الدراسات والبحوث

الأمير عبد القادر الجزائري والفتوَّة

عبد الباقي مفتاح

الأمير عبد القادر الجزائري والفتوَّة

عبد الباقي مفتاح

قمار، ولاية الوادي، الجزائر

 

الملخَّص:

الأمير عبد القادر في تقدير جُلّ من عاشروه هو نموذج كامل لفتوة: “أنا هو أنت” في الميدانين العرفاني والعملي. ومن الصعب استقصاء مآثر الأمير فيهما، إذ أن مكارم أخلاق الفتوة تلمع فياضة من كل سيرته الفريدة. إن الدوافع التي جعلت الأمير نموذجا للسماحة المطلقة، والتفتح العاقل، والاطلاع الواسع، والرحمة بجميع الخلق، هي تخلقه بالقرآن الكريم، وتربيته الروحية في أحضان الصوفية. فالأمير كان الوارث الأكبر لهذه الأخلاق القرآنية المحمدية الأكبرية. ثم إن صحبته طول حياته للصوفية وتحققه بأذواقهم العالية رسخت فيه تلك الأخلاق. وقد نهل الأمير من مشارب أربع طرق صوفية: القادرية والنقشبندية والمولوية والدرقاوية الشاذلية. فمثلا علاقات الأمير بغير المسلمين هي امتداد لما كانت عليه معاملات شيوخ تلك الطرق معهم. وهو ما جعل الكثير منهم يسلمون على أيدي أولئك الشيوخ.

 

الكلمات الدالَّة:

الأمير، التسامح، الفتوة، التصوُّف، الأخلاق.

***

Emir Abdelkader al Jazairi and youth

Abdelbaki Meftah
Guemar wilaya of El Oued, Algeria

Abstract:

Emir Abdelkader, in the estimation of a large number of his associates, is a complete example of the youth: “I am you” in the civil and practical fields. It is difficult to investigate the Emir’s exploits in them, as the generosity of the youth’s morals shines in an overflow from his unique biography. The motives that made the Emir a model of absolute tolerance, rational openness, wide awareness, and compassion for all creation are his creation with the Holy Qur’an, and his spiritual education in the bosom of Sufism. The Emir was the greatest inheritor of this Akbarian Mohammedan Quranic morals. Moreover, his long life accompaniment of Sufism and achieving it with their high tastes strengthened in him those morals. The Emir drew from the paths of four Sufi ways: the Qadiriya, the Naqshbandia, the Mawlawia, and the Darqawia al-Shadhilia. For example, the Emir’s relations with non-Muslims are an extension of what the sheikhs of those roads had with them. Which made many of them convert to Islam at the hands of these sheikhs.

Keywords:

Emir, tolerance, youth, mysticism, morality.

***

النص:

اخترت مداخلة بعنوان: “الأمير عبد القادر الجزائري فتى: أنا هو أنت”. للأسباب التالية: أولا: إشارة إلى مقام الفتوة الذي يتمحور حول فناء الأنانية الشخصية بالبقاء في “خدمة الآخرين” وهو ما يتحقق به في سلوكهم رجال التربية الروحية، للشيخ محي الدين بن العربي (560-638هـ)، أستاذ الأمير عبد القادر (1222-1300هـ)، يعرف الفتوة فيقول: “الفتوة على الحقيقة إظهار الآلاء والمنن وستر المنة والامتنان كما قال تعالى: “لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى”. (البقرة، الآية 264)”(1).

ثانيا: في العنوان إشارة إلى مقولة صوفية تلخص كيفية الصلة بين الأفراد في المستويات الثلاثة للدين التي بينها الحديث النبوي المشهور أي الإسلام والإيمان والإحسان، وهي قولهم: “عموم الشريعة: أنا أنا وأنت أنت، وطريقتها: أنا أنت وأنت أنا، وحقيقتها: لا أنا ولا أنت بل هو”. أي أن ظاهر الشريعة يتعلق بالنفس وبالحس في دائرة: “كل نفس بما كسبت رهينة” (المدثر، الآية 38)، “ولا تزر وازرة وزر أخرى” (الأنعام، الآية 164). وأما طريقة الشريعة فهي تتعلق بالقلب، وحين تصقل مرآته تتجلى فيه حقيقة: “أنا أنت وأنت أنا” كما قال النبي (ص): “المؤمن مرآة أخيه”. “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، ليست أخوة الدين فقط بل أخوة الإنسانية أيضا. وأما حقيقة الشريعة فلها الروح، والروح من أمر الله، وأمره واحد: “وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر” (القمر، الآية 50). فلا أنا ولا أنت بل هو: تحققا بقوله تعالى: “فأينما تولوا فثم وجه الله” (البقرة، الآية 115).

ثالثا: اخترت الحديث حول الأمير عبد القادر لأنه في تقدير جل من عاشروه هو نموذج كامل لفتوة: “أنا هو أنت” في الميدانين العرفاني والعملي. ومن الصعب استقصاء مآثر الأمير فيهما، إذ أن مكارم أخلاق الفتوة تلمع فياضة من كل ثنايا سيرته الفريدة، وسأكتفي منها بلمحات:

أولا: في المجال العرفاني السامي لا نجد أحسن شاهد عن تحقق الأمير وتخلقه بحقيقة وأخلاق “أنا هو أنت” من كتابه المواقف الرائع الجريء جراءة فروسية شهامته الهاشمية، ففي العديد من فصوله عبر بكل وضوح كيف ينبغي أن تكون وشائج المعاملة الصحيحة بين (أنا) و(الآخر). وموقفه في هذا الموضوع يعتمد على حقائق عر فانية، لا على عواطف نفسية، وأهمها أربعة قواعد:

القاعدة الأولى: هي أن المجتهد في الأصول العقائدية مأجور إن أصاب، ومعذور إن أخطأ إذا بذل كل وسعه في صدق الاجتهاد، في الموقف 121 المفتتح بما ورد في صحيح البخاري وغيره عن النبي (ص): “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد” يقول الأمير عن هذا الحديث أنه: “أعم في الحاكم المجتهد في الفروع الشرعية، أو الأصول العقلية الاعتقادية، إذ لا فرق بينهما عند العارفين بالله – تعالى -، أهل الكشف والوجود، فإن كل واحد من المجتهدين في الفروع والأصول فعل ما كلف به، وبذل وسعه، فوصل إلى ما أداه اجتهاده: “لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها” (الطلاق، الآية 7)، و”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (البقرة، الآية 286). وقد أنكر عامة أهل السنة والمعتزلة، غير أهل الكشف، القول بأن كل مجتهد في الأصول الاعتقادية مصيب، ونسبوه إلى الكفر، وقرره العارفون بالله، وهو الحق، وقالوا: المجتهد في العقليات، إذا وفى النظر حقه وأخطأ فهو معذور، ويريدون المجتهد نفسه لا من قلده”.

وفي آخر الموقف 229 يؤكد هذه القاعدة الأساسية المزيلة لكل تعصب ثم يقول: “ووافق – أي في هذه المسألة – أهل الله حجة الإسلام الغزالي نظرا في كتابه “التفرقة بين الإيمان والكفر والزندقة”، وإلا فهو من أكابر أهل الله، ووافقهم أبو الحسين العنبري والجاحظ من المعتزلة”(2).

القاعدة الثانية: وهي من مستلزمات القاعدة الأولى السابقة، ضرورة حماية حرية العقيدة، هذه الحرية التي هي من أهم أسس الإسلام كما هو واضح في غاية الجلاء في الكثير من آيات القرآن لقوله تعالى: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف، الآية 29). وقوله: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (البقرة، الآية 256). يقول الأمير في إحدى رسائله: “إن تطبيق التسامح يتمثل في عدم إكراه أي مؤمن بدين على ترك دينه. وكل الشرائع الإلهية، سواء الإسلام وغيره، متفقة في هذه المسألة”(3).

القاعدة الثالثة: وهي مكملة للقاعدة الثانية، مرجعها لخطاب الله تعالى جميع الناس – لا المؤمن فقط – بقوله: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم” (الحجرات، الآية 12). أي أن اختلاف الأمم في نحلهم ومللهم ومعاشاتهم ينبغي أن يكون حافزا لتلاقح المعارف وتكامل المصالح لا للتنازع. ولهذا فالحرب – في نظر الأمير وهو المجاهد المغوار- لا تكون مشروعة إلا في حالة الدفاع عن النفس وفي أضيق الحدود ولا يكون هدفها إلا استتباب وهيمنة السلام. وأطنب الأمير في العديد من مواقفه – كالموقفين 69 و71 مثلا – في بيان أن الجهاد الأكبر هو جهاد هوى النفس الأمارة بالسوء بتحليها بالفضائل النافعة الرحيمة بجميع الخلق لقول النبي (ص): “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فلنستمع إليه وهو يشرح في الموقف 73 قوله عليه الصلاة والسلام: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”. أخرجه البيهقي: “إنه – عليه الصلاة والسلام – سمى جهاد الكفار أصغر، لكون جهاد الكفار وقتلهم ليس مقصودا للشارع بالذات. إذ ليس المقصود من الجهاد إهلاك مخلوقات الله وإعدامهم وهدم بنيان الرب – تعالى- وتخريب بلاده، فإنه ضد الحكمة الإلهية. فإن الحق – تعالى- ما خلق شيئا في السماوات والأرض وفي ما بينهما عبثا. وما خلق الجن ولإنس إلا لعبادته، وهم عابدون له، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. وإنما مقصود الشارع دفع شر الكفار وقطع أذاهم عن المسلمين، لأن شوكة الكفار إذا قويت أضرت بالمسلمين في دينهم ودنياهم، كما قال تعالى: “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا” (الحج، الآية 40). فلو فرض أنه لا يلحق المسلمين أذى من الكافرين، ما أبيح قتلهم، فضلا عن التقرب به إلى الله تعالى. بخلاف جهاد النفس وتزكيتها، فإنه مقصود لذاته، إذ في جهادها تزكيتها وفي تزكيتها فلاحها ومعرفة ربها. والمعرفة هي المقصودة بالحب الإلهي في الإيجاد (…) ولا ريب أن المقصود لذاته أكبر من المقصود لغيره”.

القاعدة الرابعة: وهي المتوجة للقواعد الثلاثة السابقة هي مشاهدة الحق تعالى في كل اعتقاد، وهو ما عبر عنه في الموقف 246 الذي افتتحه بقوله تعالى: “وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون” (العنكبوت، الآية 46). فيقول ما خلاصته: “فإلهنا وإله كل طائفة من الطوائف المخالفة لنا واحد وحدة حقيقية… وإن تباينت تجلياته ما بين إطلاق وتقييد وتنزيه وتشبيه. وتنوعت ظهورا ته، فظهر للمحمديين مطلقا عن كل صورة في حال ظهوره في كل صورة من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج، وظهر للنصارى مقيدا بالمسيح والرهبان، ولليهود في عزير والأحبار، وللمجوس في النار، وللثنوية في النور والظلمة، وظهر لكل عابد شيء من ذلك الشيء من حجر وشجر وحيوان ونحو ذلك، فما عبد العابدون الصور المقيدة لذاتها، ولكن عبدوا ما تجلى لهم في تلك الصورة من صفات الإله الحق – تعالى – فالمقصود بالعبادة واحد من جميع العابدين، إلا أن تجليه يتنوع بحسب استعداد المتجلى له، والمتجلي تعالى واحد في كل تنوع وظهور ما تغير من الأزل إلى الأبد. فاتفقت جميع الفرق في المعنى المقصود بالعبادة، فالكل مسلمون للإله الواحد فليس في العالم جاحد للإله مطلقا من طبائعي ودهري وغيرهما، وإن فهمت عباراته غير هذا فإنما ذلك لسوء التعبير. فالكفر في العالم كله إذن نسبي”(4).

وفي أبيات من قصيدة في مقدمة المواقف يعبر الأمير عن هذا المفهوم النابع من قوله تعالى: “ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض” (النحل، الآية 49). فيقول:

ففي أنا كل ما يأمله الورى فمن شاء قرآنا ومن شاء فرقانا
ومن شاء توراة ومن شاء إنجيلا ومن شاء مزمارا زابورا وتبيانا

معاني هذه الأبيات مطابقة لأبيات أخرى مشهورة للشيخ الأكبر محي الدين في ديوانه “ترجمان الأشواق” وهي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجت ركائبه فالحب ديني وإيماني

فهل معنى هذا أن الأمير والشيخ الأكبر يؤمنان بتكافؤ الأديان الناسخة والمنسوخة والعقائد القويمة والسقيمة؟

الجواب: كلا وحاشا. فسيرتهما وأعمالهما وأقوالهما الأخرى التي يصعب إحصاؤها كلها تنفي ذلك. وإنما ذلك تعبير عن شهود القهر الإلهي العام والإرادة النافذة للحق تعالى في خلقه سعيدهم وشقيهم، فهو الذي خلقهم وما يعملون وما يعتقدون، وجاعل كل حزب بما لديهم فرحين، فهو الهادي وهو المضل، وهو جاعل الظلمات والنور. فلنستمع للشيخ الأكبر وهو يشرح بنفسه أبياته السابقة في “ذخائر الأعلاق”، فيقول ما خلاصته: “إن في القلب صورة بيت الأوثان، كما كانت الحقائق المطلوبة للبشر قائمة به والتي يعبدون الله من أجلها، فسمى ذلك أوثانا، وأن قلبه مجلى لواردات العلوم العيسوية والموسوية من الدين المحمدي القائم على الحب، فما ثم دين أعلى من دين قام على المحبة والشوق، فإن محمد (ص) له من بين سائر الأنبياء مقام المحبة بكاملها وورثته على منهاجه”.

خلاصة القول في هذا الموضوع أنه ينبغي التمييز الواضح بين نظرية تكافؤ كل الأديان، وهو ما لا يقول به مسلم ولا متدين بدين آخر، ونظرية قبول الله تعالى لعبده المجتهد والباذل وسعه في طلب الحق ورضوانه، فهو مأجور إن أصاب ومعذور إن أخطأ، سواء في الأصول والفروع، وهذا ما يقول به الأمير وأمثاله من العارفين لأن القرآن يقرره، حسب فهمهم وكشفهم.

بعد هذه الجولة مع مفاهيم الأمير، يطرح السؤال: هل طبق الأمير في مواقفه العملية ما أعلنه في مواقفه العرفانية؟

الجواب بكل تأكيد: نعم. وأكتفي بالإشارة إلى حوادث في حياته بمراحلها الثلاث: الجهاد ثم السجن ثم الاستقرار في الشام.

أما خلال جهاده البطولي الطويل الذي دام خمس عشرة سنة، فحتى أشرس أعدائه اعترفوا بوسع رحمة إنسانيته ومثالية معاملاته خصوصا مع الأسرى والمغلوبين والمستضعفين، حتى أن السفاح الجنرال “بيجو” يشبهه في إحدى رسائله بالمسيح(5). قصده مرة أحد الأساقفة الفرنسيين للتفاوض معه قصد إرسال رجل دين لخدمة الأسرى من الجنود المسيحيين، فيستجيب الأمير لطلبه ويضيف قائلا: “إنني متأكد من أن عملي هذا يرضي ربي إذ أتيح لبعض عباده ذكر ربهم واتباع شرائع دينهم، لأن كل فرد يتبع دين آبائه، والله يحب العباد الصالحين”(6).

وحتى تحت وطأة شماتة الأعداء الذين نكثوا عهدهم فعوض تركه حرا ليذهب إلى المشرق عند ما وضع حدا لكفاحه سجنوه مع أمه العجوز ونحو المائة من رفقائه الأوفياء، مات منهم نحو الخمسة والعشرين في الاعتقال، رغم تلك الشدائد المرة لم تتغير سماحة هذا الشهم أمير الجهادين الأصغر والأكبر، وإلى ذلك يشير الجنرال “دو ماس” الذي كان مكلفا بحراسته في السجن في رسالة بعثها إلى أسقف الجزائر “دو بوش” الذي كانت له مع الأمير مراسلات، فيخاطبه قائلا يصف حالة الأمير في السجن: “إنك ستجده أعظم وأجل في محنته منه في عزه، انه ما يزال كما عرف عنه يسموا إلى أعلى الدرجات. إنك ستجده معتدلا بسيطا جذابا متواضعا ثابتا لا يشكوا أبدا، معتذرا لأعدائه – حتى أولئك الذين ما زال يمكن أن يعاني على أيديهم كثيرا – ولا يسمح أبدا أن يذكروا بسوء في حضرته. ورغم أنه قد يشكوا عن حق من المسلمين أو المسيحيين، فإنهم سواء يجدون منه الصفح”(7).

وفي سنة (1269هـ-1852م) يطلق سراح الأمير، ويلقاه بباريس الجندي الفرنسي (Hyppolyte Langlois) الذي كان أسيرا عند الأمير من قبل، وتحدث “لانغلوا” عن هذا اللقاء في كتابه: “مذكرات أسير عند عبد القادر” فقال: “إنني رأيت الرجل نفسه بوجهه الرصين، وبنظرته الملهمة، وكلامه القليل، عليه مسحة الأنبياء، فكأنه كان يعيش في عالم علوي مترفعا عن كل مبتذل”(8).

هذا ومن المشهور الموقف الشجاع لفتوة الأمير حين تزعم المهاجرين الجزائريين في الشام لإنقاذ ما يربو على خمسة عشر ألف مسيحي من القتل في الفتنة التي اشتعلت في دمشق بين الدروز والنصارى سنة 1860 ووقف متحديا جموعا هائجة مندفعة لقتلهم ودوى بصوته قائلا: “إن الأديان وفي مقدمتها الدين الإسلامي أجل وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش أو صرخات بذالة تدوي بها أفواه الحثالة من القوم… أحذركم من أن تجعلوا لسلطان الجهل عليكم نصيبا، أو يكون له على نفوسكم سبيلا”.

وخطابه الحازم هذا ما كان إلا تطبيقا للحديث النبوي الشريف: “ألا من ظلم معاهدا أو ذميا أو أحدا من أهل الكتاب أو كلفه فوق طاقته أو أنقصه شيئا من حقه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة”(9).

وإنه لمن النبل المجيد أن نرى عملاقا آخر في الجهاد دفاعا عن وطنه، ويشبه كثيرا الأمير عبد القادر في سيرته وشخصيته ومراحل حياته، وهو إمام الطريقة النقشبندية الشيخ شاميل (1799-1871) الذي قاد الجهاد ضد الروس دفاعا عن بلده القوقاز نحو الثلاثين سنة، ثم سجن، وسعى الأمير في سراحه إلى أن تحقق، نراه وهو معتقل عند النصارى الروس يسارع إلى إرسال رسالة إلى الأمير يهنئه ويشكره على دفاعه عن نصارى الشام لما ظلموا ويذكر له الحديث الشريف السابق. ويجيبه الأمير بجواب، من جملة ما يقول فيه: “فإنه وصلني الأعز كتابكم، وسرني الألذ خطابكم، والذي بلغكم عنا، ورضيتم به منا، من حماية أهل الذمة والعهد، والذب على أنفسهم وأعراضهم بقدر الطاقة والجهد، هو – كما في كريم علمكم – مقتضى أوامر الشريعة السنية والمروءة الإنسانية، فإن شريعتنا متممة لمكارم الأخلاق، فهي مشتملة على جميع المحامد الموجبة للائتلاف… والبغي في كل الملل مذموم، ومرتعه وخيم ومرتكبه ملوم… فإنا لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدين وقلة الناصر للحق والمعين حتى صار يظن من لا علم له أن أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبلادة والجفوة. فصبر جميل والله المستعان”(10).

وفي نفس الموضوع يكاتبه أسقف الجزائر “بافي” (Pavy)، شاكرا صنيعه فيجيبه الأمير برسالة يقول له فيها ما خلاصته: “ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلا تطبيق لشرع الإسلام واحترام لحقوق الإنسان، لأن كل الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. إن كل الأديان من آدم إلى محمد عليهما السلام تعتمد على مبدأين: تعظيم الله جل جلاله والرحمة بمخلوقاته، وما عدا هذا، ففرعيات ليست بذات أهمية كبيرة. والشريعة المحمدية، من بين كل الشرائع، هي التي تعطي أكبر أهمية للاحترام والرحمة والرأفة وكل ما يعزز التآلف وينبذ التخالف. لكن المنتسبين للدين المحمدي ضيعوه فأضلهم الله، فجزاؤهم من جنس عملهم”(11).

إن الدوافع التي جعلت الأمير نموذجا للسماحة المطلقة، والتفتح العاقل، والإطلاع الواسع، والرحمة بجميع الخلق، هي تخلقه بالقرآن الكريم، وتربيته الروحية في أحضان الصوفية.

فمن القرآن سمع قول الله تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم” (الممتحنة، الآية 8). فانظر كيف قدم البر على القسط مع أهل الملل الأخرى، ومن القرآن تخلق الأمير بقول الله تعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت، الآية 46). فلم يقل: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالحسنى” بل بالتي هي أحسن، أي اجتهدوا في انتقاء أفضل وأجمل أساليب الحوار مع النصارى واليهود من أهل الكتاب، بل مع جميع الناس، فقال تعالى: “وقولوا للناس حسنا” (البقرة، 83). كما قال: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (النحل، 125). وبين أن الإسلام دين السلام وأن أفضل المعاملات مع الأعداء ليس الصراع، وإنما حسن العلاقة فقال: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم” (فصلت، الآيات 33-35).

ومن القرآن تعلم الأمير الإنصاف والموضوعية والأدب في الحوار مع المخالفين في العقيدة كما في قوله تعالى يعلمنا الخطاب معهم: “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ظلال مبين”، سبأ: 24. فليس هناك دعوى مسبقة باحتكار الحقيقة بل تحكيم للمنطق السليم بالبرهان المقنع. وكذلك قوله عز وجل: “قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون” (سبأ، الآية 25). فانظر كيف نسب المخاطبون أهل الحق الإجرام إلى أنفسهم كما يزعمه المخالفون لهم، ولم ينسبوه إلى من يخاطبونهم بل نسبوا إليهم العمل لا الإجرام، فهل فوق هذا الأدب الجم العظيم أدب؟ ونهى الحق تعالى عن الانحراف عن العدل مهما كان طغيان المتعدي فقال: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” (المائدة، الآية 8).

وقد تجسدت هذه الأخلاق القرآنية في من كان خلقه القرآن أي رسول الله (ص) الذي اختصر الحق تعالى غايات رسالته في وظيفة واحدة جامعة، وهي شمول الرحمة، فقال له: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء، الآية 107). وسبب نزول هذه الآية هو ما ذكره الأستاذ الروحي للأمير، الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، في الباب 34 من الفتوحات المكية، عند بيانه أن العارف الكامل هو المتحقق باسمه تعالى: (الرحمن) فهو رحيم بجميع الموجودات، ثم يقول: “قال تعالى لسيد هذا المقام، وهو محمد (ص) حين دعا على قبائل رعل وذكوان وعصية بالعذاب والانتقام لقتلهم غدرا نحو السبعين من خيار قراء الصحابة بعثهم النبي (ص) لتعليم القرآن وشريعة الإسلام، فقال النبي (ص) في دعائه عليهم: عليك بفلان وفلان، وذكر ما كان منهم، فقال الله له: إن الله ما بعثك سبابا ولا لعانا ولكن بعثك رحمة فنهاه عن الدعاء عليهم وسبهم (رغم إجرامهم الشنيع) وأنزل الله عز وجل عليه: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فعم العالم، أي لترحمهم وتدعو لهم لا عليهم، فيكون عوض قول: لعنهم الله، قول: تاب الله عليهم وهداهم، كما قال حين جرحوه: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون” يريد من كذبه من غير أهل الكتاب والمقلدة من أهل الكتاب…”.

فالأمير كان الوارث الأكبر لهذه الأخلاق القرآنية المحمدية الأكبرية. ثم إن صحبته طول حياته للصوفية وتحققه بأذواقهم العالية رسخت فيه تلك الأخلاق. وقد نهل الأمير من مشارب أربع طرق صوفية: القادرية والنقشبندية والمولوية والدرقاوية الشاذلية. فمثلا علاقات الأمير بغير المسلمين هي امتداد لما كانت عليه معاملات شيوخ تلك الطرق معهم. وهو ما جعل الكثير منهم يسلمون على أيدي أولئك الشيوخ، كما هو مشهور في سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 561هـ) الذي كان يقول: “فتشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، ولا أشرف من الخلق الحسن. أود لو كانت الدنيا بيدي أطعمها الجائع. لو جاءني ألف دينار لم تبت عندي”.

ومن المعلوم في سيرة إمام الطريقة المولوية جلال الدين الرومي (ت 672هـ) أنه لما خرجت جنازته ازدحم عليها أهل بلده، وشيعها حتى النصارى واليهود وهم يتلون الإنجيل والتوراة، وكان المسلمون ينحونهم فلا يتنحون، وبلغ ذلك حاكم البلد قونيه، فقال لرهبانهم: مالكم ولجنازة عالم مسلم فأجابوه: “به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا سيرة الأولياء الكاملين”.

نموذج آخر نجده في سيرة الشيخ العربي الدرقاوي (ت 1239هـ) إمام الدرقاوية الشاذلية، وهي الطريقة التي ختم بها الأمير تربيته الصوفية لما انخرط فيها وعمره 55 سنة على يد شيخه ومربيه الشيخ محمد الفاسي بمكة المكرمة. يقول الشيخ بوزيان الغريسي، وهو من علماء منطقة معسكر، في كتابه: “زمزم الأسرار في مناقب مولاي العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار” (مخطوط بالمكتبة العامة بالرباط، رقم 2339، ص 5): “سمعته أي الشيخ العربي الدرقاوي – رضي الله عنه – يقول: منذ سبعة أيام وأنا مريض من أجل بعض اليهود باتوا بزاويتنا ضيوفا وأطعمناهم ونسيت أن أهيئ لهم موضعا يرقدون فيه، وكانت الليلة باردة. وكان يقول: يهون علي أن تقطع رقبتي ولا أن أغضب مسلما”. فهؤلاء الرجال الربانيون هم الذين تربى الأمير عندهم، وشعارهم قول شيخهم الأكبر:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

وخير ما نختم به قول الله عز وجل: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة، الآية 62).

 

الهوامش:

 

1 – ابن عربي: الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، ج2، باب 146، ص 232.
2 – حول كون المجتهد في الأصول مأجورا أو معذورا ينظر، كتاب المواقف للأمير عبد القادر، دار اليقظة العربية، دمشق 1966.
3 – مجلة مسالك، العدد الثاني، جوان – جويلية 1998، ص 21.
4 – حول مشاهدة الحق في كل اعتقاد ينظر، الموقف 246، ص 561، و254، ص 767. وفي الفتوحات المكية، ج1، ص 238-589، ج2، ص 85-498. وفي فصوص الحكم لابن عربي الفصلان الرابع والسابع والعشرون.
5 – انظر،

  1. Chodkiewicz : Ecrits spirituels, Ed. Seuil, Paris 1982, p. 16.

6 – محمود بو عياد: عبد القادر والإنسان، مجلة الثقافة، عدد 75، ماي-جوان 1983، الجزائر، ص 282.
7 – شارل هنري تشرشل: حياة الأمير عبد القادر، ترجمة بلقاسم سعد الله، ط2، الجزائر 1982، ص 257-258.
8 – محمود بو عياد: المرجع السابق، ص 284.
9 – جواد المرابط: تصوف الأمير عبد القادر، دمشق 1966، ص 46.
10 – الأمير محمد بن الأمير عبد القادر: تحفة الزائر، الإسكندرية 1903، ج2، ص 114. حول العلاقات والمقارنات بين الأمير عبد القادر والإمام شاميل، ينظر، كتاب بوعلام بسايح بالفرنسية:

De l’Emir Abdelkader à l’imam Chamyl.

11 – مجلة مسالك، العدد الثاني، جوان – جويلية 1998، ص 21.

References:

1 – Al-Murābit, Jawād: Taṣawwuf al-Amīr ‘Abd al-Qādir, Damascus 1966.
2 – Bessaih, Boualem: De l’Emir Abdelkader à l’Imam Chamyl.
3 – Bouayad, Mahmoud: Abdelkader wa al-insān, Majallat al-Thaqāfa, N° 75, May-June 1983, Alger.
4 – Chodkiewicz, M.: Ecrits spirituels, Ed. Seuil, Paris 1982.
5 – Churchill, Charles Henry: Ḥayāt al-Amīr ‘Abd al-Qādir, (The life of Abdel Kader), translated by Abou el-Kacem Saâdallah, 2nd ed., Alger 1982.
6 – Emir Abdelkader: Al-mawāqif, Dār al-Yaqaẓa al-‘Arabiyya.
7 – Emir Mohammed ibn el-Emir Abdelkader: Tuḥfat az-zā’ir, Alexandria 1903.
8 – Ibn ‘Arabī, Muḥyī al-Dīn: Al-futūḥāt al-makkiyya, Dār Ṣādir, Beirut.
9 – Ibn ‘Arabī, Muḥyī al-Dīn: Fuṣūṣ al-ḥikam, edited by Abū al-‘Alā ‘Afīfī, Dār al-Kitāb al-‘Arabī.
10 – Majallat Masālik, N° 2, June-July 1998.

 

___________________

*نقلًا عن مجلَّة ” حوليات التراث “- جامعة مستغانم- الجزائر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى