الدراسات والبحوث

الالتزام الأخلاقيُّ : مباحثة برغسون مع كانط

مونيك كاستيلو

الالتزام الأخلاقيُّ : مباحثة برغسون مع كانط

مونيك كاستيلو

مقدِّمة:

بادئ ذي بدء، من المستحيل عدم إثارة العقبات المنهجيَّة التي تعترض إقامة مباحثة بين مدرسة كلٍّ من كانط وبرغسون حول طبيعة الالتزام الأخلاقيّْ. أولاً، لأنَّ الفلاسفة لا يتصرَّفون على أنَّهم أساتذة في الفلسفة، فهم بالكاد لا يعلِّق بعضهم على بعض؛ وثانياً لأنَّ مواجهة الأساليب الفلسفية الكانطيَّة والبرغسونيَّة ستبدأ حتماً بمعارضة الفرق بين الأخلاق العقلانيَّة والأساس ماوراء العقلانيِّ للأخلاق.

سرعان ما يؤدِّي ذلك إلى إقفال مزدوج للنقاش على ما يُظهر أنَّ الأخلاق الكانطيَّة تثبت مفهوم كانط حول العقل، في حين تثبت الأخلاق البرغسونيَّة تفوُّق العقل على الحدس. وفي النهاية، لأنَّه ينبغي منح كانط حقَّ الردِّ، والذي لا يمكن أن يتمَّ عبر تقديم حجج السلطة، والتي – علاوة على ذلك – لن تكون كتلك الحجج التي ظهرت بعد وفاته. وهكذا لا يبقى إلاَّ رأي واحد يتمثَّل في تصوُّر هذه المناظرة بوصفها تجربة فكريَّة.

لنبدأ من خلال تناول الالتزام الأخلاقيِّ بوصفه تجربة فكريَّة تنطوي تحت عنوان التجربة الداخليَّة لتؤدِّي إلى ازدواجيَّة مدروكيَّة الالتزام الأخلاقيّْ.

 

1- واجب الكينونيَّة والتعبئة الأخلاقيَّة:

«واجب الكينونيَّة» من الواجب – وهو تجربة انعكاسيَّة تدلُّ على تصوُّر الالتزام على أنَّه ضغط اجتماعيٌّ لا ينطبق على أساس الواجب لدى كانط. ولأنَّ كلمة «ضغط» في حدِّ ذاتها تلغي الفكر المتعلِّق بواجب كينونيَّة الواجب، فإنَّ التجربة التي يطبِّقها كل فرد بوصفها واجباً هي «واجب الكينونيَّة».

وإذا كان وجود الأنا الاجتماعيَّة ليس مقبولاً به، فإنه يُوجَّه من خلال الأخلاق نحو طبيعة الروابط الاجتماعيَّة والحقيقة التي يحافظ عليها المجتمع من خلال التوافق العام للسلوكيَّات الفرديَّة مع قوانين تلك الروابط. ولكن بمجرَّد الاعتراف بالقوانين والعادات في هذا الدور والوظيفة، وبمجرَّد الإدراك بأنَّ الالتزام الأخلاقيَّ ليس أخلاقيَّاً بطبيعته وإنما هو اجتماعيٌّ، تختفي قوَّته الملزِمة وينتهي نظري له على أنه دافع جماليّْ. ولا أرى أنَّ أحداً قد يغامر في التأكيد على أنَّ رأيه الموضوعيَّ أو الحياديَّ أو العادل ينبع من كونه يتصرَّف تحت تأثير ما كمراقبة الآخرين له. وعلاوة على ذلك، تُظهر التجربة أنَّ الضغط التضامنيَّ نفسه ليس ما يقودني إلى الواجب، وإنَّما بالأحرى يحرِّرني منه. فإذا ما سمح الضغط لي بالحدِّ من خياراتي وجعلها تقديماً بسيطاً، وإذا استطعت الاعتماد على تأثير «جيد»، وهو «جيد» لأنَّ كلاًّ من الأسرة والمجتمع والغريزة والطبيعة يستفيد منه، سوف أغتنمه للهروب من هذا الداخليِّ المُلزِم والرسميِّ جداً، الأمر الذي يدفعني إلى العمل من أجل مطلب محض، وهو العالميَّة». “إنَّ السلطة المؤسَّسيَّة التي تهدف إلى أن تكون للعامَّة تصبح «أخلاقيَّة» حين يتولاَّها من يُعترف به باعتباره المتلقِّي (…). فالسلطة الأخلاقيَّة تقوم على الحقيقة المؤسَّسية من دون الخلط بينهما”.

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الأخلاق الاجتماعيَّة تتمتَّع بدافع تضامنيٍّ شديد القوَّة، وأنَّها تثير شعوراً بالولاء بلا منازع لقانون الجماعة؛ ولكن من يطيع الأخلاق العشائريَّة وحدها، سواء أكانت عشيرة عائليَّة أم وطنيَّة، يُظهر نفسه محروماً من الإرادة الأخلاقيَّة على وجه الخصوص؛ وكما يظهر التحليل البرغسونيُّ، فهو لا يتصرَّف إلاَّ بحسب غريزته بطريقة تحت عقلانيَّة. وإنَّ دائرة التضامن، بحسب برغسون، لا يمكن تجاوزها في أثناء التوجُّه نحو العالميَّة، ممَّا يرسم في الوقت نفسه حدود المفهوم البراغماتيِّ للالتزام الأخلاقيّْ.

كما يجب توخِّي الحذر من السمعة، إذ يبدو أنَّ تقبُّل الشارع الفرنسيِّ المفاهيم الكانتونيَّة لم يكن سوى فهم كانط بوصفه فيلسوفاً للمحرَّمات على المستوى النظريِّ (مع الحدود المُدرَجة في الجماليَّات المتعالية) والعمليِّ. ولكن لا يمكن نسيان أنَّ كانط يعارض المفهوم الذي يُعدُّه الفلاسفة أنفسهم «واجباً»، تماماً كما سيعارضه برغسون بدوره ولو اختلفت أسبابهما، وذلك حين يقلِّلان من شأن الواجب، وينحدِران به إلى عِدِّه مجرَّد طاعة وضغط خارجيٍّ، حتى لو كان هذا الضغط الخارجيُّ نابعاً من الداخل. ولذلك، يجب أن نحذِّر من القوَّة التثبيتيَّة للكلمات، فإذا كنَّا نفكِّر في «الواجب» بدلاً من «واجب الكينونيَّة» وفي «القانون» بدلاً من «القانون الكونيِّ»، فإنَّ الإلزام الأخلاقيَّ الكانطيَّ لا يزداد قرباً من الأخلاق الاجتماعيَّة، بل يصبح بغيضاً لا يُطاق، إذ يتألَّف من القول أنَّ واجبي هو عبارة عن طاعتي للقانون، وهي الصيغة التي قد تُنسَب إلى إيخمان ولكنها ليست لكانط.

من ناحية أخرى، يبرهن العقل الواقعيُّ بما لا يقبل الجدل أن أعرف منذ البداية أنَّ ما يأمرني لا يؤثِّر فيَّ، لأنِّي بنفسي أحوِّل الواجب إلى أمر. وقد تكون صيغة شيلر الساخرة متطرِّفة («أن تفعل على مضض ما يأمرك به الواجب»)، ولكنَّها تحمل جانباً من الحقيقة، وهي أنَّ الإرادة الأخلاقيَّة ليست طبيعيَّة ولا يمكنها حتى تقليد الطبيعة. ويرى كانط أنَّ الالتزام الأخلاقيَّ يشهد على تفكُّك الحياة البيولوجيَّة في الحياة المميِّزة للأنواع البشريَّة بشكل خارج عن السيطرة، وإنَّ الانقسام بين الوجود وواجب الكينونيَّة ينبغي أن يجعل من المستحيل انغلاق الذات على نفسها إلاَّ لممارسة «سوء النيَّة» التي تحدَّث عنها سارتر، فيجعل من الفرد نوعاً من المجتمع المفتوح، ويتجلَّى ذلك في سيادة حقِّ البشريَّة على حقِّ الإنسان كما أكَّدها كانط.

ومن أجل إضافة وسائل التفكير العقلانيِّ إلى هذه التجربة الفكريَّة، ينبغي علينا  إدرك أنَّ التفسير الإجتماعيَّ حصراً للأخلاق يقع في مأزق لا مفرَّ منه. وإذا بدا الالتزام بشكل ضروريٍّ وطبيعيٍّ كأنَّه عمل مجتمع منغلق، فإنَّ جميع الأخلاق الاجتماعيَّة الخاصَّة لها ما يسوِّغها. كما أنَّ أكثر الخصوصيَّات المجتمعيَّة الوحشيَّة واللاَّإنسانيَّة لها في حدِّ ذاتها شرعيَّتها غير القابلة للنقد، حتى أنَّ احترام انغلاق الأخلاق يتعارض حتماً مع مبدأ الإخاء البشريّْ.

 

2 ـ من الواجب إلى الحب:

يثير هذا العنوان تجربة فكريَّة أخرى مع برغسون، مفادها أنَّ الحبَّ تجاوز الواجب، وهكذا يتجاوز الدافعُ الالتزامَ المتعلِّق به والذي يصبح صميم الأخلاق، وتصبح التجربة الأخلاقيَّة كلُّها «تعبئة» كاملة. وإنَّ أيَّ تمثيل للواجب لا يكفي في حدِّ ذاته لإنتاج قوَّة الدافع، بل هو بمنزلة الحركة التي هي العاطفة، ومصدر هذه التعبئة  أبعدُ من أن تتحكَّم به الظروف لأنَّه ينبع من الدافع الفريد والأصليِّ الذي يعيد خلق الحياة كحياة، أي كاندفاع. أمَّا برغسون فحَّلل الالتزام بوصفه دفعة وجذباً وطموحاً يمارِس في حدِّ ذاته قوَّة أخلاقية تساعد على فهم أنَّ الدافع بنفسه هو حركة لا تنفصل عن العمل، بل هو العمل. وهذه هي تجربة الصوفيِّ الذي يختبر مباشرة في عمله محبَّة الله للمخلوق والتي تحتضن الإنسانيَّة العالميَّة، وهي تجربة من دونها سيتحوَّل الحبُّ الذي يتظاهر المرء به نحو الإنسانيَّة العالميَّة إلى حبٍّ فارغ أو مستعار. ولهذا فإنَّ محتوى الالتزام تعبويٌّ وليس صيغته كذلك، وهذا يتطابق مع المطواعيَّة القصوى للطاقة الحيويَّة للديناميَّات النقيَّة التي لا تشترط حتى إعمال العقل.

تُظهر التجربة أنَّني ربما لا أستطيع الإيعاز بهذا التجديد، أو تجربة هذه التعبئة أو إلهامها، غير أنِّي أفهم وأتلقَّى وأقبل كدليل واضح على هذه الأولويَّة المطلقة للدافع وراء التمثيل، ولذلك يمكن أن نفهم أنَّ ما يتجاوز العقل ليس بلاعقلانيّْ. ومن دون الرجوع إلى مفهوم الحافز لدى كانط، أو الاشتباه بالشذوذ النفسيِّ لدى برغسون، قد يقدِّم ذلك شرحاً إيجابيَّاً لهذا المُدرَك في التجربة الصوفيَّة على حدِّ تعبير الأخير.

لقد مازت المسيحيَّة، جوهر التصوُّف الكامل، التكوين التاريخيَّ لإنسانيَّتي على المستوى الأخلاقيِّ، ولأنسنتي على المستوى النفسيّْ. فحين أفهم التجربة الصوفيَّة بوصفها تجربة ما وراء عقلانيَّة، ربما يكون هذا التكوين الاجتماعيُّ والثقافيُّ بمنزلة تتابع بديهيٍّ للمُدرَك الذي قدَّمه برغسون للحياة النفسيَّة كمسألة روحيَّة، مُتَرَوْحِنة في كلِّ حال. وربما تكون هذه طريقة أخرى لإدارة فكرة واجب الكينونيَّة في المسيحيَّة؛ فالحماسة المتطرِّفة للعقائد والطقوس ستكون مشبوهة و«باثولوجيَّاً» بالمعنى الواسع الذي يستخدمه كانط لهذا المصطلح، إذ يعزو إلى علم الميكانيك العاطفة المتكيِّفة التي تستنسخ تكييفها الخاصّْ. ولا يكون الحال نفسه عندما تركِّز الحماسة على الإلهام أو الحدس الخلاَّق في المسيحيَّة، إذ لن يكون مناسباً أن ننكر على الدين ما يمنحه الجميع على مضض للفنِّ والأدب والشعر، أي الحدس الخلاَّق للعبقريَّة الذي يخلق أو يعيد خلق قدرة الخلق لدى كلِّ شخص.

ولذلك، علينا أن نعترف بأهليَّة اختبار مُدرَكَيْن للالتزام وليس مُدرَكاً واحداً، حيث تحدِّد تجربة الالتزام عند برغسون خليطاً بين الباعث والقيود: إذ يبقى في القيد شيء من الباعث ما فوق إنسانيٍّ لا يكون الالتزام من دونه سوى فعل مجتمع من النمل الأبيض وليس مجتمعاً إنسانيَّاً. أمَّا كانط فيرى أنَّه إذا لم يُؤكِّد الامتثال للواجب أنَّ احترام الواجب لا يمكن قياسه بأيِّ امتثاليَّة اجتماعيَّة، أي بالمصلحة العمليَّة لكلِّ مجتمع على حدة، فسيكون من المستحيل الاعتراف بوجود ما يسمِّيه “التصرُّف في الشخصيَّة”، وهي تقديم كونيٌّ لدى كلٍّ منهما.

من دون هذا الفهم الأخلاقيِّ الأدنى لمفهوم كلٍّ منهما حول الأخلاق، لن يكون من الممكن ببساطة قراءة هذين الفيلسوفين، ولا يبقى إلاَّ أن نذكر أسباب الاهتمام الذي قد يكون مشتركاً في كلتا القراءتين، الأمر الذي يبدو لي أنَّه بسبب النطاق الكونيِّ الذي يعزوه كلٌّ منهما إلى أساس الالتزام الأخلاقيِّ. وفي كلتا الحالتين، يذهب التحليل إلى ما هو أبعد من مسألة الذاتيَّة الأخلاقيَّة التي لا تكون مسؤولة إلاَّ عن ضمان مشروعيَّة السلوك ومطابقته البسيطة مع القوانين والعادات المعمول بها، وهو يشمل مصير الجنس البشريِّ والالتزام الأخلاقيِّ حول المصير ومستقبل البشريَّة على أنَّها مسألة مفتوحة، وذلك بحسب كلٍّ من كانط وبرغسون. ويرى كلٌّ منهما أنَّ التغلُّب على مجتمعات معيَّنة كالدول التي تشنُّ الحرب بضرورة طبيعيَّة أو اجتماعيَّة، يقودها الإلهام نفسه: وهو واقع الإنسانيَّة العالميَّة التي يطلق عليها برغسون «الإخاء البشريّْ» ويسمِّيها كانط «الوجهة الأخلاقيَّة البشريَّة». وهكذا تجعل الأخلاق كلَّ واحد منهما فيلسوفاً كونيّاً بحسب لغة كانط التي قد تكون موضع تساؤل. فماذا يعنيه أن تكون أستاذاً في علم الأخلاق أو فيلسوفاً أخلاقيَّاً حين ينبغي على الالتزام أن يلتفت إلى وجود البشر بوصفهم مخلوقات حيَّة؟

 

  1. II. من الالتزام الأخلاقيِّ إلى الجنس البشريّْ:
  • البُعد الكونيُّ للمسألة الأخلاقيَّة: أثار كلٌّ من الفيلسوفين تشبيهاً خارجيَّاً وموجزاً يجعل من الممكن تحديد النطاق الجديد لهذا الاستكشاف. ففي ما يتعلَّق بكانط، يبدو من خلال علم العمارة النقديَّة للعقل الخالص، وكذلك في العلوم الطبيعيَّة، أنَّ الفيلسوف الذي يُعرف بأنَّه «مُشرِّع العقل» هو الذي يعطي صيغة القانون العالميِّ للأخلاقيَّات. ومن ناحية أخرى، تعتزم المدرسة البرغسونيَّة إطالة أمد العلوم المادِّيَّة بوساطة علم الذهن الذي يؤدِّي إلى صياغة قانون للتطوُّر يجعل الطاقة الصوفيَّة أصل التحوُّلات الأخلاقيَّة العظيمة للبشريَّة. إنَّها مسألة إدراج الأخلاق في نسيج الواقع الكونيّْ. وفي كلتا الحالتين، تظهر إرادة قمع الأوهام التي تقود الميتافيزيقا نحو مشكلات لا حلول لها، والاهتمام بإشراكها في مسار تقدُّم المعارف.

لا ريب في أنَّ كلاًّ من الفيلسوفين مدركٌ لعلوم زمانه، وطلب الحصول على العلميَّة التي توقَّعها كلاَّهما من الفلسفة لا يتكوَّن عند محاكاة أسلوب العلوم الطبيعيَّة، ولكن في جلب نوع من المعرفة ذي طبيعة ميتافيزيقيَّة، كتلك التي لم تصوِّرها أو تضعها الفيزياء أو الفيزيائيون.

وهكذا، فإنَّ الصيغة التي يفقد الإنسان فطرته بسببها، وتُستَخدم في كثير من الأحيان بطريقة بلاغيَّة وسطحيَّة، تفقد كلَّ الفرضيَّة بمجرَّد أنَّها تشترك في الأنطولوجيا الحقيقيَّة لمستقبل البشريَّة، حيث تأمر بقراءة الحقيقة البيولوجيَّة على أنَّها حقيقة ميتافيزيقيَّة، كطبيعة تُعدُّ حياة الإنسان للغايات التي تتجاوز إمكانيَّتها حدود الطبيعة والفكر، وتذهب أبعد ممَّا أرادت لها الطبيعة»، وهي الظاهرة التي عبَّر عنها كانط باللُّغة اللاَّهوتيَّة بـ«الخطيئة الأصليَّة» في كتاب «تخمينات حول بداية التاريخ البشريّْ».

إلى ذلك، فإنَّ تناول الأخلاق كـ”البيولوجيا المتجسِّدة” أو كحقيقة بيولوجيَّة ميتافيزيقيَّة يجعل من الممكن مقارنة ما هو قابل للمقارنة لدى كلٍّ من المؤلِّفَين في كتاب كانط «نقد ملكة الحكم»، وكتاب برغسون «منبعا الأخلاق والدين». وهنا تُعدُّ الدقَّة ضروريَّة: فلا مجال لوضع الفلسفتين على المنوال نفسه لأنَّ ذلك سيكون عبثيَّاً وسيؤدِّي إلى خيانة كلٍّ منهما، بل يتعلَّق الأمر بمدى افتراض كلٍّ منهما على طريقته حقيقة أنَّه ينبغي على البشريَّة أن توجد كأنواع عبر اعتماد طريقة تحدِّد اللَّحظة التي تتباعد فيها إجابات كانط وبرغسون بشكل جذريّْ. ويثير كانط مسألة السبب وراء وجود البشريَّة كأجناس على الشكل التالي: « لماذا يجب على الإنسان أن يكون؟»، بينما يثيره برغسون كما يلي: «كيف للبشريَّة أن تتحرَّر من ضرورة كونها نوعاً؟». إنَّه سؤال مُبالَغ فيه وخارج عن موضوع البحث من وجهة نظر الإدراك أو الذكاء، ولكنَّه من جهة أخرى يحمل عدداً من المعاني في ما يتعلَّق بالجواب الوحيد الذي يفضي إليه الجنس البشريُّ، وهو نفسه في كلا السؤالين: إنَّ وجود البشريَّة بوصفه نوعاً لا يمكن فهمه إلاَّ كسبب لوجود الخلق.

وبين السؤال والجواب، تجدر الإشارة إلى الملاحظة نفسها، وهي أنَّ الجنس البشريَّ لديه سمة وجوب أن يقوم بنفسه بكلِّ ما يمكن أن يكون، ويجب أن يرسم وحده مستقبلاً لنفسه ويعيش المستقبل الذي رسمه فحسب. إنَّ التأكيد على إمكانية أن يكون أصله البيولوجيُّ نتيجة القضاء على «التحالف القديم بين الإنسان وبقيَّة الخلق» هو استنتاج محتمل، لكن يمكن الحكم عليها بشكل نظريٍّ أو فكريٍّ خالص في إطار المدرسة الكانطيَّة والبرغسونيَّة. ويتبنَّى جاك مونود هذا الاستنتاج باسم علم الوراثة على أنَّه تطرُّف مسوِّغ لوجهة نظر نيتشه حول “موت الله”، إذ يحكم على أنَّ الجنس البشريِّ ينتج من حادث في الكون، وأنَّ الكون لا يعطي أيَّ معنى لوجوده، ويخلص إلى أنَّ الإنسان – الذي صار إنساناً عن طريق الصدفة – ليس له ما يسوِّغه في تقويض وجوده الخاصِّ أو حرِّيَّته الخاصَّة؛ وبالتالي، يجب ألاَّ يُعدَّ التديُّن اليهوديُّ المسيحيُّ، والحقوق الطبيعيَّة للإنسان، ومسألة التقدميَّة والتاريخيَّة من الأساطير القديمة التي تتعارض مع تطوُّر العلم.

في هذا المجال، يكمن الخطر بالاستعاضة عن نتيجة الاستجواب واستبدال مشكلة إيديولوجيَّة بمشكلة ميتافيزيقيَّة؛ إذ يعتقد كانط، كما برغسون، أنَّ الأمر لا يتعلَّق بإحياء أيِّ «تحالف قديم» بين الجنس البشريِّ والمخلوقات الأخرى، بل هو لإظهار أنَّ البشريَّة يجب أن تخلق بنفسها مغزى علاقتها بالعالم كشرط لوجودها، وهو الوجود الصيروريّْ. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن ننسى أنَّ نيتشه قد تحقَّق في علم الأخلاق لأنَّ الجنس البشريَّ لا يمكن إلاَّ أن يقدِّم استجابة أخلاقيَّة لمسألة «القيمة» من وجوده الوقائعيِّ (وهي صياغة نيتشه مسألةَ المعنى)، وهو الردُّ الذي يختار الأخلاق ما فوق إنسانيَّة على الأخلاق الإنسانيَّة للغاية.

2) أفق العدالة: يعود بنا هذا الاعتبار إلى برغسون بدلاً من إبعادنا عنه، فلا تتمثَّل الوظيفة الوحيدة للالتزام الأخلاقيِّ في الواقع في إدامة الأنواع الحيَّة في مرحلة البقاء والتسويات التكيُّفيَّة مع الواقع المادِّيّْ. بل يلعب الالتزام – الذي هو مجرَّد طابع اجتماعيٍّ – دور الغريزة، وهو جزء من التوازنات التي تسودها الطبيعة. ومع ذلك، فهو لا يمثِّل  سوى طريقة واحدة من الحياة، في حين أنَّ جنسنا البشريَّ يعيش في الحياة الحقيقيَّة داخل عمليَّات التحوُّل والتوقُّفات والتجدُّد الأخلاقيِّ فحسب.

يرى كانط أنَّ الإنسانيَّة – بعدما فقدت الغريزة – تضطرُّ إلى العمل وفق ما يمثِّل القوانين وليس وفق القوانين نفسها؛ فقد كان هناك فصلٌ بين الوجود وواجب الكينونيَّة منذ نشأة أنواعنا الحيَّة، وتوجب على هذا الفصل اختراع وسائلَ لوجوده، والتي أصبحت في ما بعد وسائل صيرورته. فتمثَّل القيد الأول الذي يفرض الحياة بوصفه شرطاً جماعيَّاً للبقاء بكلٍّ من الوجود الاجتماعيِّ وبقاء المجتمعات من خلال الوحدة القسريَّة بين أعضائها. وإذا اعتمدنا صيغة تناسب كانط وبرغسون معاً، نخلص إلى أنَّ هذا ما «أرادته الطبيعة» لأنواعنا الحيَّة، حيث ترى المدرسة الكانطيَّة أنَّه آن أوان شرْعَنة غريزة الانضباط وفقاً لكتاب «منبعا الأخلاق والدين».

في النسخة الكانطيَّة، إذا وضعنا أنفسنا مكان الطبيعة في محاولة منا لفهم عملها من خلال حكم انعكاسيٍّ، نرى أنَّ الطبيعة لا تريد للمجتمعات الانغلاق على نفسها، لأنَّ ذلك ليس فيه أعلى درجات العدالة المنظَّمة. بل إنَّ الانغلاق الذاتيَّ للدول هو ما ينتج الحروب، ومعها تنقيحات جيوسياسيَّة مستمرَّة. ومن ثمَّ، فإنَّ الإنسانيَّة – التي تُفهم بمعنى التجربة الطبيعيَّة للجنس البشريِّ – لا يمكن إدراكها إلاَّ بوصفها تاريخاً، وهو تاريخ يتراوح بين الانغلاق والانفتاح، وبين الاجتماعيَّة والإنسانيَّة العالميَّة، وبين القيود والعدالة؛ ويُعبَّر عن أفق هذا التحوُّل بوصفه المثل الأعلى السياسيَّ الكونيَّ لدى كانط. ويجيب المثل الأعلى الديموقراطيُّ على السؤال الاجتماعيِّ للعدالة كونه يجمع بين المواطَنة والإخاء لدى برغسون، الذي يعتمد أحد تعبيرات كانط التاريخيَّة الجديرة بالذكر عندما يقول: “الديمقراطيَّة هي ذات جوهر إنجيليٍّ وتمتلك محرِّك الحب. وهكذا نكتشف الأصول العاطفيَّة في روح روسو، والمبادئ الفلسفيَّة في عمل كانط، والخلفيَّة الدينيَّة في كانط وروسو معاً”.

ونتساءل: ماذا يعني أن يكون أخلاقيَّاً من وجهة نظر تاريخ الجنس البشريِّ؛ إذ من الممكن المضيُّ قُدُماً في فكرة أن توقُّع المستقبل يشكِّل جزءاً مهمَّاً من عمل الفيلسوف الأخلاقيِّ؟ فكما قال برغسون: “لا متعة فوق متعة المحبَّة… حياتنا ستصبح أكثر خطورة وأكثر بساطة”؛ وكما قال كانط: “في التجلِّيات الظاهريَّة لما هو صحيح أخلاقيَّاً في الجنس البشريِّ، يمكن تقييم ما انتفع به من ثقافته في الطريق الأفضل”.

لقد تبنَّى كانط بتردُّد دور النبيِّ، وتُراه يُفضِّل التاريخ النبويَّ على التاريخ الكهانيِّ العرافيِّ للبشريَّة الذي يمكنه الكشف عن علامات المستقبل في الوقت الحاضر. ويبدو من ناحية أخرى، أنَّ صورة النبيِّ تناسب هؤلاء المجدِّدين والمحوِّلين في الإنسانيَّة الأخلاقيَّة الذين يعبِّر عنهم برغسون بالأبطال والقدِّيسين.

لم يكن استخدام مصطلح «النبيِّ» اعتباطيَّاً، فقد عرَّف المفكِّر ماكس ويبر كيفيَّة إصلاح الفكرة القائلة بأنَّ خيبة الأمل في العالم تسير جنباً إلى جنب مع اختفاء شخصيَّة النبيِّ الذي يُستبدَل بفكرة السيطرة على العالم العقلانيَّة الهادفة؛ كما أنَّ التنبُّؤ يحلُّ محلَّ الأنبياء. ولكن من المؤكَّد أنَّ هذا الرأي الأحاديَّ حول إحكام القبضة على الآلات يتعارض مع الفصل الأخير من كتاب “منبعا الأخلاق والدين”، والذي ينتهي بالعبارة الشهيرة: تصوُّر العالم بأنَّه “آلة لصنع الآلهة”، وهي صيغة سحريَّة ولكنَّها لا تزال غير مفهومة خارج إطار المُدرَك الصوفيِّ للأخلاق وللالتزام وللحياة بذاتها.

 

III. ما بعد العدالة:

  • الاختلاف الميتافيزيقيُّ بين كانط وبرغسون: في هذا المستوى، لم يعد مفهوماً الالتزام الأخلاقيُّ إلاَّ من خلال فروقهما، وبما أنَّ التصوُّف هو أصل التحوُّلات الأخلاقيَّة العظيمة للبشريَّة، فإنَّ الأسباب التي وضعتها مدرسة برغسون لكسر الأساس المنطقيِّ للالتزام تصبح واضحة تماماً، إذ ينفصل الذكاء عن العقلانيَّة ليصبح المُدرَك الصوفيُّ للخَلق الأخلاقيِّ غير قابل للقياس مع عقلانيَّة العمل: “ممَّا رأيناه في الطابع العقلانيِّ للسلوك الأخلاقيِّ، لن تكون القاعدة بأنَّ أصل الأخلاق هو العقل”. بل يجب أن يتحلَّى بخبرة معيَّنة من الفكر العلميِّ، وهي الحدس، بحيث تكون هذه المعقوليَّة منيرة للعقل بدلاً من أن تتجاوزه، كفعل الحدس الذي لا يمكن اختزاله بقناعة بسيطة أو اعتقاد بسيط. فعلى سبيل المثال، إنَّ افتراض أن يختار برغسون – بقناعة شخصيَّة – تفوُّق الأخلاق الصوفيَّة، هو اقتراح لا يُعقلِن مفهوم أصل الأخلاق، بل يقضي على مجال الوصول إليه. ولمَّا كان برغسون يتحدَّث بصفة الفيلسوف من أجل أن يُفهم على هذا النحو، ينبغي رفع مستوى الفلسفة بتجربة ميتافيزيقيَّة، تتمثَّل بالقدرة على التوجُّه إلى ما هو أبعد من مجال التمثيلات «في صميم كلٍّ من الحساسيَّة والعقل”.
  • الالتزام الأخلاقيُّ: مباحثة برغسون مع كانط: تُعدُّ هذه التجربة الأخلاقيَّة طاقة حيويَّة إبداعيَّة خالصة، تُشكِّل في حدِّ ذاتها دليلاً تجريبيَّاً على أنَّ الإنسان يتخطَّى الإنسان. وهي تجربة لا يمكن للبشريَّة أن تخوضها وفقاً للتَّزمين الذي وضعه كانط للأمل في استمرار التقدُّم نحو الأفضل، بل من خلال استعادة الطاقة الإبداعيَّة الخاصَّة بها فحسب. ومن دون استنفار هذا التجدُّد – الذي يرجع إلى أصل القوَّة المرنة والروحيَّة للحياة بوصفها طاقة – فإنَّ التطوُّر سيكون مجرَّد كلمة فارغة أو طريقة فكريَّة للتخاطب.

ولذلك، من الضروريِّ إلغاء أيِّ مسافة بين الوجود وواجب الكينونة في أصل إعادة خلق الطاقة المعنويَّة؛ وبخلاف ذلك، لن تنشئ الأخلاق الالتزامات بل ستنمِّيها. ويتجلَّى تجاوز واجب الكينونة هذا في صيغة ذكرها كتاب “منبعا الأخلاق والدين” في ما يلي: “فينا: نداء الأبطال: لن نتبعه ولكننا سنشعر بأنَّه علينا فعل ذلك، وسوف نعرف لذلك الطريق التي ستتَّسع إذا ما مررنا بها. وفي الوقت نفسه سيتَّضح غموض الالتزام الأعلى لكلِّ الفلسفة: فقد بدأت الرحلة وكان من الضروريِّ إيقافها؛ وباستئناف مسارهم، هم يريدون فقط ما أرادوه بالفعل”.

تلغي الصوفيَّة الغموض بشكل كامل، حيث تقتل كلَّ مسافة بين الدافع والحركة، حتى مسافة الجذب، وتلغي المسافة بين الرموز والأشياء في وحدة تسبق كلَّ الانقسام، كما تتغلَّب على الواجب، القوَّة التعبويَّة للدافع والتي عرَّفها برغسون بطاقة الحبِّ، أي تجربة الحبِّ التي تكشف عن الخلق على أنَّه مؤسَّسة لله “لخلق المبدعين”». وإنَّ استبدال الخلاَّقين بالمخلوقات هو خير مترجم للطاقة التي  ليست هي سوى روح، وهي القوة التي تعمل فحسب.

من هنا، ينتقل الدافع عبر التعبئة التي يحدثها في الآخرين من خلال الطموح والانجذاب، وينمو الالتزام على أنَّه مشاركة بعاطفة خلاَّقة ليشعر كلُّ واحد مرة أخرى أنَّه من خلق المذاهب والمُثُل التي تسكن فيه. إنَّها ليست الفكرة التي تلهم، بل إنَّه الإلهام من يوحي بالفكرة.

وهكذا يظهر التباين مع كانط بشكل واضح، حيث تجاوز برغسون حدود الفهم الفئويَّة والحسَّاسة، وتجاوز الحدسُ الذكاءَ والعاطفة الخلاَّقةُ العقلَ. واستعاد برغسون الاستخدام الكامل للميتافيزيقا إلى حدٍّ ما، إذ يمكن للمرء أن ينتقل من الكينونيَّة إلى التعرُّف، ومن الامتناع عن التجزُّؤ إلى التجزُّؤ، ومن اللاَّنهائيَّة إلى المحدوديَّة. كما أنَّ الأخلاق تستمدُّ أصلها من الامتناع الأصليِّ عن التجزُّؤ، والذي نجده في الحب الباطنيِّ للبشريَّة الذي يعبِّر عنه برغسون – إراديَّاً أو لاإراديَّاً – باللُّغة الكانطيَّة عبر جعله “الجذر المشترك للحساسيَّة والعقل”. وهذا الجذر المشترك يلغي إشكال شكلانيَّة المدرسة الكانطيَّة، لأنَّه يتمُّ إلغاء المسافة بين الوجود وتجلِّياته حين يغادر المرء الزمن ليضع نفسه في الديموميَّة. وهناك صيغة مذهلة للتعبير عن هذه الوحدة المطلقة للنشاط الخالص كالتالي: “ليس هناك مسافة بين الله ومحبَّة الله، ولا شكَّ في أنَّ برغسون يظهر الحدود النظريَّة الكانطيَّة من خلال اعتماد الممارسة الفلسفيَّة نفسها.

  • علم الجمال والميتافيزيقا لدى كانط: مع ذلك، ورغم الاختلافات الميتافيزيقيَّة الأصوليَّة، لا تعدُّ هذه الفلسفات غير متكافئة في ما بينها، بل من الممكن مقارنة أهدافها الأخلاقيَّة إذا تبنى المرء لغة كانط حول الفنِّ والدين.

إنَّها الحدود النظريَّة الكانطيَّة التي خرقتها ميتافيزيقا برغسون؛ فمن جهة، يرى كانط أنَّ الأخلاق هي التي تمكِّنه من التقدُّم في ما هو أبعد من المعقول، وهذه هي الحال مع الحريَّة التي – وفقاً للنقد الثالث – “يمكن أن تذهب بالعقل إلى ما وراء الحدود حيثما يبقى كلُّ مفهوم (نظريٍّ) حول الطبيعة منغلقاً دونما أمل”. وتُفسِّر الأخلاق الفاعلين الأخلاقيين على أنَّهم بدايات محضة لا سابق لها، تبني مملكة من الإرادة الخالصة التي هي الأصل غير الطبيعيِّ لآثارها في العالم. ومن ثم يمكن تحديد دستور قانونيٍّ كامل بين الناس بوساطة الفكرة نفسها، حتى يستبدل بالعلاقات الحرَّة المحض الروابط الطبيعيَّة للعنف، وفقاً للاستنتاج الذي توصَّل إليه ملحق عقيدة القانون.

ومع ذلك، لا يمكنني أن أعرِّف ما ينتج من الحدود النظريَّة للفلسفة – والذي أستطيع التفكير به وفهمه والرغبة فيه – في صيغة حدَّدتها التجربة الطبيعيَّة؛ ويعود ذلك إلى أنَّ الحساسيَّة لا متقايسة في مدى اتِّساع الفكرة، وبهذا تقف الوسائل المحسوسة للعقلانيَّة مقصِّرة أمام الوضوح المتكامل للعالم.

يفترض الالتزام الأخلاقيُّ لتحقُّقه هذا المُدرَك العالميَّ الذي يتجاوز التعقُّل الممكن من الناحية الفئويَّة: إنَّ الافتراض من السيادة الجيدة الأصليَّة – لإله هو الخالق الأخلاقيِّ للعالم – قيام وحدة الخلق التي تلغي كلَّ المسافة بين السبب والنتيجة، وبين الوجود وسبب وجوده، وبين المحسوس والمعنى. ولا تتمثَّل هذه الوحدة للمحسوس والمعنى إلاَّ في حدود صلاحيَّات التمثيل: كما النموذج الأصلي، بوصفه إدراكاً نموذجيَّاً، وهو نفسه في الممارسة العمليَّة: ومفادها أنَّ الإرادة المقدَّسة، التي تلغى فيها المسافة بين الوجود وواجب الكينونة، وبين الواجب والإرادة، لا يمكن إلاَّ أن تكون نموذجاً أصليَّاً للإرادة البشريَّة، حتى أنَّ الالتزام الأخلاقيَّ سيعيش حالة من التوتُّر والتجاوز المستمر، وهذا ما عرَّفه ألكسيس فيلونينكو بالأخلاق البطوليَّة، أي البطولة التي لا يمكنها إلاَّ أن تميل نحو القداسة.

سبب ذلك هو أنَّه لا يمكن عقلنة الحساسيَّة بالكامل أو تحويلها إلى نشاط محض، إذ يبقى عمقها باثولوجيَّاً أي سلبيَّاً، ويُعبِّر علم اللاَّهوت لدى كانط بقوله إنَّ الخطيئة الأصليَّة تبقى، عند الجميع، بمنزلة الانغلاق الذاتيِّ للأنانيَّة.

هذا لا يعني أنَّه لا مكان للتطلُّع والإلهام، ذلك لأنَّ المسافة بين العفويَّة والسلبيَّة تصنع التطلُّع إلى ما لا نهاية، إلى ما هو غير مشروط. وببساطة فإنَّ الأمر لا يتعلَّق بالأخلاق، بل بالجزء الجماليِّ من الفلسفة التي يتعامل فيها كانط مع التغلُّب المحتمل للحساسيَّة على نفسها. ويظهر في شعور الجمال والجلال تجاوز للقيود المنطقيَّة للعقلانيَّة، وقد فسَّر النقد الأول مفهوم «القوة الأساسيَّة» المطبَّقة على الروح بوصفها فكرة الجذر المشترك للفهم والحساسيَّة، وهو التغلُّب على عدم التجانس في القدرات. وهذه الوحدة، التي لا تعرفها وسائل الذكاء، هي التي ترجعنا إليها العداوات لأنَّها “تجبرنا، ضدَّ إرادتنا، على النظر إلى ما وراء المحسوس والبحث في ما فوق المحسوس عن نقطة التقارب لكلِّ مقدراتنا الأوليَّة”. كما تُشعِرنا تجربة الجلال، من ناحية أخرى، بالتطلُّع إلى وحدة تسعى فيها قوة الحساسيَّة لأن تصبح متطابقة مع العقل؛ وهكذا تتحوَّل الحاجة إلى افتراض مُدرَك أساسيٍّ للواقع المحسوس – لوضع اللاَّنهائيَّة في أساس المحدود – لتصبح واضحة من الناحية الجماليَّة. ويستخدم الخيالُ – الذي يرغب في توسيع قدرته بشكل مفرط إلى حدود تمثيل العموم المطلق للطبيعة بوصفها مقياسه الواقعيَّ والحقيقيَّ – مقياس الحجم هذا ليوجِّه “مفهوم الطبيعة نحو الأساس ما فوق المحسوس (والتي توجد في أساسها تماماً كما هي قدرتنا على التفكير)”؛ فقد أعطى الفن للعبقريَّة مكانة القدرة الخلاَّقة القادرة على خلق طبائع أخرى وغيرها من التجارب المحتملة الظاهريَّة، والتي هي مزيج من الإحساس والمعنى.

مع ذلك، بقدر ما يذهب النشاط الإبداعيُّ والإلهام المُبتَكَر في تجلِّياتهما، فإنَّهما لن يحلاَّ محلَّ الالتزام الأخلاقيِّ، بل يُحضِّرانه فقط عبر نوع من التعليم الجماليِّ للحساسيَّة، وهو تشكيل لا يذهب إلى حدِّ التحوُّل أو التجلِّي، حيث تحافظ الكانطيَّة على تجزئة ما توحِّده البرغسونيَّة، لأنَّ الحساسيَّة في رأي برغسون قد تكون أخلاقيَّة في حدِّ ذاتها، تماماً كما هي الحال في الحب.

من هذا المنطلق، قد يظهر العديد من التطوُّرات والتعليقات المرتبطة بمكانة الحساسيَّة في الأخلاق وفي الدين، فضلاً عن إمكان التعليم الأخلاقيِّ للحساسيَّة. وسننظر ختاماً في إحداها من خلال دراسة رمز التصوُّف في حدود العقل العمليِّ، وسنسأل عمَّا إذا كان يمكن أن تعمل خلاف ذلك بالنسبة إلينا كنموذج أوليّْ.

 

  1. IV) التصوُّف والأخلاق:

1) مصطلح التصوُّف: لكي يتمَّ تقديم مسألة الإلهام الصوفيِّ لدى كانط على برغسون، ينبغي توخِّي الدقَّة في اعتماد المفردات. ففي اللُّغة الدقيقة، يشير مصطلح «التصوُّف» إلى الباثولوجيا التي تتكوَّن من تلقِّي العقائد من أجل جذور الإيمان. إنَّ الخلط بين الواقع التاريخيِّ للعقيدة وحيازة المعرفة المتتالية يجعل ما هو صوفيٌّ متطرِّفاً: فالمُغالي يحكم ويدين زملاءه بدل الله كما لو كان هو الله. ولكن يمكن مقارنة مفهوم برغسون حول التصوُّف، مع ما يلزم من تبديل، مع ما يسمِّيه كانط “الإيمان الحيّ” أو “الإيمان المقدَّس”، وهو جوهر أخلاقيٌّ بالمعنى الذي يرتبط فيه، في حدِّ ذاته، بفكرة من العقل الأخلاقيِّ في المقياس الذي لا يخدم فقط على أنه قاعدة سلوك وإنما أيضاً على أنه “باعث”. وينبغي التأكيد على مصطلح”الباعث” لأنَّه يتجاوز الصفة الرسميَّة للالتزام الأخلاقيِّ باعتباره قاعدة سلوك. ويستند هذا الإيمان إلى “نموذج البشريَّة الأوليِّ المقبول لدى الله (ابن الله)” حول “الإنسان-الإله”، وهو ما يمكن ترجمته كالتالي: لم تكن تاريخيَّة يسوع هي التي غذَّت الإيمان بنقائه وخلقه وحياته، بل هو إلهام عظة الجبل من فعل ذلك.

إنَّ التمييز بين الإيمان الحيِّ والهذيان الشعائريِّ أمر بالغ الأهميَّة من أجل التفريق بين الإيمانِّ الأخلاقيِّ والإيمان العبوديِّ. وهكذا فإنَّ الموافقة التي أعطيت للنموذج الأصيل للإنسان-الإله تفصل الإيمان الحقيقيَّ على الصوفيَّة المزيَّفة والمتصوِّفين المزيَّفين، من أولئك الذين يستخدمون الأخلاق والإيمان ليفرضوا على الحساسيَّة المحتوى المحدَّد للمعتقَد. فالإيمان العبوديُّ هو الذي يقبل تأثير أولئك الذين يدَّعون أنَّهم يتناسبون مع “الجذر المشترك” للحساسيَّة والمعنى. ومع استمرار النموذج القديم، لا يمكن تمثيل الوحدة-الكليَّة البشريَّة إلاَّ كقدوة مثلى للكمال، والتي تبقى على هذا النحو خارج أيِّ مطابقات وأيِّ احتجاز سياسيٍّ أو دينيّْ.

2) الصوفيَّة والأسطورة: يرى برغسون أنَّه طالما بقي المرء في الصوفيَّة الإنجيليَّة، لا يُحدِث تجاوز الميتافيزيقا للأخلاق مشكلة إذا كانت ميتافيزيقا الخلق الذاتيِّ؛ فننتقل من الدين إلى مصدره ويمكننا قراءة المدرسة البرغسونيَّة حول ذلك بصفتها “فلسفة المسيحيَّة”.

ولكن تزداد صعوبة التفسير عندما يتعلَّق الأمر بالإلهام الصوفيِّ لدى البطل “المتصوِّف العبقريّْ” الذي سيقود البشريَّة خلفه لرغبته في جعلها “نوعاً جديداً” محرَّراً “من ضرورة كونها نوعاً”. فهل إنَّ البطل زعيمٌ كاريزماتي؟ يؤكِّد هنري غوهييه أنَّ “المتصوِّف الصادق هو أيضاً المتصوِّف الحقيقيّْ”. وهكذا، لا نجد صعوبة في الاعتراف بهذه الحقيقة حين يتعلَّق الأمر بالقدِّيسين، لأنَّهم يجدِّدون النموذج الأصيل ويعيدون إنعاشه: “الصوفيون العظماء”، يكتب برغسون، “هم المقلِّدون والمتمِّمون الأصليون – ولكن غير الكاملين –  وأتباع مسيح الأناجيل الحقيقيون”؛ غير أنَّ تبديل رمز المتصوِّف في المجال الاجتماعيِّ والسياسيِّ يثير عدداً من الأسئلة.

ونحن نعلم، كما يشير برغسون، أنَّ هناك صوفيَّة مزيَّفة، كالأمبرياليَّة، وهي العملة المزيَّفة للتصوُّف. وإذا كانت الصيغة التي تقضي بأنَّ “غريزة معيَّنة تقودهم (للمتصوِّفين) إلى الإنسان الذي سيوجِّههم بالطريقة التي يريدون السير وفقها” تنطبق على مجال الروحانيَّة الدينيَّة، فلا يخلو الأمر من استحضار خطر التعصُّب الذي يتَّسم به التصوُّف بالمعنى الكانطيِّ ونقله إلى المجال السياسيّْ. ألا ينبغي لنا أن نفصل التصوُّف والسياسة خوفاً من الخلط بينهما؟ “حين يرى المرء ما فعله رجال الدين عموماً بالقدِّيسين، كيف له أن يُفاجأ بحقيقة ما فعله البرلمانيون بالأبطال؟ حين نرى ما فعله الرجعيون بالقداسة، كيف لنا أن نندهش ممَّا فعله الثوَّار بالأبطال؟”. من هذه الملاحظة يستنتج بيغوي العبرة التالية: «إنَّ الشيء الأساسيَّ يكمن في أنَّ السياسة لا تلتهم التصوُّف الذي أحدثها في أيِّ نظام حكم ونظام سياسيّْ”.

ولمَّا كانت الديمقراطيَّة، كما يعتبرها برغسون، تتمتَّع بجوهر إنجيليٍّ، كونها أبعد ما يكون عن الطبيعة بجميع المفاهيم السياسيَّة، يمكن أن نتَّفق مع المعنى الذي تضيف فيه دافع الرابط الأخويِّ إلى الحقِّ في المواطنة. فهل هذا يعني وجوب اعتبار شخصيَّة سان-جيست، على سبيل المثال، شخصيَّة صوفيَّة لأنَّه المحرِّض على التصوُّف الجمهوريِّ بمعنى علم الأسطورة الجمهوريّْ؟ وبهذا نُطلِق على مصطلح “الصوفي” معنى واسعاً يشمل الخرافة والوظيفة الخرافيَّة، كما تقترحه مادلين بارثيليمي-مادول مع الأخذ بعين الاعتبار “الديمومة والاندفاع الحيويُّ والصوفيُّ العظيم الذي سيوفر على البشرية الكثير من الخرافات المشحونة بشعور لا ينضب».

من أجل التعبير بما يخالف مشكلة التفسير التي يحدثها التصوُّف في السياسة، يمكن القول أنَّ الخطَّ الفاصل بين التصوُّف والتضليل، إذا كان واضحاً من وجهة نظر التحليل الفلسفيِّ، قد تمَّ محوُه في كلٍّ من جانبَيْ العمل والعاطفة، تحت تأثير الحاجة الملحَّة والارتباكات العاطفيَّة. ويمكن اعتبار العبقريَّة المستوحاة من الخالق كـ”إعادة خلق” للأساطير التي هي في حدِّ ذاتها إعادة خلق للاندفاع الحيويّْ. وبين التصوُّف والتضليل تواصل مسألة الأسطورة، من خلال تناقضها، إثارة مهمَّة نقد القدرة على إعطاء الحكم كنقد للقدرة على التقييم ومنح الموافقة. وقد أصبحت هذه المهمَّة أكثر ضرورة بسبب التداخل بين “المجتمع المفتوح” و”المجتمع المنغلق” في رمزيَّة تعبويَّة للأفراد الذين يتطابقون دائماً مع الطبيعة البشريَّة، والتي يحدِّدها برغسون بأنَّها “لا تتغيَّر وبأنَّ سياستها – بالبحث والتحقيق – تكشف عن شراسة”.

يثير الفصل الأخير من كتاب “منبعا الأخلاق والدين” كلَّ هذه الأسئلة. ومع إيلاء المزيد من الاهتمام بالصفحات المكرَّسة للديمقراطيَّة على وجه التحديد، يلاحظ المرء الحكمة من مفردات برغسون وخصوصاً حقيقة أنَّه يمنح المثل الأعلى الديمقراطيَّ وظيفة مماثلة تماماً لوظيفة النموذج الأصيل بالمعنى الكانطيِّ، وهو الاتِّجاه الذي “تُحوَّل نحوه البشريَّة”، أي الثورة التي أشارت إلى “ما ينبغي أن يكون”، أو بالأحرى، إلى ما لا ينبغي أن يكون، من دون أن يسهل عليها تحديد “ما يجب القيام به”. وهكذا، كما قال برغسون، ينبغي “نقل” الجوهر الإنجيليِّ للديمقراطيَّة في السياسة، ولكن بالمعنى الذي يشير فيه “النقل” إلى الحفاظ على المسافة بين المطلق والنسبيَّة وبين المثاليِّ والحقيقيّْ. ويراعى هنا خطر الخلط بين التصوُّف والسياسة ويُعبَّر بوضوح عن الإرادة في معالجته. وبالتالي، لا يمكن تعريف البطل بأنَّه زعيم أو تبنِّي سلطة الرئيس له، بل يتحتَّم عليه أن يتجسَّد في نوع أو نموذج أصيل لتحقيق تعبئة قادرة على التصدِّي للضَّغط على الحريَّات (أو) لقمع الحريَّات من قبل السلطة. ويمكن القول أنَّه يخلق دوافع الأخوَّة في السياسة، ممَّا يجعل من الروابط الأخويَّة القوَّة الدافعة التي تعيد بشكل دوريٍّ توليد أشكالٍ جديدة من الحريَّة والمساواة.

_________________

*نقلاً عن فصليَّة “الاستغراب”- العدد 9- السنة الثالثة- خريف 2017.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى