد(المبدأ)، وإلّا نكون قد أقررنا بافتراض»اجتماع النقيضين» المحال وهو بديهيّ البطلان. هذا مثالٌ واحد فقط له علاقة بأصل التوحيد والشرك، ولو أمكن إعداد جدول متعدّد الأعمدة بمقولات الأديان والمشارب المختلفة وتعاليمها، فسنرى احتشاد مئات الأمثلة والمصاديق على الالتزام باجتماع النقيضين. ومع ذلك، فقد وقع مؤلّف «الصراطات المستقيمة» في التناقض عمليًّا مرّات ومرّات، في طرحه لمسائل متناقضة، وفي تقريره للأسس وتحريره للمدّعى[54].
ومن ثم يمكننا القول إنّ الاعتقادات المتباينة والمتباعدة لا يمكن أن تعبّر عن حقيقة واحدة؛ لأنَّ هذا مما يأباه العقل السليم، فلا يمكن أن يعبّر «الشرك» و«التوحيد» عن حقيقة واحدة، ولا أن يتساوى الاعتقاد ب«الثنويّة» مع الاعتقاد بـ «الثالوث»، أو يتساوى الاعتقاد بالمعاد مع القول بالتناسخ. من الجيّد أن نوسّع دائرة الهداية والسعادة، وأن نرى للآخرين أيضًا حظًّا من النجاة والسعادة والحقّانيّة، لكن ليس إلى درجة أن لا يبقى مناط للنجاة والسعادة، ولا معنى للصدق والحقّانيّة، ولا ملاك للهداية والضلالة. وباختصار لا يمكن افتراض استواء الكفر والدين، والضلال والهدى، ولا تَصوّر الإيمان بأيّ شيء منجيًا وجالبًا للسعادة[55]. ومن ثم يصبح التديّن بدين معيّن أو التمسّك بشريعة محدّدة مجرّد عبث كما هو الحال عند أصحاب التعدّديَّة الدّينيَّة.
كما يظهر التناقض الجليّ في قول جون هيغ: «إنّ هناك حقيقة يسعى الجميع إلى كشفها، لكن تلك الحقيقة رفيعة جدًا، وأبعد من حدود فهم البشر، وكلّ شخص يقول عنها شيئًا»[56]. لكن ما جاء في الدين الحقّ ليس من عند البشر، ولكنّه جاء من قِبل الله العليم الخبير الذي يعلم كلّ شيء؛ ولذلك فهو- تعالى- يحيط بكل الحقائق علمًا، إلّا إذا كان هيك لا يعتقد بالمصدر الإلهيّ للديانات السماويّة ويراها كالأديان الوضعيّة، لذا رأى أنّ البشر عاجزون عن بلوغ الحقيقة كاملة. وهنا يتناقض جون هيغ للمرة الثانية مع نفسه؛ إذ إنّه يشترط لوصف أيّ دين بصفة الدين أن يقرّ أتباعه بوجود الله، فإن كان هناك من لا يقبل بوجود الله، فهو ليس من ذوي الدين؛ إذ يتساءل مستنكرًا: كيف يمكن أن ننفي أصل وجود الله ثم أقبل بالتديّن، وهو ليس شيئًا سوى التعاليم الإلهيّة؟![57]. وهكذا يبدو هيك مضطربًا متناقضًا كغيره من دعاة التعدّديّة الدينيّة وأنصارها.
خامسًا- عظمة التشريع الإسلاميّ في التعايش مع الآخر
إنَّ المتأمل لعظمة التشريعات الاجتماعيّة في الإسلام يدرك مدى حقّانيّة هذا الدين بالدين الخاتم الذي يضمن لأتباعه النجاة الأخرويّة، إذ يشدّد على ضرورة احترام عقائد الآخرين وحقّهم في الإيمان وفقًا لتلك المعتقدات، وضرورة العيش معهم بسلامٍ وأمان. فيؤكّد على مبادئ ثلاثة أساسيّة تمثّل عظمة الدين الإسلاميّ في رسم حياة مثاليّة للتعايش السلميّ مع الآخر المختلف دينيًّا وعقائديًّا، هي:
- حرّيّة الاعتقاد وعدم الإكراه في الدين:
كَفَلَ الإِسلامُ الحرّيّةَ الدّينيَّة لغير المُسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلاميّ، فلم يُكره أَحدًا على الدخول في الإسلام، وأكّد على حرّيّة الإنسان في اختيار عقيدته دون ضغط أو إكراه، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (البقرة: 256). كما أَمرَ رسوله الكريم أن يدعو إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل خصومه ليس بالحسنى وحسب، وإنّما بالتي هي أحسن؛ بالحجج النيّرات، وواضح الدلالات، والبراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أحقّيّة هذا الدين، وذلك تكريمًا للإنسان من الخالق الرحمن، قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). مع تأكيد الأمر القرآنيّ على عدم التعرّض لهم بأيّ أذى إذا لم يستجيبوا للدعوة إلى الإسلام، قال تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (الشورى:48)، وقال تعالى: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (النساء :80).
كما صَانَ الإسلام حرمة غير المسلمين، وجَعَلَ من حقّهم أن يُبْدُّوا رأَيهم، وأن يناقِشوا، وأَمرَ المسلمين أَلّا يجادلوهم إلّا بالتي هي أحسن، قال سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46). كما دعا الإسلام إلى حُسن معاملة غير المسلمين، وزيارتهم وعيادة مرضاهم، وتبادل المنافع معهم والتعاون على الخير، والبيع والشراء، وسائر المعاملات. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القدوة في ذلك في كثير من المعاملات، لدرجة أنّه مات ودرعه مرهونة عند يهوديّ في دَيْن له عليه، وكان بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذبح شاة يقول لخادمه: ابدأ بجارنا اليهوديّ[58].
وهكذا سبق الإسلام ميثاق الأمم المتحدة الذي عبّر عنه من خلال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي اعتُمِدَ عام 1948، حيث تنصّ المادّة 18 منه على أنّ «لكلّ إنسان حقّ في حرّيّة الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حرّيّته في أن يدين بدين ما، وحرّيّته في اعتناق أيّ دين أو معتقد يختاره».
- حقّ ممارسة الشعائر
كَفَلَ الإسلامُ عمليًّا حرّيّة غير المسلم في ممارسة شعائر دينه، دون أن يتعرّض له أحد بأذى، ومن حقّه أيضًا في الإسلام، ألّا يعتدي أحدٌ على أماكن العبادة التي يتعبّد فيها. وقد بلغت الشريعة الإسلاميّة في إقرارها لحرّيّة الاعتقاد الحدّ الذي تجاوزت بها مرتبة الحقوق لما اعتبرتها ضرورات إنسانيّة لا يجوز التنازل عنها. فوصلت بهذه الحرّيّة إلى مستوى رفيع لم يصله تشريع غيره قديمًا وحديثًا، ولم يُعرف له مثيل في القارّات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدھار مثل ما صنع الإسلام[59].
فلكلّ شخص في الإسلام الحقّ في حرّيّة العبادة وممارسة الشعائر الخاصّة بدينه، دون أن يعتدي عليه أحد أو يسخر منه أحد، لأنّ الإسلام الذي أقرّ حرّيّة المعتقد يقرّ بحرّيّة ممارسة الشعائر الدّينيَّة، لارتباط ذلك ارتباطًا وثيقًا بالأصل الأوّل والأساس، وهو مرتبط أيضًا بالاعتراف بشرعيّة الآخرين، ومرتبط بالتعايش السلميّ الذي يدعو إليه الإسلام، ومرتبط بالأمن والحماية التي أعطى المسلمون عليها عهودًا لغيرهم… [60]. وهكذا حرص الإسلام على حرّيّة ممارسة الشعائر الدّينيَّة لغير المسلمين وحمايتها من خلال إلزام المسلمين بعدم إيذاء الشخص بسبب أدائه لعبادته واحترام حقّه في ذلك.
- قبول التعدّديّة الثقافيّة
رسّخ الإسلام بتعاليمه السمحة التعايش السلميّ بين المسلمين وبين أتباع الأديان الأخرى، ومنح الأقلّيّات حقوقًا لم يعرفها التاريخ من قبل، فأعطاها الحقّ في الاستقلال القضائيّ وحقّ الاستثناء من القانون الجنائيّ العام في الدولة الإسلاميّة؛ إذ تمتّعت الأقلّيّات الإثنيّة منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا بالحرّيّة الكاملة في ممارسة دينها وعباداتها، وفي استمرارها في استخدام لغتها وعاداتها، وطرق تربية أبنائها. كما بقيت لها الحرّيّة في الاستقلال بقوانينها وقضائها، واستُثنيت من القانون الجنائيّ الإسلاميّ العامّ، فلم يعتبر جريمة في حقّها ما يحكم بإباحته نظامها الدينيّ والخلقيّ وإن كان القانون الجنائيّ العامّ يعتبره جريمة[61].
وهكذا جاء الأمر القرآنيّ بتقبّل المخالفين في الدين والتسامح معهم والصفح عنهم والصبر على أذاهم، قال تعالى:(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور) (آل عمران :186) وقال سبحانه (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(المائدة:13).
ولم يقف الإسلام عند هذا الحدّ، بل دعا المسلمين للإحسان إلى المخالفين في الدين من الذين لم يقاتلوا المسلمين سواء أكانوا من النساء أو الأطفال أو الضعفاء من رجالهم، أو من المسالمين على وجه العموم، فلا مانع من برّهم والعدل في معاملتهم، يقول تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8). ومن ثمّ لم يستعمل النبيs العنف مع اليهود إلّا بعدما انتقلوا من الأذى بالكلام إلى الأذى بالفعل، ونقضوا العهود والمواثيق، فحاربهم طائفة بعد طائفة. حتى الجزية التي كانت تُفرض على أهل الكتاب نظير حماية المسلمين لهم والدفاع عنهم، كانت تسقط عن نسائهم وأطفالهم ورهبانهم. وسقطت في العصر الحديث عنهم بالكلّيّة لاشتراكهم في الجيوش المدافعة عن الأوطان.
ومن ثمّ كان إعطاء الإسلام هذه الحقوق وقبوله التام بالتعدّديّة الثقافيّة أكبر دليل منطقيّ على طبيعة الإسلام كدين في صلته بالتسامح وقدرته على التعايش مع الأفكار المختلفة والثقافات المتعدّدة دون أدنى تهديد للسلم المجتمعيّ. وفي الحقيقة كان لهذا التسامح وقبول الآخر صفة الاستمراريّة في التاريخ الإسلاميّ، وهو الأمر المميّز للدولة الإسلاميّة في كلّ العصور في أوقات القوّة والضعف، وفي عصور التقدّم والتخلّف، وفي عصور ازدهار الأمّة أو انحطاطها. مما يجعلنا نقول إنّه ليس من المبالغة أن نؤكّد أنّ الإسلام لم يكتفِ بالتسامح الدينيّ، بل جعل التسامح جزءًا من القانون الإسلاميّ.
خاتمة:
وهكذا ينتهي بنا البحث حول مفهوم التعدّديَّة الدّينيَّة إلى مجموعة من النتائج المهمّة، منها:
أوّلًا: إنّ أنصار التعدّديَّة الدّينيَّة سواء في الغرب أم الشرق لم يتوقّفوا كثيرًا عند المعنى الدقيق للمفهوم، ولم ينظروا إليه من داخل الأديان، بل نظروا إليه من الخارج بعيدًا عن نصوص هذه الأديان ومصدرها، مما جعله يبدو أمامنا مفهومًا هشًّا لا يصمد أمام التناول النقديّ التحليليّ؛ إذ بدت رؤية أنصاره قاصرة على إطار الهدف العامّ المنشود من ورائه، وهو التعايش السلميّ مع أصحاب الأديان الأخرى بلا تعصّب ولا إقصاء للآخر، وهو الأمر الذي ظهر تهافته. وأنّ القاعدة الأساسيّة التي يقوم عليها هذا المفهوم هي القول بنسبيّة الحقيقة، وهو الأمر الذي ترفضه الأديان جميعًا؛ إذ يمتلك كلّ دين مجموعة من الحقائق المطلقة التي لا يمكن الأخذ بالنسبيّة فيها، ومثال هذه الحقائق في الإسلام: توحيد الله، وصدق الرسول، وكلّ النصوص القطعيّة التي تقرّ فرائض وتشريعات. ومن ثمّ لا تمثّل هذه النظريّة خطرًا على جميع الأديان فحسب، بل على جميع الثوابت الأخلاقيّة والمعرفيّة.
ثانيًا: إنّ المؤمن الحقّ يرفض دلالات مفهوم التعدديَّة الدّينيَّة كما يردّدها أنصار هذا المفهوم بوصفه فرضيّة ترى أنّ الأديان الكبرى في العالم هي صور متنوّعة لحقيقة إلهيّة واحدة، وأنَّ الاختلاف الظاهر بينها ليس سوى اختلاف ظرفيّ نابع من ظروف الثقافة واللغة والعادات داخل التكوين الحضاريّ الذي تَكوَّن فيه الدين؛ لأنَّ المسلم يرى أنَّ دينه هو الدين الحقّ، وأنّ النصوص القرآنيّة حاسمة في هذا الإطار، ولا تقبل الشكّ أو التأويل، وإذا ابتغى أيّ إنسان الحقّ في غير الإسلام حبط عمله ولم يُقبل منه. ومن ثمّ نكون أمام مفهوم نوعيّ هو «التعدّديَّة الدّينيَّة» الذي هو بمثابة مفهوم معاصر لا يعني إمكانيّة التعايش السلميّ بين أتباع الديانات المختلفة وحسب كما يحاول أنصاره أن يظهروه، بل هو يتجاوز ذلك، ومن ثمّ يجب النظر إليه من داخل الأديان لا من خارجها وفي ضوء نصوصها المقدّسة، لا كما نظر إليه فلاسفة التعدّديَّة الدّينيَّة.
ثالثًا: إنّ التعدّديَّة الدّينيَّة مفهوم فلسفيّ دينيّ يأتي بمعانٍ متعدّدة، منها «التعدّديَّة الدّينيَّة المعياريّة»، والتعدّديَّة الدّينيَّة الخلاصيّة» و«التعدّديَّة الدّينيَّة المعرفيّة»؛ فالتعدّديَّة الدّينيَّة المعياريّة معناها أن يتسامح أصحاب دين بعينه مع أصحاب الديانات الأخرى، وهنا يكون المصطلح مقبولًا عند معظم أصحاب الديانات. أمّا مفهوم التعدّديَّة الدّينيَّة الخلاصيّة» الذي عبّر عنه جون هيغ مرتئيًا أنّ الشخص يمكنه أن ينال الخلاص ويدخل الجنّة بغض النظر عن عرقه ولونه ومعتقده شريطة أن ينتقل من مركزيّة الذات إلى مركزيّة الحقيقة، وأن يؤدّي شيئًا من التعاليم الدّينيَّة، أي ما دام المرء يُنشد الحقّ المطلق، ويؤدّي بعض التعاليم الدّينيَّة، فإنّه ينال الخلاص، وهو الأمر الذي ترفضه كافّة الأديان السماويّة ويرفضه كاتب هذه السطور قلبًا وقالبًا. ثمّ «التعدّديَّة الدينيّة المعرفيّة»، وهي الأساس الذي ترتكز عليه «التعدّدية الدينيّة الخلاصيّة»، وهي التي لا تعترف بامتلاك أيّ دين للحقيقة المطلقة، وإنّما الحقائق نسبيّة، ومن ثمّ لا تحصر الحقيقة في دين معيّن، بل ترى أنّ كلّ الأديان فيها جانب من الحقيقة، وأنّ متابعة أيّ منها يمكن أن يكون وسيلةً للخلاص، ومن ثمّ يجب أن يكون ثمّة تسامح وتصالح وقبول لكل أديان البشريّة التي يعبّر إرثها المعرفيّ والروحيّ عن جانب من الحقيقة. هذه الرؤية التي رفضها من الغربيّين بلانتنغا وغافين دي كوستا وغيرهما من الذين قالوا إنّ الخلاص مرتبط بدين واحد لا غير هو الدين المسيحيّ، وأنّ التعدّديّة المعرفيّة ليست خطرًا على الأديان فحسب، ولكنها خطر على كلّ الثوابت الأخلاقيّة والمعرفيّة.
رابعًا: إذا كان جون هيغ قد قال من خلال دفاعه عن التعدّديّة الدينيّة بصحة الأديان كلّها؛ لأنّها تعبّر عن الحقيقة بنسبٍ وصورٍ مختلفة؛ دفعًا للصراع بين أتباعها، ونفيًا لادّعاء حصريّة النجاة في واحدٍ منها، فإنّ كثيرًا من الفلاسفة الغربيّين قد تابعوه في ذلك ممن سبق ذكرهم في ثنايا هذه الدراسة، ووجدَت دعوته صدىً عند بعض المفكّرين العرب والمسلمين من أمثال محمد أركون وعبد الكريم سروش. ولكنّها– في الوقت نفسه- لاقت رفضًا من كثير من الفلاسفة المهمّين في الغرب الذين تبنّوا النزعة الانحصاريّة، ومن أشهرهم ألفين بلانتينغا، وغافين دي كوستا، وكارل بارث وغيرهم، والغالب الأعم من المفكّرين العرب المسلمين.
خامسًا: وفي الختام، لا يعدو مفهوم التعدّدية عن كونه دعوة إلى التشكيك في القيم والتعليمات والأحكام والتصوّرات التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم السلام من عند الله عز وجلّ. وأنّه دعوة غربيّة ظهرت في عصر النهضة عندما حاول الغربيّون إحياء مُخلَّفات الفلسفة اليونانيّة، وظلّت حبيسة الإطار الفلسفيّ حتى لاقت رواجًا في بدايات القرن العشرين مع الفلاسفة الأميركان والإنجليز من أمثال وليم جيمس وبرتراند رسل اللذين لاقت آراؤهما قبولًا ورواجًا في المناخ السائد بين العلماء آنذاك، حيث فشلت العلوم التجريبيّة في حلّ كثير من معضلات الكون. كما لاقى مفهوم التعدّديَّة الدّينيَّة ترحيبًا في إطار الرغبة في فهم جديد للدين يتوافق مع العلمانيّة الأوروبيّة، ويتوافق مع الوضع الديموغرافيّ الجديد لأوروبا الذي بات يضمّ عشرات الأديان الموجودة الوافدة من كلّ بقاع الأرض؛ من أجل ضمان التعايش السلميّ بين أتباع هذه الديانات.
المصادر والمراجع
أوّلًا- المصادر والمراجع العربيّة:
إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفيّ، مجمع اللغة العربيّة، القاهرة، الهيئة العامّة لشؤون المطابع الأميريّة، 1983.
أبو الأعلى المودوديّ، الإسلام في مواجهة التحدّيات المعاصرة، تعريب خليل أحمد الحامديّ، الكويت، دار القلم، الطبعة الرابعة، 1980.
أبو الفيض محمد بن محمد بن عبدالرزّاق الحسينيّ الزبيديّ، تاج العروس من جواهر القاموس، بيروت، دار الهداية، ج1، د.ت.
ابن منظور الإفريقيّ المصريّ، لسان العرب، المجلّد الثالث، تحقيق جملة من المحقّقين، بيروت، دار صادر، د.ت.
أحمد عمر هاشم، الحرّيّة الدّينيَّة، مجلّة الأزهر، مجمع البحوث الإسلاميّة، عدد رمضان، الجزء9، السنة 85، رمضان 1433هـ/ أغسطس2012.
أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربيّة المعاصرة، ج2، القاهرة، عالم الكتب، ط1، 2008.
جعفر السبحاني، التعدّديَّة الدّينيَّة- نقد وتحليل، مقالة ضمن كتاب: رسائل ومقالات تبحث في مواضيع فلسفيّة وكلاميّة وفقهيّة، وفيها الدعوة إلى التقريب بين المذاهب،ج2، قم-إيران، مؤسّسة الإمام الصادقA، 1421هـ.
جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة منى أبو سنة، القاهرة، المركز القوميّ للترجمة، الطبعة الأولى، 1997.
حيدر حبّ الله، التعدّديَّة الدّينيَّة- نظرة في المذهب البلوراليّ، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2001.
سامي شهيد مشكور، الحوار والتسامح في الخطاب القرآنيّ، مقال ضمن كتاب: التعدّديَّة الدّينيَّة وآليّات الحوار، تأليف: مجموعة من الأكاديميّين، إشراف وتحرير عامر عبد زيد الوائليّ، الجزائر، دار ابن النديم للنشر والتوزيع/ بيروت، دار الروافد الثقافية- ناشرون، الطبعة الأولى، 2016.
صالح بن عبدالله الحصين، التسامح والعدوانيّة بين الإسلام والغرب، الرياض، بدون دار نشر، 1429 هـ.
عبدالكريم سروش، الصراطات المستقيمة- قراءة جديدة لنظريّة التعدّديَّة الدّينيَّة، ترجمة أحمد القبانجي، النجف، دار الفكر الجديد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، د.ت.
علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011.
علي أكبر رشاد، البلوراليّة الدّينيَّة وتحدّي المعيار، حوار مع البروفيسور جون هيغ، ضمن كتاب فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011.
غيضان السيّد علي، فلسفة الدين المصطلح من الإرهاصات إلى التكوين العلميّ الراهن، بيروت، العتبة العباسيّة المقدّسة، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، 1440 هـ/2019.
فريال حسن خليفة، الفلسفة والتسامح والبيئة، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط1، 2006.
قدور سلاط، علاقة المسلمين باليهود من خلال القرآن الكريم، رسالة ماجستير، الجزائر، كلّيّة العلوم الاجتماعيّة، جامعة باتنة، 2003.
محروس محمّد محروس، التعدّديَّة الدّينيَّة – رؤية نقديّة، مجلّة جامعة طيبة: للآداب والعلوم الإنسانيّة، السنة السادسة، العدد 12، 1438 هـ.
محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 4، 2005.
محمّد مجتهد شبستري، الإيمان والحرّيّة، ترجمة أحمد القبانجي، النجف، دار الفكر الجديد، 2007.
وجيه قانصو، التعدّديَّة الدّينيَّة عند جون هيغ- المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة، بيروت، الدار العربيّة للعلوم- ناشرون/ المغرب، المركز الثقافيّ العربيّ، الطبعة الأولى، 2007.
وهبة الزحيليّ، الحرّيّة الفكريّة (حرّيّة المعتقد، حرّيّة الفكر، حرّيّة التجنّس)، مجلّة كلّيّة العلوم الإسلاميّة- الصراط، جامعة الجزائر، السنة الثانية، العدد الخامس، محرم 1423 هـ/ مارس2002م.
ثانيًا- المصادر والمراجع باللغة الإنكليزيّة
Brian Hebblethwaite, Christianity and other Religions: Selected Readings, (eds), one world, Oxford, 2001.
John Hick, God Has Many Names: Britainss New Religious Pluralism, The Macmillan Press LTD, London, First Published, 1980.
John Hick, The possibility of Religious Pluralism: A Reply to Gavin Dscosta, Religious Studies, Cambridge University Press, Vol. 33, No. 2, (Jun., 1997).
John Hick, Dialogues in the Philosophy of Religion, Palgrave, First publish, New York, 2001.
Karl Barth, The Revelation of God as the Abolition of Religion, John Hick and Brian Hebblethwaite, eds, Christianity and other Religions: Selected Readings, One world, Oxford, 2001.
Karl Rahner, Christian Living Formerly and Today”, Theological Investigations, Vol. 7, trans. David Bourke , New York: Herder and Herder, 1971.
Karl Rahner, Meditations on the Sacraments, Seabury press, New York,1977.
Karl Rahner, Christianity and the Non-Christian Religions, John Hick and Brian Hebblethwaite,eds, Christianity and other Religions: Selected Readings, One world, Oxford, 2001.
Wilfred Cantwell Smith, The Meaning and End of Religion, Minneapolis: Fortress Press, 1991.
ثالثًا- المواقع الإلكترونيّة
عدنان المقراني- عامر الحافي، التعدّديَّة الدّينيَّة من منظور قرآنيّ- قراءة تأسيسيّة، بحث محكم منشور على موقع مؤمنون بلا حدود، ص4. على الموقع الإلكترونيّ التالي:
https://www.mominoun.com/pdf1/2019-03/Al%20Taadodiae%20Al%20Dinia.pdf
————————————
[1]*- باحثة في الفلسفة الحديثة – جمهوريّة مصر العربيّة.
[2]– ابوالفيض محمّد بن محمّد بن عبدالرزاق الحسينيّ الزبيديّ، تاج العروس من جواهر القاموس، بيروت، دار الهداية، ج1، د.ت، ص 353.
[3]– ابن منظور الافريقيّ المصريّ، لسان العرب، المجلد الثالث، تحقيق جملة من المحقّقين، بيروت، دار صادر ، د.ت، ص 282 وما بعدها.
[4]– احمد مختار عمر، معجم اللغة العربيّة المعاصرة، ج2، القاهرة، عالم الكتب، ط1، 2008 ، ص1464.
[5]– المعجم الفلسفيّ، مجمع اللغة العربيّة، القاهرة، الهيئة العامّة لشئون المطابع الأميريّة، 1983، ص48.
[6]– حيدر حب الله، التعدّديّة الدينيّة- نظرة في المذهب البلوراليّ، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2001، ص 34.
[7]– انظر: علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011، ص 183-187.
[8]– محروس محمّد محروس، التعدّديّة الدينيّة – رؤية نقديّة، مجلّة جامعة طيبة: للآداب والعلوم الإنسانيّة، السنة السادسة، العدد 12، 1438 ه، ص 418.
[9]– يعد جون هيغ من أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين نادوا بالتعدّديّة الدينيّة، وهو فيلسوف إنجليزيّ استدعي للقتال في الحرب العالميّة الثانية، لكنه رفض القتال لأسباب أخلاقيّة وتطوّع في وحدة إسعاف الأصدقاء(الكواكرز). عاد إلى أدنبرة بعد الحرب وانجذب إلى فلسفة كانط، واهتمّ اهتمامًا فائقًا بفلسفة الدين حتى صار أحد أهمّ الأعلام المعاصرين في هذا التخصّص، فمن وظائفه الأكاديميّة أستاذ (دانفورث) الفخريّ لفلسفة الدين في جامعة كليرمونت للخرّيجين في كاليفورنيا، وأستاذ الثيولوجيا الفخريّ في جامعة برمنجهام، وكان نائب رئيس الجمعيّة البريطانيّة لفلسفة الدين، ونائب رئيس الكونغرس العالميّ للأديان. وقد ترجمت مؤلفاته إلى 17 لغة ، ومن أشهرها:(الإيمان والمعرفة 1957، الشر وإله الحب 2007، الموت والحياة الأبديّة 1976، تفسير الدين 2004، استعارة الله المتجسِّد 2005).
[10]– محروس محمّد محروس، التعدّديّة الدينيّة – رؤية نقديّة، ص 420.
[11]– John Hick, Dialogues in the Philosophy of Religion, Palgrave, First publish, New York, 2001,p. VII.
[12]– نقلًا عن وجيه قانصو، التعدّديّة الدينيّة عند جون هيغ- المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة ، بيروت، الدار العربيّة للعلوم- ناشرون/ المغرب، المركز الثقافيّ العربيّ، الطبعة الأولى، 2007، ص 69.
[13]– نقلًا عن وجيه قانصو، التعدّديّة الدينيّة عند جون هيغ- المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة ، بيروت، الدار العربيّة للعلوم- ناشرون/ المغرب، المركز الثقافيّ العربيّ، الطبعة الأولى، ص69.
[14]– فردريك شلايرماخر: فيلسوف ولاهوتيّ ألمانيّ عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عنيَ بموضوع التعدّديّة الدينيّة وكان أكثر المؤثّرين في جون هيغ، اعتبر الدين مسألة شخصيّة وخاصّة، ذاع صيته عقب تأليفه كتاب «عن الدين – خطابات لمحتقريه من المثقّفين»1799م، الذي أثار سجالًا واسعًا ومؤاخذات وتساؤلات جمّة أجاب عنها شلايرماخر في كتاب « مناجاة النفس» 1800م، قام بالتعاون مع شليغل بترجمة آثار أفلاطون ثم استكملها بمفرده في خمس مجلدات. ترك عدّة مؤّلفات منها: الإيمان المسيحيّ طبقًا لمبادئ الكنيسة الإنجيليّة، الأخلاق الفلسفيّة، دروس في علم الجمال.
[15]– John Hick, God Has Many Names: Britainss New Religious Pluralism, The Macmillan Press LTD, London, First Published,1980, p.28.
[16]– فريال حسن خليفة، الفلسفة والتسامح والبيئة، القاهرة ، مكتبة مدبولي، ط1، 2006، ص39-40.
[17]– جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة منى أبو سنة، القاهرة، المركز القوميّ للترجمة، الطبعة الأولى، 1997، ص 24.
[18]– وُلد القس بريان ليزلي هبليثويت في بريستول عام 1939 لأب يشغل منصب عمدة المدينة، تخرّج في جامعة أوكسفورد، ورُسم في الكهنوت بكنيسة انجلترا عام 1966، وعمل محاضرًا لفلسفة الدين في كلّيّة اللاهوت بكامبردج من 1973 حتى 1999. ومن أشهر مؤلَّفاته: الشر والمعاناة والدين ( 1976)، مشاكل اللاهوت (1980)، كفاية الأخلاق المسيحيّة (1981)، الأمل المسيحيّ (1984)، محيط الحقيقة: دفاع عن الإيمان الموضوعيّ ( 1988)، جوهر المسيحيّة (1996)، الأخلاق والدين في عصر التعدّديّة( 1997)، اللاهوت الفلسفيّ والعقيدة المسيحيّة ( 2004)، دفاعًا عن المسيحيّةل (2005)، شارك جون هيغ في تحرير كتاب : المسيحيّة والأديان الأخرى (1980).
[19]– Brian Hebblethwaite, Christianity and other Religions: Selected Readings, one world, Oxford, 2001, (Intrudction.pp.1 -2).
[20]– كارل رانر: كاهن وعالم لاهوت يسوعيّ ألمانيّ، عمل أستاذًا للاهوت والفلسفة بجامعة إنسبروك بعد الحرب العالميّة الثانية، وعمل أستاذًا للمسيحيّة وفلسفة الدين في جامعة ميونيخ ما بين عامي 1964 – 1967، بعد ذلك تمّ تعيينه أستاذ كرسيّ اللاهوت العقائديّ في كلّيّة اللاهوت الكاثوليكيّة في جامعة مونستر ومكث به حتّى تقاعده عام 1971، ثم عمل كاتبًا ومحاضرًا نشطًا، كتب ونشر العديد من المقالات التي لاقت رواجًا كبيرًا. وهو من أنصار «التعدّديّة الدينيّة» و« وحدة الكنيسة في الكاثوليكيّة»، ومن أهمّ أعماله : التحقيقات اللاهوتيّة، المسيحيّون المجهولون.
[21]– غيضان السيد علي، فلسفة الدين المصطلح من الإرهاصات إلى التكوين العلمي الراهن، بيروت، العتبة العباسية المقدسة،المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1440 هـ/2019، ص 154.
[22]– Karl Rahner, Meditations on the Sacraments, Seabury press, New York, 1977, Introduction, p. xi.
[23]– Karl Rahner, Christian Living Formerly and Today”, Theological Investigations, Vol. 7, trans. David Bourke , New York: Herder and Herder, 1971, p. 15.
[24]– انظر: علي أكبر رشاد، البلوراليّة الدينيّة وتحدّي المعيار، حوار مع البروفيسور جون هيغ، ضمن كتاب فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011، ص 183-187.
[25]– علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، ص 172.
[26]– عدنان المقراني- عامر الحافي، التعدّديّة الدينيّة من منظور قرآنيّ-قراءة تأسيسيّة، بحث محكم منشور على موقع مؤمنون بلا حدود، ص4. على الموقع الإلكترونيّ التالي:
https://www.mominoun.com/pdf1/2019-03/Al%20Taadodiae%20Al%20Dinia.pdf تم الدخول عليه في 15/8/2021.
[27]– عدنان المقراني- عامر الحافي، التعدّديّة الدينيّة من منظور قرآنيّ-قراءة تأسيسيّة، ص4.
[28]) (Karl Rahner, Christianity and the Non-Christian Religions, John Hick and Brian Hebblethwaite, eds, Christianity and other Religions: Selected Readings, One world, Oxford, 2001, pp.19-38.
[29]– ويلفريد كانتويل سميث طبيب وفيلسوف كَنَدي، أولى اهتمامًا كبيرًا لمقارنة الأديان، دَرَسَ في كامبريدج ودرَّس في العديد من الجامعات بما في ذلك جامعة هارفارد (حيث أدار مركز دراسة أديان العالم). كما عمل بجامعة ماكيجل MacGill وأسس بها معهدًا للدراسات الإسلاميّة عُرف بمعهد جامعة ماكيجل للدراسات الإسلاميّة، رغم كونه مسيحيًّا مؤمنًا. من أشهر مؤلَّفاته : «معنى الدين وغايته» و«مقارنة الأديان».
[30]– Wilfred Cantwell Smith, The Meaning and End of Religion, Minneapolis: Fortress Press, 1991,( Introduction) p. V-VI.
[31]– Ibid,p.327.
[32]– وجيه قانصو، التعدّديّة الدينيّة في فلسفة جون هيغ، ص116.
[33]– المرجع السابق، ص 117.
[34]– المرجع نفسه.
[35]– المرجع السابق، ص 118.
[36]()علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، ص 172-173.
[37]– سامي شهيد مشكور، الحوار والتسامح في الخطاب القرآني، مقال ضمن كتاب : التعدّديّة الدينيّة وآليات الحوار، تأليف: مجموعة من الأكاديميين، إشراف وتحرير عامر عبد زيد الوائلي، الجزائر، دار ابن النديم للنشر والتوزيع/ بيروت، دار الروافد الثقافية- ناشرون، الطبعة الأولى، ، 2016، ص419.
[38]– ألفين بلانتينغا فيلسوف تحليليّ ولاهوتيّ أمريكيّ، وأستاذ فخريّ للفلسفة بجامعة نوتردام، وهو معروف في الأوساط الأكاديميّة بـ «دفاع الإرادة الحرّة» لدحض المشكلة المنطقيّة للشرّ. له العديد من المؤلّفات التي لاقت رواجًا في الأوساط الفلسفيّة، منها: الله والعقول الأخرى (1967)، الله والحرّيّة والشر ( 1974)، طبيعة الضرورة (1974)، الإيمان المسيحيّ المبرّر (2000).
[39]– كارل بارث: عالم لاهوت كالفينيّ سويسريّ، درس في جامعات برن وبرلين وتوبنغن وماربورج تحت قيادة الليبراليّين المشهورين في ذلك الوقت من أمثال « أودلف فون هارناك»، استاء من الضعف الأخلاقيّ في اللاهوت الليبراليّ وعكف على دراسة الكتاب المقدّس وخاصّة «رسالة بولس إلى أهل رومية» وخرج باقتناع كامل حول الحقيقة المنتصرة لقيامة المسيح، والتي أثّرت بعمق على لاهوته. عُيّن أستاذًا للاهوت الإصلاحيّ في جامعة غوتنغن، ونشر أعمالًا تنتقد اللاهوت البروتستانتيّ في القرن التاسع عشر، ودراسة شهيرة عن القديس أنسلم. وصفه البابا بيوس الثاني عشر XII Pope Pius بأنّه أعظم عالم لاهوت منذ توما الإكويني.
[40]– Karl Barth, The Revelation of God as the Abolition of Religion, John Hick and Brian Hebblethwaite, eds, Christianity and other Religions: Selected Readings, One world, Oxford, 2001, p.6.
[41]– غافين دي كوستا أستاذ اللاهوت الكاثوليكيّ بجامعة بريستول بانجلترا ، شغل منصب رئيس قسم الدراسات اللاهوتيّة والدينيّة، ويحاضر في جامعة بريستول منذ عام 1993. له العديد من المؤلّفات منها: المسيحيّة وديانات العالم (أسئلة متنازع عليها في لاهوت الأديان)، الكنيسة الكاثوليكيّة وديانات العالم ( حساب لاهوتيّ وظاهريّ)، لقاء الأديان والثالوث (الإيمان يلتقي الإيمان)، اللاهوت في الفضاء العام(الكنيسة، الأكاديميّة، الأمّة).
[42]– see, John Hick, The possibility of Religious Pluralism: A Reply to Gavin Dscosta, Religious Studies, Vol. 33, No. 2, (Jun., 1997), Cambridge University Press, p.161.
[43]– أبو الأعلى المودودي، الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، تعريب خليل أحمد الحامدي، الكويت ، دار القلم، الطبعة الرابعة، 1980، ص 191.
[44]– المرجع السابق، ص196
[45]– عبدالكريم سروش، الصراطات المستقيمة- قراءة جديدة لنظريّة التعدّديّة الدينيّة، ترجمة أحمد القبانجي، النجف، دار الفكر الجديد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، د.ت، ص3.
[46]– الشيخ جعفر السبحاني، التعدّديّة الدينيّة- نقد وتحليل، مقالة ضمن كتاب: رسائل ومقالات تبحث في مواضيع فلسفيّة وكلاميّة وفقهيّة وفيها الدعوة إلى التقريب بين المذاهب،ج2، قم-إيران، مؤسسة الإمام الصادقA، 1421ه، ص320-321.
[47]– المرجع السابق، ص321.
[48]– عبدالكريم سروش، الصراطات المستقيمة- قراءة جديدة لنظريّة التعدّديّة الدينيّة، ص30-31.
[49]– محمد مجتهد شبستري، الإيمان والحرّيّة، ترجمة أحمد القبانجي، النجف، دار الفكر الجديد، 2007، ص78.
[50]– علي أكبر رشاد، البلوراليّة الدينيّة وتحدي المعيار، حوار مع البروفسور جون هِيك، ص 184.
[51]– المرجع السابق، ص184.
[52]– المرجع نفسه.
[53]– عبدالكريم سروش، الصراطات المستقيمة- قراءة جديدة لنظريّة التعدّديّة الدينيّة ، ص46.
[54]– علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، مرجع سبق ذكره، ص 166.
[55]– المرجع السابق، ص 173.
[56]()المرجع السابق، ص 185.
[57]– المرجع نفسه.
[58]– أحمد عمر هاشم، الحرّيّة الدينيّة، مجلّة الأزهر، مجمع البحوث الإسلاميّة، عدد رمضان، الجزء9، السنة 85، رمضان 1433ه/ أغسطس2012،ص 2058.
[59]()محمّد الغزالي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط4،2005، ص 75.
[60]– قدور سلاط، علاقة المسلمين باليهود من خلال القرآن الكريم، رسالة ماجستير، الجزائر، كلّيّة العلوم الاجتماعيّة، جامعة باتنة، 2003، ص102.
[61]– صالح بن عبدالله الحصين، التسامح والعدوانيّة بين الإسلام والغرب، الرياض، 1429 ه، ص108-109.