العرفان و الحضارة الإسلامية
د. السید ید الله یزدان بناه
مدير قسم العرفان في المجمع العالي للحكمة الإسلامية- الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
سنتطرّق في هذه المقالة إلى أمريْن اثنيْن: قدرة العرفان على وصف الحضارة ثمّ مُخرجات العرفان في تشكّل الحضارة الإسلامية الحديثة. وقبل الشروع في ذلك لا بدّ لنا من تقديم التعريف الذي نقصده من كلمتيْ (الحضارة) و(العرفان).
تعريف إجماليّ للعرفان
يُنظَر إلى الحضارة في بعض الأحيان على أنّها أمر ذهنيّ وشكل من أشكال الفاعل العارف في المجال الأوسع، لكن، وفي مقالتنا هذه فإنّ الحضارة هي بمنزلة أمر أبعد من الثقافة حيث يُنظَر إليها كحاضر عينيّ. فالحضارة هي «الإفرازات والحصول العينيّ للثقافة الموسّعة التي تُشرف على واقع الحياة». والحضارة مبنيّة على أساس الثقافة، لكنّ الثقافات غير الغنيّة وغير الموسّعة التي ليس لها أيّ حضور سوى في المجالات القليلة من الحياة الاجتماعية فليس لها القدرة على صنع الحضارة، وحتى الثقافة، وبغضّ النظر عن التوسّع، فليس بالضرورة أن تمتلك الهوية الحضارية، بل عندما تتجسّد هذه الثقافة فإنّها ستحظى بالعينية في كلّ مكان في المجتمع وستكتسب جميع المختصّات الاجتماعية الحقيقية، وعندئذ ستتحوّل إلى حضارة.
وبالاستناد إلى هذا التعريف فإنّ سبب تعدّد الحضارات يعود إلى تعدّد الثقافات التي يمكن مشاهدتها فيها ويمكن الاحتجاج بها باعتبار كلّ من الحضارة والثقافة ظاهرتيْن إنسانيّتيْن بامتياز، بمعنى أنّ الإنسان يمتلك وجوداً شعورياً وإرادياً ولذلك نرى أنّ رائحة المعنى الشعوريّ والإراديّ تفوح في كلّ جوانب أفعاله الفردية والجماعية، فمع اختلاف المعاني القائمة على أساس تفاوت الإدراكات والإرادات فإنّه لا مناص من الاعتراف بإمكانية وجود أنواع للثقافة والحضارة.
تعريف إجماليّ للعرفان
تبدأ نقطة انطلاق العرفان من السّعي للوصول إلى الحقّ تعالى ونَيل القرب منه بشكل نزيه، وهو سعي ينشأ في باطن الإنسان ويشمل جميع جوانبه الوجودية لكي يتمكّن من اجتياز المجالات الدنيا والدخول إلى المجالات الباطنة المتعالية. ويتجلّى هذا السّعي الذي يُسمّى بالسلوك بشكل حضوريّ وليس مفهومي، ويكون حاصل هذا السّعي هو المواجهة مع الحقائق الباطنة بما فيها المراحل الداخلية للإنسان وصولاً إلى الحقائق الباطنة لكلّ العالم والوجود. وأمّا نتيجة هذا التراكم الحاصل لتلك المُخرجات في التجربة العرفانية فتنقسم إلى فرعيْن رئيسيْن: علم باسم العرفان العمليّ الذي يصف مراحل وانضباطات السلوك الداخلي ويجمع الموانع والتّرتّب في المراحل؛ ثمّ العرفان النظريّ الذي يصف نتائج العارفين من سلسلة مراتب الوجود من أعلى مراتبه حتى أدنى مرتبة فيه. وأمّا العرفان فيمتلك مُخرجات أخرى من حيث مكانته الاجتماعية كالتأثير الذي يخلّفه في الفنّ والأدب والعمارة والعلاقات السوقية.
الأمر الأوّل: قدرات العرفان الوصفية للحضارة
عند البحث في قدرة العرفان على وصف الحضارة ينبغي أوّلاً الالتفات والتركيز على العلوم الناتجة من العرفان، ونعني بذلك علم العرفان العمليّ وعلم العرفان النظريّ؛ فكلّ من العرفان العمليّ والنظريّ ينظر إلى الحضارة والثقافة ويحلّلهما بمنظاريْن مختلفيْن، فالعرفان النظري عادة ما يُفسّر أيّ ظاهرة مُحقَّقة بأسماء إلهية وكذلك النكاح والحكومة، وحتى الظواهر التي تمتاز بنوع من عدم المطلوبية الشرعية فإنّه يقوم بتفسيرها بهذا المنظار. والسبب في هذا هو أنّ العرفان النظري يجعل من الحقّ تعالى متن الوجود وأمّا غيره فيعتبره ظهوراً وتجلّياً للحقّ سبحانه، ولهذا نراه يتحدّث عن تجلّي الذات في الأسماء والصفات عند وصفه لمراحل تجلّي الحقّ في مرآة الكثرات الخَلقية، ثمّ يتطرّق في المراحل اللاحقة إلى سائر المخلوقات باعتبارها تجلّيات لتلك الأسماء والصفات الإلهية.
وأمّا العرفان العمليّ فيفسّر الظواهر الثقافية والحضارية بل وكلّ أمر آخر بميزان التقرّب والبُعد عن الحقّ تعالى، والسبب في هذا النمط من التفسير هو أنّ العرفان العمليّ يُعدّ نوعاً من أنواع السبيل، والسبيل، كما هو معروف ترتبط هويّته وتعيّنه بالمقصد، ولهذا، ولمّا كان المقصد في العرفان النظري ليس سوى الحقّ تعالى وأنّ كلّ سعي أو أمر إنسانيّ هو نوع من أنواع السير في ذلك السبيل، فإنّ تقييم الطرق بل ووصف هوية السّبُل مرتبط بمقدار التقرّب والبُعد الذي يحصل عليه المرء من ذلك المقصد.
وبناءً على ذلك فإنّ القُرب من الله تعالى والبُعد عنه هو المعيار الأساسي للأوصاف في العرفان العمليّ ويسري ذلك كذلك في موضوع الحضارة. على سبيل المثال يمكن اعتبار الحضارات السائرة على طريق الحقّ مظهر اسم (الهادي) وتوضيحها مع دولة ذلك الاسم، والحضارات السائرة في طريق الباطل تُعتبر مظهر اسم (المُضِلّ) للحقّ تعالى.
وبالاستناد إلى هذا النموذج يمكننا اعتبار أفق الحضارة الإسلامية العالية والمطلوبة حضارة يكون فيها اسم (الله) جامعاً ومصدراً لسائر الأسماء الأخرى وأنّه هو صاحب الدولة، ويكون أساسها ورأسها قاعدة للتقرّب إلى ساحة الله تعالى، أي أنّها حضارة توحيدية خالصة، توحيدية في الظهور والتحقّق وتوحيدية في دعوتها.
الأمر الثاني: قدرات العرفان في الحضارة
عند بحثنا في القدرات الحضارية للعرفان لا بدّ أوّلاً من شرح ما إذا كان العرفان الإسلامي في الأساس وبحسب طبيعته يمتلك القدرة الحضارية أم لا، ثمّ الخوض في قدراته الحضارية. ومن هنا فإنّنا سنتناول هذا البحث من جهتيْن: ١) العرفان الزاهد في الدنيا بحسب ادّعاء البعض وقدرته على صنع الحضارة؛ ٢) ما هو شكل القدرات الافتراضية للعرفان الإسلامي لصنع الحضارة الإسلامية الجديدة؟
١- كيف يمكن للعرفان الزاهد في الدنيا صنع الحضارة؟
يقولون: بما أنّ العرفان يتّصف بسمة داخلية وباطنية فإنّه قائم على أساس التعاليم مثل التركيز على الآخرة والزهد والرّضا والاعتزال وما شابه ذلك، وأنّ مثل هذا النوع من العرفان لا يمكننا أن نتوقّع منه صنع الحضارة لأنّ كلّ حضارة تمتلك بشكل أو بآخر مَيلاً نحو الدنيا، وأنّه مع الإعراض عن الدنيا وعدم التركيز عليها فإنّه يصعب تكوين أيّ دنيا بالمرّة.
وفي الظروف التي يتحقّق فيها ظهور أنواع من العرفان ومنها ما كان زاهداً تماماً في الدنيا وأمورها فإنّ مثل هذا الحكم يمكن أن يصدق على مثل هذا النوع من العرفان بشكل كامل، إلّا أنّه لا يصحّ تعميم ذلك الحكم. وأقلّ ما يمكن قوله هو أنّ العرفان الإسلامي لا يمتلك قاعدة سوى الإسلام بناءً على الكثير من التحليلات والتقارير الأخيرة (التي أُجريت من قِبل ماسينيون ونيكلسون وكوربن ونويا) ولعدم إعراض الإسلام عن الدنيا وشؤونها فإنّه لا يمكن وصف هذا العرفان بهذا الشكل.
ووفق كلّ التقارير المعروفة فإنّه لم يكن باستطاعة العرفان الإسلامي تجنّب التأثّر بالاهتمام بالدنيا والتأسّي بالرسول الأعظم (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) في صيرورته التأريخية لأنّ النبيّ الكريم (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) هو نقطة أوجه كما أنّ الأدب العرفاني يصفه (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّه (الخاتم).
ويمكننا الإتيان بالعديد من الشواهد حول وجود مثل الفكر، ومنها: أنّه وبعد ظهور فكرة (الفناء) مباشرة في العرفان الإسلامي تمّ طرح مسألة (البقاء بعد الفناء) باعتبارها المرحلة الأكمل للفناء. وفي إرشاداته لمولانا جلال الدين يعمد شمس التبريزي إلى إجراء مقايسة بين مقالة بعضهم (سبحانه ما أعظم شأني) وبين تركيز النبيّ الأعظم (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) وتوجّهه للعبودية، ويشير ههنا إلى وجود مقام هو أكمل وأتمّ من مقام الفناء.
إنّ المعنى الواضح لمسألة (البقاء بعد الفناء) كذلك ليس سوى العيش بين ظهراني الخلق بالوصف الحقّاني. هذا بصرف النّظر عن الحديث حول تلقّي العباد وإمدادهم في الرحلة الرابعة من رحلات العرفان بل والاختلاط بالخَلق بالحقّ وأنّ تلك الرحلة هي امتداد ضروريّ للرحلات المعنوية الأخرى للإنسان. ولتوضيح هذه الفكرة فإنّ بعض العارفين وشرّاح العرفان يصرّحون بأنّه إذا كان الأنبياء في صراع مع أنفسهم في جانب ما فإنّ جميع الناس قد تحوّلوا إلى نفس واحدة وساحة واحدة للصراع. وعندما يثبّت العرفان المانح للكمال فكرة كماله في الاهتمام بالدنيا وأهل الدنيا باسم البقاء بعد الفناء وتلقّي العباد في رحلته الرابعة عندئذ لا يمكن القول بأنّ هذا العرفان زاهد في الدنيا.
من الواضح أنّ هذا التحليل معناه نسيان وجود الأفكار المتوسطة والساذجة الأولية في العرفان التأريخيّ أو وجود السالكين الزاهدين في الدنيا، فوجود هؤلاء السالكين الزاهدين في الدنيا الذين لم يحصلوا سوى على صفة الفناء يعود إلى قدرتهم الضعيفة ونقصهم، وفي مقابل ذلك يصرّح محيي الدين ابن عربي والقونوي وفناري – وهم روّاد الفكر العرفاني النظري – بالخلافة بالسيف، أي، الحكومة من قِبل الله في النظرة العرفانية، ويضعون ذلك على قمّة المقامات العرفانية، ممّا يعني أنّ الكمال النهائيّ للأولياء والرّسل بعد الولاية والنبوّة والرسالة يكمن في الحكومة والزعامة الاجتماعية بالتنصيب الإلهيّ.
ورغم إطنابه في الحديث عن خلافة سيّدنا آدم (عَليه السّلام) ومعناها بشكل واسع إلّا أنّ ابن عربي يرى أنّ خلافته (عَليهالسّلام) هي خلافة من نوع آخر بالاستناد إلى الآية الشريفة: «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ» (سورة صٓ، الآية ٢٦)، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (سورة آل عمران، الآية ١٥٩) تتحدّث بشأن الخلافة بالسيف وليس بشأن نبوّة رسول الله (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) أو رسالته وذلك لعدم وجود سبيل إلى المشورة في تلك الشؤون حيث يكون كلّ شيء بأمر الحقّ تعالى.
هذا وكانت السيرة العملية المعروفة والجارية للكثير من العارفين بل وحتى النمط السلوكي للعديد من النِّحَل العرفانية تتمحور حول مساعدة العباد والخَلق.
يُضاف إلى ما ذكرناه أعلاه فقد تحدّث ابن عربي كذلك بكيفية نظرة العارفين إلى الظاهر وعلاقته مع الباطن، فإذا كانت العلاقة بين الظاهر والباطن للبينونة كاملة واعتبرنا العارف باطنياً فإنّ اهتمامه بالظاهر يلزمه أدلّة مستقلّة، لكنّ التأمّل في الأفكار العرفانية واضح تماماً وأنّ الظاهر يُعدّ مرتبة من مراتب الباطن وأنّ الفارق المذكور ليس مرئياً أصلاً. على سبيل المثال وخلافاً لآراء المشائين الذين يعتبرون الروح المجرّدة هي حقيقة النّفس وأنّ تعلّق الجسد بها هو عارض بشكل أو بآخر، يصوّر لنا صدر المتألّهين النّفس بأنّها حقيقة تمتلك شؤوناً من أعلى المراتب إلى أدناها وهي المرتبة الجسدية، مستلهماً ذلك من الآراء العرفانية؛ وعلى هذا الأساس فإنّ تدبير الجسد يُعدّ تدبيراً للنّفس وليس لأدوات النّفس ووسائلها. والجدير بالذّكر أنّ الملا صدرا نفسه يستنتج من ذلك ضرورة الاهتمام بالسياسات والتدابير الدنيوية، والذي يؤكّد هذه النظرة اعتبار الجسد كمصداق للرّحم وضرورة الصلة والاهتمام به وعدم الإعراض عنه، وهو أمر تمّ توضيحه تماماً في كتاب (مصباح الأنس). كما تمّ اعتبار الوصول إلى الباطن كتوقّف عند (المحو) باعتباره مرتبة أدنى من (المحو بعد المحو) ثمّ الرجوع مجدّداً من الباطن إلى الظاهر والتدبير والاهتمام بالظاهر.
وثمّه الكثير من الشواهد التأريخية أيضاً يمكن تقديمها لتأييد تحقّق مثل هذه الأفكار في أصل تأريخ العرفان، على سبيل المثال، فقد كان للإنسان الحافي الزاهد للغاية تأثيراً كبيراً في قرارات الحاكم الجائر في بغداد آنذاك بحسب التقارير التأريخية. وفي باب الزهد وكون الإمام علي (عَليه السّلام) أسوة حسنة لأغلب الفِرق الصوفية تشير الدلائل إلى أنّ الصوفي والعارف في الزمن الماضي لم يكن يرَ أيّ تهافت بين الزهد والحضور الاجتماعي المكثّف، وفي نموذج (سربداران – الفدائيّون) وأمثال الشيخ حسن الجوري المؤسّس للاتّجاهات العرفانية الجادّة فإنّهم لم يَروا أيّ تعارض بين النظرة التوحيدية والنضال الاجتماعي. وفي نموذج آخر أيضاً فإنّ ابن عربي نفسه كان من المدافعين الكبار لمحاربة المسحيين الصليبيين خلال الحروب الصليبية .
٢- القدرات الافتراضية للعرفان الإسلامي في تأسيس الحضارة الإسلامية الجديدة
سنركّز في هذا الجزء من مقالتنا على أمريْن اثنيْن: أ) الدور الرئيس للعرفان في تأسيس الحضارة الإسلامية؛ ب) دور العرفان بين العناصر المؤسسة للحضارة.
أ) الدور الرئيس للعرفان في تأسيس الحضارة الإسلامية
إذا كان الإسلام يدور حول محور التوحيد وانعكاساته، وكان العرفان يعتبر نفسه قائماً على أساس التوحيد وظاهره فإنّ الحضارة الإسلامية ستتقبّل مركزية العرفان ودوره المحوريّ بشكل جيّد ذلك أنّ الكثير من الآراء التوحيدية واضحة وبائنة في منظومة العلوم والتراث العرفاني. والأكثر صراحة من ذلك هو أنّ بالإمكان إيجاد التوحيد الإسلامي في مصافّ الحضارة من منظار الفكر الكلامي، إلّا أنّه لا يمكننا إيجاد مثل هذه الأفكار بهذا العمق والغنى المطلوب والراقي الذي نجده في تعاليم الدين والقرآن لأنّ الوجهة الأساسية للكلام الموجود والتأريخيّ هي وجهة جدلية وأحياناً مبنية على أساس العقل العرفي وثمّة بَون شاسع بينه وبين العقل الدينيّ المدرَّب والمعمّق.
ب) دور العرفان بين العناصر المؤسسة للحضارة
إذا كان من المُقرّر أن تلتزم الحضارة الإسلامية في الحقيقة بوصفها فإنّه لا بدّ لها من أن تكتسب مكوّناتها الخاصة من الإسلام، وهي مكوّنات تضمن استمرارها وبقائها بروح إسلامية وعندما تفقدها فإنّه لن يكون بالإمكان تسميتها بهذا الاسم.
هذا، وقد اجتمعت بعض الأمور الأساسية في الإسلام، وهي أمور ليست موجودة بشكل عرضي وتركيب اعتباريّ بل هي في الحقيقة مؤلَّف خاصّ منسوج بعضه ببعض، وهذه الأمور هي المعنويات والعقلانية والشريعة.
إنّ أيّ فصل بين هذه الأمور والعناصر سيؤدّي عملياً إلى الانحطاط أو ظهور الناقص. ويمكننا ملاحظة مثل هذه المشاعر العرفانية للمسلمين في هذا الاعوجاج وذلك في نَقد الزهد الجافّ والعنيف في بعض الأحداث الاجتماعية من تأريخنا، وقد انتقد الشيخ الرئيس ابن سينا هذا النوع من الزهد في النمط التاسع من كتابه (الإشارات) وتعرّض له بشكل جادّ.
وأمّا ما جاء على لسان الماضين من أهل المعنى والتأكيد على الربط بين العناصر الثلاثة المذكورة (الشريعة والطريقة والحقيقة) فيشير إلى هذا المطلب، كما يمكننا مشاهدة هذا المعنى أيضاً في فكر الملا صدرا حيث استطاع بيان هذا الانسجام والتوافق إلى حدّ كبير.
والأمور الثلاثة المذكورة أعلاه مرتبطة مع نفس الأمر والحقيقة وأخذ تلك الأمور معاً بعين الاعتبار يُصاحبه نوع من التداوب الأسلوبي في الوصول إلى الواقع.
وفي الواقع فإنّ مجرّد وضع تلك الأمور جنباً إلى جنب لا يمكنه إيجاد التوافق المطلوب، على سبيل المثال لا بدّ من القول أنّ التأكيد على العقلانية بحيث يؤدّي ذلك إلى إضعاف المعنوية هو من الأخطار التي يمكن أن تُهدّد مجامعنا الفكرية الحالية، بينما يبدو للعيان أنّ النموذج المطلوب هو أن تكون العقلانية في قلب المعنوية، ثمّ البحث عن أوجهما في معين الشريعة. وأمّا الوجه الآخر لنسبة الانسجام هذه فهو عودة العقلانية مع المعنوية المتعاظمة إلى التراب والدنيا والجسد والتجربة.
إنّ التوافق المطلوب من تلك الأمور الأربعة (أي، العناصر الثلاثة المذكورة إضافة إلى تجلّيها ومُخرجاتها الدنيوية) يقع على عاتق الفضاء الفكريّ والفهم العلميّ الذي أن يكون صانعاً للحضارة. ويمكننا الإشارة إلى العديد من المُخرجات من هذه التوليفة في الحضارة الإسلامية الماضية والتي تحاكي روح الدين الإسلامي بمعناه العامّ، ومن الأمثلة البارزة لهذه التوليفة مركزية المسجد في المدينة والملابس التي لا نجد فيها صفة إظهار معالم الجسد أو تعكس التكبّر.
والسرّ في بقاء كلّ أمر يتشكّل على أساس هذه الروح أيضاً يكمن في هذه النقطة بالذات وهي أنّ هذه الأمور المتوافقة والمنسجمة في الواقع هي التي تشكّل صورة الحقيقة وأنّ أيّ أمر آخر أو توليفة أخرى تكون باطلة بحسب النسبة التي تفصلها عن تلك الحقيقة.
وفي مقام تحليل الحضارات كذلك يمكن الإشارة إلى بعض الحضارات التي نشاهدها بشكل (تآكل باطني) والمصاحب للتناقضات الداخلية رغم اتّصافها ببعض التوسّع، وبعبارات أخرى، فإنّها باطلة وإن بالمقياس الحضاريّ لقدرة الظهور وهذه القوّة ناجمة عن النسبة والاستمداد اللذيْن تكتسبهما من الحقّ، لكن، وبسبب بطلانها من حيث الدوام والبقاء فإنّها مُعرّضة لمشكلة الأزمات الداخلية، أو للزهوق بالتعبير القرآني.
وأمّا الانجاز العرفاني لتحقيق الأمور الثلاثة (أو الأمور الأربعة) فيمكن ملاحظته في مختلف الأمور، منها:
أوّلاً: أنّ العرفان ظاهرة تُعنى بالمعنوية التي تهتمّ بالمجال الباطني بشكل جادّ وإن من خلال اهتمامها بالظاهر، وبناءً على هذا، فإنّ العرفان هو نوع من التحقّق وظهور مَنويّات الدين في ساحة المعنوية مع تجربته التأريخية. إنّ تكوّن حضارة ما في أحضان المعنوية العميقة هو شرط بقائها وحاجتها الأساسية، وبإمكان العرفان من هذه الناحية أن يكون العون الأكبر في مجال صنع الحضارة الإسلامية المعنوية. ويحظى ضمان المعنوية بأهمية كبيرة بحيث تسعى الحضارة الغربية الحالية إلى إصلاح وتعويض تهافتاتها الداخلية من خلال حقن شكل من أشكال الأخلاق والمعنوية إلى جسد حضارتها الميّت، أو في الأقلّ الحيلولة دون أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، والدليل على ذلك هو الحديث بشأن الأخلاق الحرفية والأخلاق الرياضية والأخلاق الطبية وما شابه ذلك.
ثانياً: على الرّغم من عدم اهتمام العارفين في العصور الأولى بالمنزلة العقلانية لآرائهم وفرضيّاتهم فقد تشكّل نوع من التعامل الثنائي مع مرور الزمن بين العرفان والفلسفة الإسلامية وكانت نتيجة ذلك ولادة نوع من العقلانية المعنوية الخاصة التي تعاظمت في شخصيّة صدر المتألّهين كما أنّ إنجازات العارفين الفلسفية الكلامية تتّصف بالعقلانية كذلك.
ثالثاً: قدّم العرفان نموذجاً من المحورية التشريعية والاهتمام الجادّ والاتّباع الكامل للتعاليم الدينية.
رابعاً: يقدّم أسلوب الفهم الدينيّ المتأثّر باتّجاهات العارفين تحت عنوان (التأويل)، يقدّم طاقة كبيرة للخوض والبحث المتعدّد في معاني النصوص الدينية بل وفي حقائق العالم ومنها العالم الإنساني كالثقافة والحضارة. وخلافاً للمقالة الشائعة عن التأويل التي تصوّره بأنّه أخذ المعنى المُخالف للظاهر من النصوص، فإنّ التأويل العرفاني يصرّ على التحفّظ على ظاهر النصوص الدينية وفي الوقت نفسه يعمد إلى أخذ مثل تلك المعاني من النصوص بالاستناد إلى إمكانية الحصول على المعاني الطولية والعرضية في الكلمات والجُمل. وعلى هذا الأساس يمكننا الادّعاء أنّه، ومن خلال الاستمداد من الأسلوب التأويلي كأحد الإنجازات العرفانية وليس بعنوان طريقة تقتصر على العارف وحده، يمكن الحصول على نوع من التأويل الحضاريّ من نوع (الجري) لفهم روح الحضارات وخصوصاً الحضارة الإسلامية الماضية وأحياناً أخذ النموذج المطلوب لصناعة الحضارة.
وهكذا، وبواسطة (الجري الحضاري) يمكن الوصول من خلال المسائل الحضارية الجزئية ولا سيّما الحضارة الإسلامية الماضية، إلى روح تلك المسائل والمعاني الموجودة في خلفيّتها، ثمّ حملها على المورد الجزئيّ الحالي وبحسب الظروف. وقد ظهر بعض أعمال الفقهاء في عملهم الاستنباطي على أساس هذا الجري الجزئيّ أيضاً، وعلى سبيل المثال، فإنّ قيام فقيه ما بتعميم حكم حليّة أمر ما بمصداق خاصّ في الماضي على مصداق حاليّ دون أن يكون عنواناً لمورد من الموارد المنصوصة العلّة، هو في الحقيقة نوع من الجري، فهذا الفقيه وبالاستناد إلى روح القانون قد ألغى الخصوصيّات العصرية لمصداق القانون، ثمّ قام بتطبيقه على المصداق الحالي. ومن خلال هذه النظرة يمكن استنباط الرأي الخاصّ بالشكل الحالي من قلب (البيعة) على لسان الشارع المقدّس بدقّة عقلية كاملة. وعَبر النظرة الجزئية فإنّ بإمكان الباحث الخوض في بعض الظواهر مثل بناء المدن والغطاء والرياضة والعلاقات وما شابه ذلك ممّا كان في الحضارة الإسلامية الماضية بالروح والأصول الكامنة في التجلّيات الحضارية، وبالاستعانة بهذه المعاني المتعاظمة يمكن الوصول إلى تخمينات قوية بشأن النتائج الحالية لتلك الظاهرة ضمن إطار منسجم مع التعاليم الدينية، على سبيل المثال، كانت الرياضة في الحضارة الماضية معروفة باحترام الكبار والسادة والروّاد، ولذلك لا يمكن للرياضة في الحضارة الإسلامية المطلوبة أن تخلو من هذه الميزات.
بعض أسباب عدم تحقّق الحضارة الإسلامية الحديثة رغم وجود العناصر المطلوبة
١- فقدان الحكم المتناسب: يمكن للحكم السياسي أن يكون قوّة للبسط الكبير للحضارة، وفي حال غيابه بصرف النظر عن الموانع، تكون سرعته ضعيفة لأنّ الحكم – بالتوافق مع التعاليم الدينية – يمكّن العلماء من المواجهة والمقاومة مع الساحة الاجتماعية العينية ومسائلها الكثيرة، وفي حال فقدان هذه القاعدة فإنّ ذلك يعني عدم الاتّصال الواسع مع المجتمع.
٢- البسط الضعيف للثقافة: ذكرنا بأنّ البسط الثقافي شرط لازم لتحقّق الحضارة، ويُقصَد بالبسط الثقافي الإذعان لقبول الأفكار والعقائد الأساسية التي هي وليدة الثقافة والحضارة. في الأقلّ ينبغي لمجموعة النخبة في المجتمع أن تقوم باتّصال مباشر مع تلك الآراء والأفكار، بينما نلاحظ في الظروف الحالية أنّ قسماً كبيراً من تراثنا الفكري والعلميّ لم يحظَ بالقبول المطلوب، بل لا نرى الحدّ الأدنى من الاهتمام الجاد المطلوب للنّقد وإعادة البناء في العديد من المحافل.
٣- عدم توسّع بعض الآراء المهمّة والمصيرية: وفي المجال الفكري كذلك لم تتّسع بعض المجالات الحضارية الجادّة إلى المقدار المطلوب، على سبيل المثال، فإنّه على الرّغم من طرح الفارابي للحكمة العملية ظلّ هذا النوع من النظرة إلى تأريخ تطورات الفكر الإسلامية عقيماً وغير فاعل.
٤- الحاجة إلى حلقات الوصل العلمية بين المباني والعينية: لا بدّ من الاعتراف بأنّ بعض مجالات الفكر العقلانيّ للمُفكّرين المسلمين ورغم اتّصافها بقابلية البسط الحضاريّ من الناحية الذاتية – كما هي الحال مع أيّ فكرة أخرى – لكنّها ما زالت بحاجة إلى حلقات وصل رابطة لكي تجعلها أقرب إلى ساحة العينية الخارجية. إنّ هذه الظاهرة هي نفسها التي يمكن الإشارة إليها بالسطوح المختلفة للعلم بدءاً من السطوح الأساسية وانتهاءً بالسطوح التطبيقية. وبعبارات أخرى، فإنّ العلوم المتوسّطة هي السبب في عدم تشكّل بعض الحلقات الوسطية المنتجة، ولهذا، فإذا كان بالإمكان الحديث عن ظاهرة باسم (العمارة الحضارية) فإنّ العون في تشكيل مثل تلك الحلقات الوسطية في إطار وضع سياسة العلوم يُعدّ جزءاً من تلك العمارة الحضارية.
٥- سيطرة الاتّجاهات الفردية على الفهم والاستنباط: قد نلاحظ أحياناً في مجال المُفكّرين المسلمين أنّ الآراء الفردية هي السائدة تماماً وكأنّ الدين لا يملك أيّ خطاب جماعيّ أبداً بحيث تمّ نسيان حتى الخطابات الواضحة مثل قوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ» (سورة آل عمران، الآية ١٠٤) و «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (سورة الحديد، الآية ٢٥)، أو يتمّ تفسيرها في إطار فرديّ بحت. لا شكّ أنّ نتيجة مثل هذا الاتّجاه بشكل طبيعي هو عدم الاهتمام الجادّ بالمبادئ الفكرية الاجتماعية للوصول إلى موقف حضاريّ.
٦- الأجوبة الآنية للحضارة الغربية: إنّ الحضور الفاعل والسيطرة النسبية للحضارة الغربية الجديدة تسبّبت في أفول الكثير من الثقافات والمُخرجات الحضارية إلى حدّ كبير؛ وبعبارات أخرى، فإنّ الحضارة الغربية تُعتبر نوعاً من الحائل الذي يسدّ الطريق أمام التجارب الحضارية الأخرى والتأثير فيها بشكل عمليّ؛ أي، أنّ الأجوبة الغربية الحاضرة أدّت بشكل واضح إلى إضعاف الحاجة إلى الجولان الفكريّ على المستوى الحضاريّ والنتاجات الموسّعة الخاصة بها، ولا يمكن اجتياز هذا الوضع والتغلّب عليه إلّا بالاهتمام بضرورة تحقّق الحضارة الإسلامية كاملة وليس الإيمان بالمُخرجات الثقافية الإسلامية ولا سيّما في المجالات المحدودة، كالأخلاق مثلاً.
خلاصة البحث:
يمكننا بيان التفاصيل الماضية بشأن قدرات العرفان الإسلامي في صنع الحضارة على شكل نقاط وكالتالي:
١- يمتلك العرفان بفرعيْه النظريّ والعمليّ لساناً مبيناً في تقديم الوصف العلمي للحضارة؛ ففي المجال النظريّ فإنّ العرفان يُفسّر الحضارة بأسماء إلهية وأحداث مختلفة بين تلك الأسماء، وفي المجال العملي يتحدّث العرفان بالعلاقة بين الحضارة والحقّ تعالى ومقدار قربها وبعدها عنه سبحانه. وهذا ميزان يمتلك بحدّ ذاته العبء القيميّ الأكبر عند وصف حضارة ما.
٢- إنّ العرفان الإسلامي النابع من الإسلام نفسه وبالاستناد إلى المثل الأعلى له وهو الرسول الأعظم (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) قد وصل أوج مساره العرفاني، وبالاستناد إلى خصوصية التعاليم الإسلامية نفسها وسيرة حياة النبيّ الكريم (صَلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه لا يمكن لهذا العرفان أن يكون كارهاً للدنيا، وعلى هذا الأساس فإنّ العرفان لم يتوقّف عند فكرة (الفناء) أبداً في مسار بلوغه التأريخيّ، بل استطاع الاهتمام بشكل خاصّ بالدنيا وتدبيرها كعنوان لعمله المحوريّ والأساسي في داخله وذلك من خلال طرح فكرة (البقاء بعد الفناء) و(الرحلة الرابعة والتلقّي في هذه الرحلة) و(الخلافة بالسيف) كشأن أسمى وتوحيد أرفع من مراتب الولاية السابقة. كما أنّ الشواهد التأريخية تشير بوضوح إلى أنّ الكثير من العارفين كانت لهم مشاركات فاعلة في حياتهم. وكلّ ذلك هو نتيجة كون العارف قد نجح في الجمع الطوليّ بين الظاهر والباطن على أساس الآراء العرفانية حتى عدّ الظاهر مرتبة من مراتب الباطن.
٣- إذا اعتبرنا الإسلام ديناً توحيدياً في منشئه وفي ظهوراته فإنّ العرفان هو الذي يمتلك قدرة التقرير والتثبيت النهائيّ لمثل هذه النظرة. ومن هنا فإنّه لا بدّ من اعتبار الحضارة التوحيدية المطلوبة في الإسلام حضارة عرفانية بامتياز؛ ويمكننا القول بلسان العرفان النظريّ: إنّ الحضارة الإسلامية المنشودة هي الحضارة التي تكون بمنزلة الظهور التامّ لاسم الله الجامع.
٤- إذا اعتبرنا العناصر الثلاثة: الشريعة والعقلانية والمعنوية ظهوراً لروح الإسلام فإنّ العرفان هو الذي يضمن لنا النواة المركزية للمعنوية الإسلامية.
٥- إنّ العرفان باعتباره أحد ضِلعيْن للعقلانية والشريعة منسجم بشكل كامل، فقد أثبت في تجربته العلمية والعينية بأنّه يقبل الشريعة ويتعبّد بها إلى حدّ كبير، وقد أوجدت العقلانية في أحضان التجربة العرفانية وبتفاعلها معها نموذجاً استثنائياً باسم (العقلانية الصدرائية) ولا نجد بديلاً عنها في الوضع الراهن.
٦- إنّ الأسلوب العرفاني في فهم النصوص والوجود باسم التأويل يمتلك كذلك القدرة في إيجاد النموذج والعمارة الخاصة بالحضارة، كما يمكن بواسطة (الجري) – وهو نوع من التأويل – القيام بإعادة بناء روح الحضارة الإسلامية الماضية في الظروف الاجتماعية الحالية.
٧- على الرغم من القدرات التي تمتلكها بعض العلوم كالعرفان الإسلامي في وصف الحضارة الإسلامية المطلوبة وتحقيقها إلّا أنّ التركيز على إزالة موانع الحركة نحو الحضارة الإسلامية هو أمر مستقلّ بذاته. إنّ اتّساع التوجّه الحضاري بين النخبة ولا سيّما في المجالات والفروع المختلفة للعلوم الإسلامية معناه الاهتمام بحلقات الوصل للعلم في إطار المسافة بين العلوم الأساسية حتى التطبيق والاهتمام أيضاً بالكيان الجماعي للتعاليم الإسلامية وضرورة الاهتمام بعمارة الحضارة إلى جانب البحوث الحضارية وهي جانب من الملزومات في تلك الحركة. كلّ هذه هي أمور ليست شائعة في الوقت الحاضر ولم تتحوّل إلى أمر عامّ وثقافيّ بل اقتصر الحديث عنها في بعض المحافل فقط.
٨- إضافة إلى الملزومات أعلاه فإنّ تحقّق الحضارة الإسلامية يحتاج إلى الاهتمام بكون الحضارة الغربية مانعاً كبيراً من حيث الأجوبة الآنية المتراكمة الموضوعة أمام الاحتياجات المختلفة، إلّا أنّ مثل هذا الاهتمام لا ينبغي أن يكون مانعاً لعدم رؤية القدرات المتحقّقة للثقافة الإسلامية من قِبل الظواهر البارزة كالثورة الإسلامية في مقابل الحضارة الغربية، فالتجربة العينية لتلك الثورة يمكنها أن تكون تجربة عظيمة لاستمرار الحركة في الأفق الحضاريّ على الرغم من التحدّيات المفروضة من قِبل الحضارة الغربية.