فنون و آداب

الكتابة النورانيَّة في الأدب العرفاني : (قراءة في فلسفة الرواية العرفانيَّة)

أحمد بابانا العلوي

الكتابة النورانيَّة في الأدب العرفاني : (قراءة في فلسفة الرواية العرفانيَّة)

أحمد بابانا العلوي

تقديم: 

لا مراء أن فن الكتابة أصدق مجالا تتجلى فيه المشاعر والأحاسيس، والمواقف…فالكاتب يقدم أفكارا ومعاني ورؤى وصورا، وحقائق، والكتابة الروائية أداة للمعرفة، تقربنا من الأحداث الاجتماعية، وتشكلاتها وفهم أسبابها العميقة والدفينة…

فالرواية، تسبر وتكشف وتعكس المراحل الأكثر أهمية، في حياة الشعوب، كما تؤشر على الانتقال من عصر إلى عصر، ومن حضارة إلى أخرى.

إنها المرآة التي يرى فيها الناس أنفسهم ويقرؤون أفكارهم، وأحلامهم وطموحاتهم وهي أداة معرفة تخاطب العقل والوجدان معا، وتتوجه إلى الأحاسيس، وتصقل الذهنيات، وتحرض الإرادات…

والروائي شاهد على عصره، يسعى من خلال الكتابة إلى نسج رؤية خاصة للكون والحياة… تتوفر له القدرة على التعبير عن هذه الرؤية لأنه يدرك العوامل المتحكمة في التطور الإنساني عبر العصور من خلال جدلية الجغرافية والتاريخ، وما تبلور عن ذلك، في دائرة الاجتماع من حضارات وصراعات وأفكار وعلوم…

فعمل الكاتب ينحصر في الإعراب، عن المعاني، والبحث عن الحقيقة، وبالتالي فكل كتابة إنما هي طريقة وأسلوب في التفكير والتعبير عن حقيقة الحياة والوجود ..

سوف نتناول الأسس الفلسفية والصوفية في الرواية العرفانية كعمل أدبي، يحقق لونا من ألوان الحركة الشعورية الجمالية والمعرفية.

إن السرد الفني يعتمد على القدرة الخلاقة للتخيل، فيرتاد فضاءات، وينسج علاقات، ويكشف عن حقائق ومعاني، تسهم في خلق وعي بالعالم والآخر..

-1-

أدب الرواية العرفانية

تندرج الرواية العرفانية ضمن مشروع أدبي للكاتب عبد الإله بن عرفة[1]يقوم على الحروف المقطعة النورانية التي توجد في مفتتح بعض سور القرآن الكريم. وعددها أربعة عشر حرفا…

يرى الأستاذ بن عرفة أن مشروعه الروائي ينتظم ضمن معالم أدب جديد، قوامه اللغة الأدبية الرفيعة والمعارف المختلفة مع الاستفادة من التراث الروحي الإنساني .. وتوظيف “الخيال الخلاق” باعتباره أوسع مجال لإدراك الحقائق والمعاني والصور ..، مستضيئا بأسرار الحروف النورانية..

فالأحداث والشخصيات، والوقائع التاريخية، التي تناولها وشرحها في قوالب فنية سردية، خيالية لا تفهم إلا في إطار الأفق المعرفي والعرفاني، والجمالي …، من منطلق أن الحكمة فضيلة خلقية ومعرفة بالوجود…

فالأدب الذي ينشده يؤسس لنموذج في المعرفة والفلسفة الأخلاقية في الإصلاح وتهيئة النفوس لتسمو وتتأهل لتلقي علوم الأسرار، الأمر الذي يتطلب قارئا عاشقا، سالكا متذوقا للحكمة الذوقية الجمالية.

فالكتابة الإبداعية عند المؤلف تهدف إلى التربية والترقية الروحيين، والتنوير وجودة الأسلوب، وذلك بإحياء مفهوم للأدب، من خلال إعادة الاعتبار إلى اللغة الأدبية التي تستمد نورانيتها من التيه والجهل إلى نور العلم والوجد..

فالحضور يحقق إنتاج المعنى، ومقياس ذلك الحضور نستخلصه من مدى فهمه وتحول وجوده.فالقارئ ، حاضر ، متبصر ، يسهم في إنتاج المعنى، ويتحقق به  من الحضور .

مما يتبلور عنه (أدب الحضور) و(أدب المعنى) وقد اقتبس المؤلف مفهوم ” الدازاين) من الفيلسوف هيدجر، بمعنى الحضور “هنا والآن” أي الحضور الدائم لكونه يشمل الوجود الظاهر، والوجود الباطن.

وتركز الكتابة النورانية على تحديد الفهم ” للمعنى” و” الحقيقة” فالمعنى متعدد لأن هناك مستويات للفهم وهناك مستويات متعددة للحضور… (رواية الحواميم ص 10).

إن الكتابة العرفانية تستحضر العلاقة بالماضي، لأن قراءة الماضي يجب أن تصدر عن حضور كامل حيث هو فتح لإمكانية المستقبل الكامن فيكل ماض..  فالحضور يجعل المرء مسؤولا عن الماضي وعن الإمكانات المستقبلية الواردة فيه ( الحواميمص13.).

-2-

العلاقة بين الإبداع والتاريخ

لقد شكلت الخلفية التاريخية بعدا أساسيا في التجربة الإبداعية لابن عرفة، فالعلاقة بالماضي إنما تبرز مدى حضور الماضي في الحاضر ضمن المنجز السردي..

فالعلاقة بين الإبداع والتاريخ تتمحور حول طلب الفهم لاستكشاف ومعرفة أحوال الماضي ولفهم حقائق الحاضر، ووقائعه والتطلع إلى معرفة ملامح المستقبل.

إذا كانت الكتابة التاريخية أو الإبداعية تبحث في الاستقصاء عن حقائق الأشياء والأحداث والوقائع الاجتماعية… فإن التاريخ كعلم يدرس دور الأشخاص في الأحداث المتعاقبة وكذلك ما يحدث من وقائع اجتماعية مؤثرة في حركة التاريخ والعمران البشري.. إن الموضوع الحقيقي للتاريخ يتمثل في النتائج الواقعية التي أحدثتها الأفعال، ولايمكن فهمها إلا بمعرفة كيفية حدوثها، وبمعنى آخر ربط الخبر التاريخي بظواهر الاجتماع، وبهذا الصدد حرص ابن خلدون على التمييز بين ظاهر التاريخ، وباطنه، فالتاريخ في ظاهره إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، أي عبارة عن خبر عن أحداث الماضي  وبحث في أحوال البشر ووقائعهم .

أما في باطنه، فإن التاريخ نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابهاعميق ..[2] فهو بذلك علم يهتمبالصيرورة التاريخية.والبحث في تعليل الوقائع لمعرفة كيفية حدوثها، والكشف عن الأسباب المحددة لها.

فمهمة المؤرخ تأكيد مطابقة الأخبار للوقائع ويعتبر ابن خلدون المطابقة قانوناً في فلسفته الاجتماعية..

وغني عن البيان أن قانون المطابقة مرتبط بطبائع العمران وأصول الاجتماع وقواعد السياسة.

لقد كشفت المنهجية الخلدونية العلاقة الجدلية، بين الماضي والحاضر، وخلصت إلى أن فهم أحداث الحاضر تتوقف على الرجوع إلى وقائع الماضي، ومن خلال هذا الربط وضع ابن خلدون معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلون من أخبار..

إن مطابقة الخبر ل” طبائع العمران” هي أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار. مما يجعل من التاريخ شاهدا على نفسه وليس مجرد حوادث تتعاقب في الزمان، دون خضوع لعوامل معينة، بل هناك خيوط تنظم هذا التعاقب وثوابت توجه مسراه ومجراه وفق قوانين معينة.[3]

إن ابن خلدون يهدف من دراسة الظواهر الاجتماعية إلى ما يحدث في العمران البشري بمقتضى طبعه. فعلم العمران البشري يبحث على الجملة (ضرورة الاجتماع والسلطة) وتأثير الهواء في أخلاق الناس، وتأثير الخصب والجوع. وتأثير العالم العلوي.) ومادة العمران الاجتماع وصورته الدولة.

فلا دولة بدون عمران، والعمران بدون الدولة متعذر.[4]

ومن الواضح أن تصور ابن خلدون للعمران البشري، كان قائما على أساس نظرته إلى الكون والإنسان .. لقد حاول إظهار التكامل بين ما هو روحي، وما هو مادي بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي بين ما تقتضيه طبائع العمران، وما تقرره المشيئة الإلهية، وبالجملة فقد حاول أن يجعل من مجموع الظواهر العمرانية (البداوة والحضارة والدولة والملك، والتجارة وأنواع الكسب والعلوم وأنواعها.) حاول أن يجعل من كل ذلك مظاهر خاضعةللمعقولية قابلةللدراسة والتفسير، لأنها كلها تخضع للمشاهدة والتجربة والاستقراء..[5]

تبحث فلسفة ابن خلدون التاريخية في الوقائع التاريخية وتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير هذه الوقائع وتعمل على استنباط الأحكام العامة التي تتحكم في سير الحركة التاريخية، بأحداثها المتعددة والمتداخلة.

فالوقائع التاريخية لا تقع بالصدفة، ولا تخضع للاحتمال فالذي ثبت من الوقائع هو الذي يفسر ويحلل ويتعرف على دلالته وآثاره الراهنة والمستقبلية..[6]

إذا كان علم التاريخ يقوم على مشاهدة الوقائع، وبيان الرابطة التي تربطها فإن المؤرخ يبحث عن الوقائع ويصل إليها عن طريق الملاحظة الدقيقة للنصوص،أما الكتابة الأدبية فإنها تقوم على التخييل lafiction”” باعتباره المفتاح لدخول عالم الوقائع ..

فالوقائع المادية والأفعال الإنسانية الفردية والجماعية، والوقائع النفسية كلها موضوعات تُتخيل. إن الوقائع التي يتخيلها الأديب ويتناولها في روايته، ليست كلها خيالية، بل هي ذاتية بالضرورة، لكن الذاتي subjectif ليس مرادفا لما ليس بحقيقي أو غير واقعي irréel””  فالذكرى ليست إلا صورة، لكنها ليست مع ذلك وهما، بل امتثال لحقيقة واقعية مضت..[7]، فلا يقال عن خلائق الخيال أنها  تطابق الواقع أو لا تطابقه، وإنما تصدق أو لا تصدق بمقدار تعبيرها عن خوالج النفس التي توحيها، ومقدار براعتها في الرموز إلى معانيها..

وعلى عادة الخيال بتمثيل المعاني بالمحسوسات فإذا قيل بأن هذه الخلائق الخيالية أنها صادقة فإنما يقال إنها خيال صحيح التعبير ورمز صادق الدلالة..

الكتابة الأدبية ليست محاكاة ” لوقائع” وخطاب الأدب يلملم شتى المعاجم، والسجلات، ويرتاد أكثر من فضاء، ويوظف المسموع والمرئي ، وينسج عن وعي، ولا وعي علاقة المبدع بالأدب إلى جانب  علاقته بالعالم والأخرين، وبذاته قبل كل شيء…[8]

الأدب العرفاني يصهر هذه الاتجاهات والوقائع التاريخية، والصور الفنية الخيالية في بوتقة واحدة كما يتناول سرائر النفس الإنسانية بحسب رموز التصوف وأسرار الحروف النورانية..

-3-

إضاءات نظرية حول مشروع الرواية العرفانية

انطلق مشروع الرواية العرفانية، برواية ” جبل قاف” سنة 2002 التي تتناول سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي باعتباره الملهم للمؤلف في عالم الإبداع العرفاني يقول المؤلف بهذا الصدد وهو الذي سقاني من رحيق محبوبيته وألبسني، خلعة سيادته فلهجت بما أعارني من بنات كشفه، فلست سوى اللسان والترجمان..[9]

وقد تناول في رواية ” بلاد صاد” سيرة وحياة الشيخ أبي الحسن الششتري( ت 668هـ)

وليس غرضنا الإحاطة بكل جوانب المشروع المعرفية، والجمالية .. وإنما نروم أننقدم بعض الإضاءات النظرية حول مشروع الرواية العرفانية والكتابة السردية التي تستلهم أسرار الحروف النورانية، لتؤسس لتصور معين للكتابة، باعتبارها شهادة حضور، تعالج أحداث حضارية وتاريخية كبرى وفق المنظور المعرفي، والعرفاني والجمالي..

فرواية ” الحواميم ” تعالج مأساة طرد المورسكيين من الأندلس ورواية طواسين الغزالي تعالج سيرة هذا الإمام العبقري  كما تعالج رواية “ابن الخطيب في روضة طه” سيرة  الوزير الأديب ابن الخطيب..، وهكذا في باقي الروايات (ياسين قلب الخلافة). حول السلطان عبد الحميد، وطوق سر المحبةعن ابن حزم والجنيد الم المعرفةعن الإمام الجنيد، وخناثة ألر الرحمة عن أم السلاطين، الأسرة العلوية الحاكمة في المغرب.

إن الغاية المتوخاة منأدب الرواية العرفانية بمختلف أنساقها البيانية، والمعرفية هي أن يحصل العرفان على  الكمال، طبقا لنموذج “حي ابن يقظان” الذي وضعه الفيلسوف ابن طفيل، ليقرب الفلسفة إلى الخليفة الموحدي (يوسف بن عبد المومن) فجعل البطل ينتقل من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية البرهانية، وينتهي إلى المعرفة الروحية العرفانية.

إن البناء الجمالي والقيمي للرواية العرفانية، قائم على الحروف النورانية المقطعة، التي توجد في مفتتح بعض سور القرآن الكريم، وعددها أربعة عشر حرفا، اختلف المفسرون حول المعنى المقصود بها، فيرى البعض أنها من أسماء الله الحسنى..

وفي القرآن تسع وعشرون سورة تبدأ بحروف الهجاء المقطعة ..، منها ما يبدأ بحرف واحد، أو حرفين، ومنها ما  يبدأ بثلاثة حروف، ومنها ما يفتتح بأربعة حروف..  .

ويعتبر جمهرة العلماء الحروف المقطعة من الآيات المتشابهة (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ ) ال عمران الآية 7.

والرأي الراجح أنه لا يمكن القطع بمعانيها وأسرارها البيانية..

إن قراءة أهل الظاهر للنص لا تقر بتأويلالمتشابه. لأن تأويل الآيات المتشابهة يجعلها في حكم المحكم، ولا يقبل ابن عربي بالتأويل العقلي الذي تبناه ابن رشد، لأن الفكر غير معصوم من الخطأ..، (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗوَمَايَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) يعني متشابهه، ومحكمه، فإن أشهده الله مآله فهو عنده محكم، وزال في حق هذا العالم العارف التشابه لما ألهمه الله به..، فهو وإن عرف تأويله فلم يزل حكمه متشابها..[10] فالصوفية بحسب ابن عربي أحق بشرح القرآن من علماء الرسوم والفلاسفة، لأن شرحهم يكون تنزيلا من عند الله على قلوبهم ..فلا سبيل الى معرفة الله  الا بالله نفسه وبالتالي فان  المعرفة بالله معراة  من الاسماء الالهية وتجلياتها ليست بمعرفة حقيقية ..

المعرفة الاشراقية  لا تكون الا بتلقي التجليات النورانية تحققاً وتخلقاً  وتعلقاً ..

الحروف موضوع شائع، بين علوم الحكمة والتصوف والقرآن والتفسير واللغة، وكل علم يتناوله على طريقته، يؤوله الفلاسفة والمتصوفة ويتحير فيه المفسرون.

كتب ابن سينا “رسالة في الحروف” وعقد له ابن عربي باباخاصا، في الفتوحات المكية، بعنوان ” في معرفة مراتب الحروف والحركات من العالم، وما لها من الأسماء الحسنى ومعرفة العلم والعالم والمعلوم” ويشير ابن عربي إلى أن الحروف المتفرقة في أوائل بعضالسور، لها معان تخفى على الأنظار وليس عبثا او غير مفهومة..[11]

إن منهج تحليل الحروف يقوم على التحليل والمشاركة بين النص والقارئ حتى تحدث عملية الفهم.

إن ابن عربي في تناوله للموضوع، يحول نظرية   العلم إلى نظرية الوجود، فاللغة ليست فقط أداة للتعبير والإيصال، بل هي ” منزلة الوجود” التعبير عن طريق الكون وحركات الكلمات التي تطابق حركات الوجود..

إذ يتسم الخلق باللغة،جماع الحروف والكلمات والمعاني، والأشياء، فالوحدة الأولى في الكون هي اللغة واللغة تبدأ بالحروف وألفاظ حروف، “إن الحروف أئمة ألفاظ”…[12]

إن معرفة مراتب الحروف تحيل إلى معرفة العلم والعالم والمعلوم، إحالة المعنى وهو العلم على الشيء والمعلوم أو العالم حامل للعلم، في لفظة أوفى معناه. والغرض هو إظهار إشارات من أسرار الوجود.

والقرآن،نزل على سبعة أحرف، ليس بمعنى القراءات أي المعنى الصوتي للحرف، بل بمعنى الأعماق في الفهم ومستويات المعرفة طبقا لمستويات الوجود..[13]. فالحرف له وجودان وجود في اللسان ووجود في فن الكتابة ..

والحروف لها معنى خاص في اوائل السور ومعنى عام في اللغة ..

-4-

تأويل الحروف النورانية عند ابن عربي

يستند المؤلف إلى مذهب للشيخ الأكبر ابن عربي  في تاويل الحروف من منطلق ، بأن القرآن منزل من حيث الفرقانية “بمطابقة تفصيل الوجود، فإنه بآياته التي فصلت ما بين أصوله التفصيلية ..لذلك يتجه من الحرف الى الروح ومن التنزيل الى التاويل ومن الظاهر الى الباطن مثل كل المتأولين من الفلاسفة والمتصوفة ..

وتحيل الأحرف إلى مراتب هذا الوجود. وأسرار الأحرف هي حقائق الموجودات، كما أنها تعبر عن حقائق الموجودات التي تتجلى خارج التوالي الزمني..

ويربط ابن عربي بين الأسماء الإلهية، ومراتب الوجود من جهة، وبينها وبين حروف اللغة من جهة أخرى، ويؤكد على أن الصفات الإلهية، وأسماء الله الحسنى لا تحصى في الحقيقة، لأنها تعبر عن الجوانب المختلفة للذات الإلهية اللامتناهية..

لقد نشأ الوجود كله حروفا في النفس الإلهية والإنسان الكامل هو الوسيط بين الذات الإلهية والإنسان…

إن النسق المعرفي لابن عربي ، يدور حول التجليات ومفهوم الأسماء، والصفات وغاية العارف  هي إدراك  تجليات الله، بأسمائه وصفاته في ظواهر الوجود، وقوانينه وحركة التاريخ حيث تفصح الإرادة الإلهية عن  ذاتها، في تجلياتها بأسمائها  وصفاتها اللامتناهية.. ضمن هذه الرؤية الجمالية والعرفانية نسج المؤلف مشروعه السردي الروائي .. فيختم السلسلة الثالثة من المشروع، وهي السلسلة المتعلقة بالفواتح الثلاثية ( ط سم- ألم- ألر) طوق سر المحبة، والمعرفة – الجنيد  والرحمة ” خناثة .. فقد خصص الرواية الثالثة (خناثة) لقيمة الرحمة بعد (ط- سم)  لقيمة المحبة و (ألم) لقيمة المعرفة ( الجنيد)..

ويرى المؤلف أن الشخصية المركزية في الرواية العرفانية هي الفواتيح النورانية (أي الحروف) أما الشخصيات الإنسانية ، فليست سوى مظهر  من مظاهر هذه الشخصية الكلية وترجمة  لها، في عوالم الإنسان..[14]

ويترتب عن هذا وجود سيرتان في الرواية العرفانية، سيرة تاريخية روائية للبطل أو الشخصية (ابن الخطيب الغزالي السلطان عبد الحميد، ابن حزم، الجنيد، خناثة أم السلاطين..) وهناك سيرة عرفانية عليا للفاتحة النورانية، يحققها الحديث، عن تجلياتها في مختلف مراتب الوجود..، هذا التمييز يجب أخذه بعين الاعتبار بين ما هو تاريخي أو إنساني بشري، وبين ما هو عرفاني من عالم المثل، والفضائل والكمالات..

ولا شك بأن هذا الوضع قد يربك القارئ المتعود على إنساق الرواية التقليدية ، ولتجاوز هذا الوضع لا بد من قارئ شريك في العملية الإبداعية ، ولا بد  أيضا من تحرير الإبداع من كل إلزام ووصاية، أو انحياز أو إخضاع، وأن تكون الغاية من الإبداع الجمالي شهادة على الحاضر والمستقبل…

فالأدب الرفيع  تعبير صادق عن تجارب الحياة الزاخرة .. ينفذ الى روح الموضوع  ويحيط باصوله و مقوماته وهو القادر على الحضور في كل الأزمنة التاريخية والعرفانية،لأنه سفر في الوجود والأزل..

-5-

خاتمة

إن أدب الروايةالعرفانيةيضع مفهوما محددا للسرد كأداة للتربية والترقية، روحين، والاستضاءة بعلم الحروف، واستبطان المعارف الروحية،  بالذوق..

بهذه المقاييس يستطيع القارئ ولوج عوالم هذا الأدب والتحقق بحقائقه..[15]

العمل السردي، ليس استنساخا للأحداث والوقائع التاريخية، إنه بناء مستقل يمزج الوقائع التاريخية بالخيال الروائي..  الذي يتشكل من مجاز اللغة والخيال…

فانفتاحه على الوقائع والأحداث التاريخية الغرض منه توسيع دائرة الخيال، بحيث يصبح المحكي التاريخيبأحداثه وشخوصه وتفصيلاته وأبعاده الشعورية والنفسية، ينتمي إلى الخيال الخلاق..

والخلاصة أن تجربة الرواية العرفانية تجربة أدبية خصبة، متعددة المداخل، ورحبة الآفاق، تمزج بين النظر الفكري والتأمل العرفاني والذوق الجمالي لتجعل من الإبداع شهادة على أحداث العالم ومفارقاته …

لا ريب أن الرواية مرآة يرى فيها الناس أنفسهم والرواية العظيمة لا تخلو من الفن، لأن الفن ينشأ من الروح، فإذا انتهى العصر بقيت الترجمة لأنها ترجمة عن الإنسان الخالد.الرواية العرفانية،قراءة للماضي من خلال حضور كامل، وفتح لإمكانيات المستقبل الكامنة في التراث الحي في طوايا النفوس والذاكرة الجمعية للأفراد والجماعات،غايتها استنهاض الهمم وإيقاظ الضمائر وحث الإرادات من أجل الصلاح والإصلاح، والانخراط في حركة الحضارة الإنسانية.

الادب كالحياة فلا يستوعبه ولا يستغرقه أسلوب.. انه بحر من الأفكار الخلاقة والخواطر البديعة الهادية لعلم الأسرار الذي ينير القلوب..

و الفكر الحق تعبير عن الحس الصادق والراي الجريئ والعزيمة الصارمة والبصيرة النافذة  التي تستبقي ما هو جدير بالبقاء ..من العقائد الصالحة  التي خلصت من الشوائب  وتهيأت للتوفيق بين حقائق الحياة .. وذلك بالفن الخلاق الذي يجمع بين صدق اللباب والجوهر..وفضائل الكمالات ونورانية العرفان..

 

المصادر:

[1] بدأ المشروع برواية جبل قاف سنة 2002 ثم بحر نون 2007، بلاد صاد 2009، الحواميم2010،  طوااسين الغزالي 2011، ابن الخطيب في روضة طه 2012، ياسين قلب الخلافة 2013، طوق  سر المحبة 2015، الجنيد ألم المعرفة 2017، خناثة الر الرحمة 2018.

[2] ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ، ج.1، ص351.

[3] محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون العصبية والدولة ، ط8-2007، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 100.

[4]ابن خلدون،المقدمة، ج 3، ص 883.

[5] العصبية والدولة، ص 118.

[6] خالد القحطاني، الكتابة التاريخية ، دار طوبقال للنشر ط 1/2012، ص 14.

[7] النقد التاريخي ، ترجمة عبد الرحمن  بدوي ، دار النهضة العربية ، ط4/1981، ص173.

[8]محمد برادة ، من أجل النسيان ، لعبة النسيان، امرأة النسيان دار الشروق ، ط1/2010، ص298.

[9]عبد الإله بن عرفة، جبل قاق، منشورات ضفاف، ط1/2013، ص 5.

[10]محمد غراب ، رحمة الرحمن في تفسير القرآن 1989، ص313.

[11] حسن حنفي،تأويل الحروف عند ابن عربي، في كتاب الرمزية والتأويل فيفكر الشيخ ابن عربي، دار ننوى ، ط 1/2017.ص29

[12] المصدر السابق، ص31.

[13] المصدر السابق، ص 33.

[14]عبد الإله بن عرفة، خناثة – ألر- الرحمة، ط1 / دار الآداب 2018- ص 263.

[15] محمد التهامي الحراق، في الرواية العرفانية في تجربة عبد الإله بن عرفة ط 1/2012، جمعية سلا، المستقبل، ص 17.

______________________

*نقلًا عن موقع “صحيفة المثقف”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى