وقد كانت وسيلة هذا الانتشار الشعبي للإسلام ما نسميه اليوم الطرق الصوفية في المقام الأول. بيد أنه قبل إنشاء هذه المؤسسات المحلّية، دائماً ما نجد بعض الأولياء الذين تجذب ممارستهم وفهمهم للإسلام بصورة طبيعية الآخرين إليهم. استندت معظم هذه المؤسسات الروحية والممارسات التعبّدية على الذكر، في الطقوس المألوفة من شعر، وموسيقى، وحج، ومهرجانات متجذِّرة في العادات واللغات المحلّية (غالباً مكتوبة بأحرف عربية). لكن حتّى الآن، إن أردنا فهم المعاني الأعمق لهذه الموسيقى والشعر الديني (على سبيل المثال، القصائد المشهورة في مدح النبي محمد، في الاحتفالات بالمولد النبوي وبرسالته) ينبغي علينا العودة إلى تفسيرات ابن عربي.
وماذا عن العالم المعاصر؟
موريس: هناك سلسلة معقّدة كاملة من التأثيرات تمتدُّ حتّى يومنا هذا. ويمكن أن نأخذ كمثال، تأثّر الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، الذي عاش بعد حوالي مئة عام، بعمق بتعاليم ابن عربي. ومن ثم بعد عدة قرون، تعلّم الشاعر والأديب الألماني “غوتة” الفارسية ليقرأ شعر حافظ. ليس فقط كتاب غوتة الشهير “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” بل أيضاً الكثير من مسرحيته “فاوست” تستند بعمق على فهم القرآن الذي نُقِل إلى الشاعر الألماني عن طريق شعر حافظ. ومن ثم في يومنا هذا، حين نواجه إعادة السرد الاستثنائي لفاوست في فيلم المخرج الألماني “فيم فيندرز” الشهير “أجنحة الرغبة”، تبقّى القصة بشكل مذهل قريبة إلى تعاليم القرآن لدرجة أنني غالباً ما استخدمها لتعريف طلاب السنة الأولى بالقرآن.
في مقام ابن عربي في دمشق، يُعتبرُ ولياً. يذهب الناس إلى هناك من أجل الدعاء والهداية. لكن ماذا عن جانبه الفكري؟
موريس: توجد ثلاث طرق لتصوّر الناس لابن عربي. من الواضح أن “الشيخ محيي الدين” يُعتبر أحد الأشخاص ذوي الكرامات في دمشق. علاوة على ذلك، ينبغي علينا التمييز بين كيفية استخدام عمله في العالم الناطق بالعربية وبين صورته في بقية العالم الإسلامي. ففي المناطق الناطقة باللغة العربية، يمكن لأي شخص تقريباً قراءة بعض كتاباته. ولذلك استخدم الباحثون، والخطباء والمعلّمون الصوفيون هناك، باستمرار تفسيرات القرآن والحديث المستقاة من كتابات ابن عربي، التي هي كلها في نهاية المطاف تعليقات روحيّة على القرآن والحديث.
بيد أنه في العالمين الإسلامي العثماني والآسيوي، لا يمكن لأعماله أن تُقرأ مباشرة إلا من قبل طلاب الدراسات الدينية القادرين على قراءة العربية الفصحى. لذلك ففي هذه المناطق (العثمانية والآسيوية) كان تأثيره إما بين المفكرين أو، بشكل أوسع، عبر الشعراء المؤثرين الذين أخذوا أفكاره التوجيهية وقاموا بتكييفها بصورة مبدعة في طقوسهم ولغاتهم المحليّة. فأصبحت أفكاره رائجة عبر الشعر والموسيقى ذات الصلة.
يُعرَف ابن عربي برؤيته للتسامح والتناغم بين الأديان. كيف استُقبِلت هذه الرسالة في الأوقات الحالية؟
موريس: غالباً ما أيّدت إمبراطوريات العثمانيين والمغول المتعددة الأديان في الهند تعاليم ابن عربي لأن أفكاره دعمت الإبداع والتنوّع الروحي من خلال تركيزها على أبعاد التجربة الروحية الفريدة لكل فرد.
فوجهات نظر ابن عربي (مثل وجهات نظر العديد من المعلمين الصوفيين الآخرين) تركّز على الواجبات والمسؤوليات التي يتشاطرها البشر -روحياً وأخلاقياً وفكرياً- بدل التركيز على ما يُفرّقهم. ولذلك لا يزال ابن عربي جذّاباً للغاية بالنسبة للباحثين الجدد. وإن كنا بصدد تشكيل حضارة عالمية إنسانية بالكامل، فمن الواضح أننا بحاجة إلى الإبداع والتعاون العميق الذي ينبع من فهم روحي حقيقي.
إلا أن فهمه للقرآن يبقى فهماً حرفياً؟
موريس: حرفي للغاية، بيد أنه يجب شرح ذلك، لأن هذا التعبير ينطوي على مفارقة. يستند فهم ابن عربي للقرآن بعمق على اللغة العربية، التي تملك جذورها (مثل الأحرف الصينية الكلاسيكية) معاني متعددة ومتداخلة. وهذا الواقع هو -أساساً- معاكس لفكرتنا الشائعة المتمثّلة في أن “الحرفي” يعني كل ما يُعلَّمُ للأطفال وما شابه ذلك.
وعلى العكس من ذلك، فاللغة العربية التي نزل بها القرآن دائماً، وبشكل مثير للتحدي، متعدّدة الجوانب ومتعدّدة الأبعاد. لذا فحرفية ابن عربي تساعدنا على رؤية المعاني، متكيّفة مع الظروف المتغيرة التي تختلف كثيراً عن المعتقدات المتعارف عليها. لذلك بالنسبة له المعنى “الحرفي”، المقصود إلهيّاً هو المعنى الروحي- وذاك المعنى الروحي يتطوّر ويتعمّق في مجرى حياة كل قارئ.
كيف يستقبل الناس في العالم العربي الحديث ابن عربي؟
موريس: ربما نجا نصف كتاباته، التي يبلغ عددها 600، حتّى اليوم. بيد أن العديد من أبحاثه الأقصر موجودة في كتابه الضخم “الفتوحات المكّيّة”، المتواجد الآن، بلغته العربية الأصلية، للجمهور في كل أنحاء العالم وبشكل متزايد في ترجمات جزئية. أما كتابه الآخر الأكثر تأثيراً، فهو “فصوص الحِكَم”، الذي تُرجِم ودُرِس بشكل واسع، على الرغم من أن لغته المتناقضة عن قصد لا تجعله متاحاً لعامة الناس. اليوم، لدينا المزيد من الطبعات العربية لأعماله، بيد أنه لا سبيل إلى فهمها بالنسبة لطلّاب اليوم، بسبب إشاراتها المستمرة إلى النصوص المقدّسة والعلوم الدينية التقليدية.
ما الذي يجعلها صعبة القراءة؟
موريس: الكتابات العربية في زمان ابن عربي ليست مستقلّة: كان القصد أن يشرحها المعلمون. فهم يفترضون الشروحات الشفهية لشيخٍ يمكن أن يضعها في السياقات التي تحتاجها الجماهير المختلفة.
هل يجري أي بحث عن ابن عربي اليوم في الشرق الأوسط؟
موريس: اليوم، تقريباً في كل بلد مسلم (ليس فقط في العالم العربي)، هناك اهتمام متزايد بدراسة وتدريس أعمال ابن عربي في المستوى الجامعي، إلى جانب الدراسة التقليدية في الأوساط الدينية والصوفية. لا شكّ أن هذا التطوّر ليس عرضياً. إذ أن رد الفعل الأكثر إيجابية وإنتاجية للشعارات المبسّطة والمألوفة للأيديولوجيات الدينية-السياسية الحديثة هي تقريباً دائماً يمكن العثور عليها في كتابات ابن عربي، في القراءة العميقة للقرآن والحديث المجسَّدة في كتاباته.
أليس هذا التركيز على الروحانية الفردانية هي تحدّي للإسلام الأرثوذوكسي أيضاً؟
موريس: رغم أنني أجد فكرة “الأرثوذوكسية” في الإسلام إشكاليّة للغاية، إلا أن شيوخ الأزهر غالباً ما كانوا باحثين متعمقين في ابن عربي (والصوفية بشكل عام)، بينما في تركيا اليوم يُعتبر ابن عربي “أرثوذوكسياً” للغاية (أي بدعم من الحكومة الحالية، في استحضار واعٍ للتراث العثماني لتركيا). في المسلسل التركي الشهير (من نتفلكس) الذي يتحدث عن أصل العثمانيين “أرطغرل”، يُصوَّر ابن عربي على أنه نوع من “بطل خارق” صوفي تقيّ يظهر في أوقات الأزمات ويُنقِذ الموقف. وفي إيران، عبّر جميع الشعراء الفرس الصوفيين الكلاسكيين عن رؤى ابن عربي، في حين درّس المفكّرون الدينيون الحديثون الرئيسيون كتاباته: لذلك مرة أخرى، يحظى ابن عربي بالتوقير على قدم المساواة من قبل رجال الدين الأرثوذوكسيين والعامة، على الرغم من الاختلاف الكبير في الأسباب. كما تحظى أفكاره بالقدر ذاته من الرواج ويتزايد تأثيرها في بلدان من السنغال إلى أندونيسيا.
هل يُشكّل ابن عربي مصدراً لعلماء الدين الإسلاميين الإصلاحيين؟
موريس: بما أن الإصلاح اليوم غالباً ما يحيل إلى الربيع العربي، و إلى عواطف وآمال الأغلبية الساحقة من السكّان، فلا يزال ابن عربي يُلهِم الناس بالتأكيد، إلا أن الإصلاح الأعمق بالنسبة له يتمثّل دائماً في إصلاح القلب والنوايا التي تعلمنا كيف نبني عائلاتنا ومجتمعاتنا.
وأخيراً، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن مفكّري العالم العربي اليوم غالباً نصفهم في المنفى، ونصفهم في الوطن. إذ يعيش عدد كبير من المفكرين المسلمين اليوم في أوروبا، والولايات المتحدة، أو الشرق الأقصى، مستخدمين العديد من اللغات. ويسعى هؤلاء الأشخاص المتعلمين تعليماً عالياً وراء رؤية صحيحة بالنسبة لتقليدهم الديني وفي الوقت ذاته لها معنى في عالمنا المعولم. وهذا ما يقدّمه ابن عربي لهم.
حاورته: كلاوديا منده
ترجمة: يسرى مرعي