وصايا ذي النون المصري
وصايا ذي النون المصري
من الصوفية من غلب عليه هذا الفن، وهو إسداء الوصايا والنصائح من هؤلاء ذو النون المصري، وهو رجل نشأ في أخميم، وتوفي بالجيزة سنة ٢٤٦،١ وكان ذو النون من أهل العلم، ولكن غلب عليه التصوف فشاعت عنه أمور دعت الناس إلى اتهامه بالزندقة، وسعى به قوم إلى المتوكل فاستحضره من مصر إلى بغداد، فسيق مقيدًا مغلولًا، وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه، فلما دخل على المتوكل وعظه فبكى وردّه مكرمًا، وعاد خصومه خاسئين.
قال إسحق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون وفي يده الغُل، وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد:
لك من قلبي المكان المصون كل لوم عليَّ فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلًا فيك والصبر عنك ما لا يكون٢
وكان ذو النون يهيجه السماع، فقد حدثوا أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعهم قوال فابتدأ ينشد:
صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئب إذا ضحك الخليّ بكى
فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر منه.٣
ومن كلامه: الصوفية هم قوم آثروا الله على كل شيء، فآثرهم على كل شيء.
والكلام عن ذي النون كثير جدًا، ويكفي أن نحيل القارئ على ترجمته في الجزء الثاني من كتاب (جامع كرامات الأولياء) للنابلسي، فقد جمع أكثر أخباره وكراماته، هو شخصية جذابة تستحق الدرس، ولكن منهج البحث لا يسمح بأكثر من هذه الفقرات.
شواهد من وصاياه:
ونصائح ذي النون كثيرة جدًا، وهي في فنون مختلفة من الأخلاق، ونحن ذاكرون طائفة قليلة تبين مذهبه في القول، وطريقته في إصلاح القلوب.
- الوصية الأولى: «ليس بذي لب من كاس٤في أمر دنياه، وحمق في أمر آخرته، ولا من سفه من مواطن حلمه، وتكبر في مواطن تواضعه، ولا من فقد منه الهوى في مواضع طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العاقل في مثله، ولا من رغب فيما يزهد الأكياس في مثله، ولا من استقل الكثير من خالقه عز وجل، واستكثر قليل الشكر من نفسه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولم ينصف من نفسه غيره، ولا من نسي الله في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم فعرف به ثم آثر عليه هواه عند متعلمه، ولا من قلّ منه الحياء من الله على جميل ستره، ولا من أغفل الشكر عن إظهار نعمته، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه لنجاته إذا صبر عدوه على مجاهدته، ولا من جعل مروءته لباسه، ولم يجعل أدبه وورعه وتقواه لباسه، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفًا وتزيينًا في مجلسه».
وهذه الوصية نقلها ابن عربي في الفتوحات،٥ ويظهر أنه قالها في أحد المجالس، بدليل قوله: «ثم قال: استغفر الله، إن الكلام كثير، وإن لم تقطعه لم ينقطع، ثم قام وهو يقول: لا تخرجوا من ثلاثة: النظر في دينكم بإيمانكم، والتزود لآخرتكم من دنياكم، والاستعانة بربكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه».
- الوصية الثانية: «ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن اعتنى بالفردوس والنار شغل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر المزيد زيد له».٦
- الوصية الثالثة: واعتل رجل من إخوان ذي النون فكتب إليه أن يدعو له فكتب إليه ذو النون:
سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك النعم، واعلم يا أخي أن العلة مجازاة يأنس بها أهل الصفاء والهمم والضياء … ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء، ومن لم يأمن الشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهم على أمره، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى، والسلام.٧
ومن هذه الشواهد القليلة نعرف اتجاه ذي النون في فهم الأخلاق، فهو رجل يرى الخير كل الخير في الأنس بطاعة الله، ويرى المغنم الحق في صفاء القلوب.
هوامش:
١- كذلك ذكر ياقوت في معجم البلدان عند الكلام على أخميم، وذكر صاحب وفيات الأعيان أنهم اختلفوا في موته فقيل سنة خمس وأربعين، وقيل سنة ست وأربعين، وقيل سنة ثمان وأربعين (ج١ ص١٨١).
٢- وفيات الأعيان ج٢ ص٢٧٩.
٣- نشر المحاسن الغالية ج٢ ص٢٠٥.
٤- من الكياسة وهي العقل.
٥- ج٤ ص٦٦٥.
٦- الفتوحات ج٤ ص٦٦٦.
٧- الفتوحات ج٤ ص٦٩٠.