الدراسات والبحوث

براهين علم الكونيَّات : بحث مقارن بين الرؤيتين الغربيَّة والإسلاميَّة

حميد رضا آيت اللّهي

براهين علم الكونيَّات : بحث مقارن بين الرؤيتين الغربيَّة والإسلاميَّة

حميد رضا آيت اللّهي

مقدِّمة:

شهدت الفلسفة الغربيَّة العديد من البراهين لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى وفق المبادئ الفلسفيَّة المتعارفة هناك، وفي التصنيف الأوَّل الذي طرحه الفيلسوف إيمانويل كانط لهذه البراهين هناك مجموعةٌ أُطلق عليها (براهين علم الكونيَّات أو الكوزمولوجيا cosmology).

برهان علم الكون ينطلق في أطروحته النظريَّة من إحدى ميزات الكون كالحركة أو الإمكان، ومن ثمَّ يحدث على أساس ذلك إثبات وجود الله سبحانه وتعالى،  لذا فهو لا يرتكز على موضوع تحليل مفهوم واجب الوجود أو الكمال المطلق،  كما لا يعتمد على النَّظم المحبك في الكون.

لهذا البرهان خلفيةٌ تأريخيَّةٌ سحيقةٌ،  فقد طُرح في الماضي بأشكال وصور عديدة ضمن قوانين أفلاطون وكتابي:  “تيماوس Timaeus “أو (أسطورة الخلق ) و “فايدروس”،  حيث اعتبر الأشياء المتحرِّكة دليلاً على إثبات المحرِّك الأوَّل للكون[1]؛ كما أُشير إليه في الجزء الثاني عشر من كتاب  “ما بعد الطبيعة”  لأرسطو[2]، ومن ثمَّ شاع بين الفلاسفة المسيحيين من أمثال أوغسطين وأنسلم وتوما الأكويني ودونس سكوتس ووليام أوكام.

وفي الحقبة التي أعقبت تلك الفترة،  جاء الفيلسوف رينيه ديكارت بأطروحةٍ جديدةٍ حول هذا البرهان ضمن آرائه التي انفرد بها،  وقد تبنَّى بعض تفاصيلها في ما بعد كلٌّ من جون لوك وجورج بيركلي؛ ولكن في العصر الحديث تغيَّر مساره بعدما صاغه الفيلسوف جوتفريد فيلهيلم لايبنتز بأسلوبٍ آخر ليظهر في عالم الفلسفة بحلّةٍ جديدةٍ،  حيث اعتبره مرتكزاً على مبدأ السبب الكافي،  وهذه الأطروحة في الحقيقة تُعتبر نقطة تحوّلٍ في تاريخ الفلسفة الدينيَّة الغربيَّة.

وبعد جوتفريد لايبنتز،  واجه هذا البرهان نقداً لاذعاً من قبل الفيلسوفين ديفيد هيوم وإيمانويل كانط، حيث شكَّكا في صحَّته وفنَّدا العديد من دلالاته، وبطبيعة الحال فإنّ نقدهما قد ارتكز بشكلٍ أساسيٍّ على وجهتهما الفكريَّة الخاصَّة المنبثقة من تلك المبادئ الفلسفيَّة التي شاعت بعد عصر النهضة والحداثة.

لقد وُضع برهان علم الكون في بوتقة النقد والتحليل ضمن تعاليم الفلسفة الغربيَّة على مرِّ العصور الأمر الذي جعله يتذبذب بين الرفض والقبول والنقض والإثبات. أمّا بالنسبة إلى الفلسفة الإسلاميَّة في هذا المضمار، فقد سيقت براهين عديدة لإثبات وجود البارئ جلَّ شأنه،  لكنَّها جرت في مجرى آخر يختلف عمَّا هو عليه الحال في العالم الغربيِّ والفكر المسيحي،  ومن هذا المنطلق لا يمكن تصنيفها وفق التصنيف المطروح في العالم الغربيِّ حول البراهين الفلسفيَّة؛ وبما أنَّ بعض البراهين الإسلاميَّة منبثقةٌ من نتائج واقعيَّة، فهناك من قال إنَّها على نسق براهين علم الكونيَّات، ويمكن القول أنّ هذا الرأي صائبٌ ولكنَّ الأسلوب المتَّبع فيه لإثبات وجود الله تعالى في الفلسفة الإسلاميَّة يختلف اختلافاً تامَّاً عمّا هو متعارفٌ في الفلسفة الغربيَّة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ مقولَتيِ الإمكان والوجوب قد اعتُمدتا في بعض البراهين التي طُرحت على صعيد علم الكونيَّات في العالم الغربي، ولكنَّ برهان الإمكان والوجوب المطروح في نطاق الفلسفة الإسلاميَّة ولا سيَّما في نظريَّة الحكيم ابن سينا،  يختلف اختلافاً تامَّاً عمَّا سيق في رحاب الفلسفة الغربيَّة.

قام الباحث في هذه المقالة بتسليط الضوء على دلالات براهين علم الكونيَّات التي طرحها الفلاسفة الغربيون، وتحليل المقوِّمات الأساسيَّة لبرهان الإمكان والوجوب المطروح في الفلسفة الإسلاميَّة بهدف بيان أوجه الاختلاف في ما طرحته المدرستان الفلسفيَّتان الإسلاميَّة والغربيَّة في هذا المضمار،  ومنطلق البحث يرتكز بشكلٍ أساسيٍّ على الدقَّة الفائقة في طرح برهان الإمكان والوجوب والتي حصَّنته قبال ذلك النقد المنظَّم الذي عادةً ما يطرح لتفنيد براهين علم الكونيَّات،  في حين أنَّ أطروحة لايبنتز تفتقر إلى هذه الميزة الهامَّة.

 

  تحليل برهان علم الكون على ضوء مسيرته التاريخيَّة :

نتطرَّق في هذا المبحث إلى دراسة وتحليل برهان علم الكون وبيان مختلف التغييرات التي طرأت عليه طوال مسيرته التاريخيَّة، وبطبيعة الحال إذا أردنا معرفة نقطة انطلاقه فلا مناص لنا من الرجوع إلى العهد الإغريقيِّ القديم حينما جعل الفيلسوف الكبير أفلاطون الحركة أساساً لطرحه كدليلٍ على إثبات وجود الله عزَّ وجلَّ، حيث اعتبر الحركات الموجودة في الكون بحاجةٍ إلى محرَّكٍ ،واستنتج من ذلك أنَّ هذا المحرِّك يجب أن يكون غير متحرّكٍ لكي يكون المنشأ الأساسيَّ لكلِّ حركةٍ أخرى. كما أكَّد في برهانه على وجود الصانع الذي له القدرة على تنظيم شؤون الكون على أساس المصلحة العليا والخير الأتمّ في إطار منظومةٍ متناسقةٍ.[3]

ثمّ جاء الفيلسوف أرسطو ليطرح هذا البرهان نفسه في إطارٍ آخر ضمن نظريَّة فلسفيَّة متقوِّمة في مبادئها على القوَّة والفعل، ولكنّ النتيجة كانت واحدةً  ألا وهي إثبات أنّ المتحرّك يكتسب حركته من المحرّك الأوّل الذي يجب وأن يكون ذي ماهيةٍ ثابتةٍ (غير متحرّكةٍ)[4].

وفي القرون الوسطى تعرَّف الفلاسفة الغربيون على أصول الفلسفة الإسلاميَّة بعدما ترجمت نَظريَّات ومدوَّنات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين إلى مختلف اللُّغات الأجنبيَّة،  لذا تأثّرت عمليَّة برهنة إثبات وجود الخالق الأوحد بشكلٍ كبيرٍ بعلمَي الكلام والفلسفة الإسلاميين،  حيث كان لأفكار الغزالي دورٌ مشهودٌ في الاستدلالات العقائديَّة الغربيَّة،  في حين أنّ الفكر الفلسفيَّ الغربيَّ استند بشكلٍ أساسيٍّ على آراء كلٍّ من أرسطو وابن سينا؛ وتفاصيل هذا الموضوع متشعّبةٌ لا يسعنا المجال لتسليط الضوء عليها هنا كما أنّ الإعراض عنها لا يمسّ بفحوى البحث المطروح في هذه المقالة.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الفكر الفلسفيَّ للحكيم ابن سينا الذي شاع على نطاقٍ واسعٍ بين الفلاسفة الغربيين في القرون الوسطى،  قد أثّر بشكلٍ ملحوظٍ أيضًا على النظريَّات التي طرحها علماء الكلام المسلمون بحيث اعتمدوا عليها في بيان براهينهم،  ومن جملتها براهين إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.

لا يختلف اثنان في أنَّ أشهر مفكِّري القرون الوسطى قد تعرَّفوا على برهان الإمكان والوجوب وبرهان العلّيَّة بعد اطِّلاعهم على نظريَّات هذا الحكيم الفذّ،  ولكن كما سوف نثبت لاحقاً فإنّ فلاسفة القرون الوسطى الغربيين لم يطرحوا نظريَّاتهم وفق المبادئ نفسها لبرهان الإمكان والوجوب السينائيِّ، بل اقتبسوه في إطار تقريرٍ كلاميٍّ ثمّ بسطوه في نمطٍ آخر؛ ولكنّ الفيلسوفين توما الأكويني ونورمان جيلسون نسباه إلى يحيى الدمشقي،  في حين أنّ إميل برهيه في كتابه  “الفلسفة اليونانيَّة” نسبه إلى الفيلسوف ابن رشد وفي كتابه الآخر  “الطبيعيَّات” أعتبره من أطروحات أرسطو. [5]

لقد طرح علماء القرون الوسطى عدداً من البراهين في نطاق علم الكونيَّات بحيث كانت تختلف بشكلٍ أساسيٍّ في المقدّمة المنطقيَّة الصغرى فحسب،  ويمكن تلخيص هذه البراهين كما يلي:

أوَّلاً: برهان أوغسطين:

– هناك حقائق كونيَّةٌ ثابتةٌ وخارجةٌ عن نطاق الزمان[6].

ثانياً: برهان أنسلم:

1  – هناك أُمورٌ حسنةٌ في الكون (الخير موجودٌ).

2  – بعض الكائنات أكثر كمالاً من غيرها.

3-  لا بدّ من وجود شيءٍ في الكون.[7]

ثالثاً: برهان توما الأكويني:

1 – الأشياء في الكون متحرّكةٌ.

2-  هناك عللٌ فاعلةٌ في الكون تسفر عن وجود المعلولات.

3 – هناك كائناتٌ يمكنها أن تظهر إلى الوجود في إطار عالم الخلقة، أو أنّها تسير نحو العدم؛ أي أنَّها ممكنة الوجود.

4 – درجات الكمال بين الكائنات ليست على نسقٍ واحدٍ،  بل هي متباينةٌ.

5 – الكون فيه كائناتٌ منتظمةٌ.[8]

رابعاً: برهان دونس سكوتس:

– بعض الكائنات حادثةٌ،  لذا تظهر في عالم الخلقة في هذا السياق[9].

 

 الخلفيَّة التاريخيَّة لبرهان علم الكون على ضوء نظريَّة الفيلسوف توما الأكويني:

عُرف برهان علم الكون في العالم الغربيِّ إبَّان القرون الوسطى بفضل نظريَّات الفيلسوف توما الأكويني وطرقه الخمس الشهيرة،  لذلك أمسى في ما بعد محورًا أساسيًّا للكثير من براهين علم الكونيَّات؛ وفي ما يلي نذكر بعض الملاحظات حول البراهين التي طرحها هذا الفيلسوف وسائر العلماء الغربيين إبَّان على أساس نظريَّات العلماء المسلمين في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى وفق متبنّيات الديانات التوحيديَّة،  يراد منها بشكلٍ أساسيٍّ إثبات مسألة الخالقيَّة له؛ وهذا الأمر على خلاف براهين كلٍّ من أرسطو وأفلاطون.

بما أنَّ جميع فرضيَّات براهين علم الكونيَّات ترتكز في استنتاجاتها بشكلٍ أساسيٍّ على مبادئ العلَّة،  وبالتحديد على مبادئ العلِّيَّة الفاعلة،  لذا فإنّ قيام توما الأكويني بطرح أحد البراهين المستلهمة من هذا السنخ العلِّيِّ لا يجعل هذا الطرح متمايزًا عن غيره؛ والحقيقة أنَّ الطرق الخمس التي وضعها  ليست سوى خمسة أساليب مختلفة تنصبُّ في نتيجةٍ واحدةٍ ألا وهي إثبات وجود الله تعالى، وهي عرضةٌ للتشكيك والنقض، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ يقدح بالاستدلالات التي اعتمد عليها في هذا الصدد.

قام توما الأكويني في الأسلوب الثالث من هذه الأساليب الخمسة ببيان الإمكان الذي تتَّصف به الكائنات عن طريق دراسة وتحليل حدوثها؛ ولكن رغم كون الحدوث هو أحد الأسباب التي تجعل الكائنات تتَّصف بالإمكان،  إلا أنَّ المناط الأساسيَّ في ذلك هو افتقارها إلى العلَّة،  أي أنَّ الحدوث ليس هو المعيار للإمكان،  وهذا ما أكَّده الحكيم ابن سينا وأوضحه بأكمل وجهٍ حيث اعتبر أنَّ حاجة الممكنات إلى واجب الوجود هي أساس كونها ممكنة الوجود لا أنَّ حدوثها هو السبب في ذلك. ومن هذا المنطلق فكلُّ كائنٍ يكون بحاجةٍ دائمةٍ إلى واجب الوجود، ولا انقطاع لها بتاتًا ولو للحظةٍ واحدةٍ؛ وبهذا الاستدلال أثبت مبدأ العلّيَّة الإلهيَّة المبقية.

إنَّ استدلال توما الأكويني الذي اعتبر فيه ممكن الوجود مفتقرًا إلى واجب الوجود هو في الحقيقة ناشئٌ من باب افتقار المعلول إلى علَّته،  فهو يقول بما أنَّ الكائنات الحادثة بحاجةٍ إلى علّةٍ في حدوثها،  فكذا هو الحال بالنسبة إلى الكائنات الممكنة،  فهي مفتقرةٌ إلى علّةٍ؛ ونظرًا إلى كون السلسلة العلِّيَّة لا يمكن أن تسير إلى ما لا نهايةٍ،  يثبت لنا واجب الوجود الذي هو العلَّة النهائيَّة.

من البديهيِّ أنَّ هذا النمط في بيان العلّيَّة منشؤه الأساسيُّ هو الاعتماد على التجربة،  وهو بكلِّ تأكيدٍ يختلف بشكلٍ جذريٍّ عن العلِّيَّة الحقيقيَّة التي أوضح الحكيم ابن سينا معالمها في إطار تحليله العقليِّ؛ فالعلِّيَّة التي تحدَّث عنها الفيلسوف توما الأكويني لا تتعدَّى كونها علّيَّةً معدَّةً ،وبالتالي فإنَّ حاجة المعلول إليها على نحو الضرورة تُثبت عن طريق القول بمبدأ عدم انقطاع هذه الحاجة لدى الكائنات في ظلّ العالم التجريبيِّ،  وهذا الأمر يتعارض تعارُضاً تامًّا مع الضرورة العقليَّة.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ افتقار المولود إلى والدٍ هو مثالٌ على هذا السنخ من العلِّيَّة  (العلّية المعدّة )،  وهذه هي أهمّ نقطة ضعفٍ في براهين علم الكونيَّات،  وقد أصاب الفيلسوفان ديفيد هيوم وإيمانويل كانط في نقدهما من هذا الباب.

رغم أنَّ توما الأكويني اعتمد في استدلاله على مبدأي الإمكان والوجوب لبرهنة مبتغاه،  إلَّا أنَّ برهانه في الحقيقة مطروحٌ ضمن نطاق نظريَّات علم الكلام؛ ويشار هنا إلى أنَّ الفيلسوف وليام أوكام[10]  قد اكتشف هذا الخلل قبل الفيلسوف ديفيد هيوم بقرونٍ عدَّة وعلى أساس ذلك انتقد الاستدلال المذكور[11].

يرى وليام أوكام أنَّ برهان علم الكون يرتكز في الأساس على ضرورة الارتباط بين العلَّة والمعلول،  في حين أنَّ التجربة لا دلالة فيها على هذه الضرورة الارتباطي[12].

بما أنّ العلماء الذين يطرحون برهان الإمكان والوجوب يستدلُّون على كون واجب الوجود هو غاية الوجود ومنتهاها، وأنَّه يتَّصف بالوجود على نحو الضرورة،  ويؤكِّدون في الحين ذاته ضرورة العلاقة العلِّيَّة بين العلَّة والمعلول؛ لذا فبيان الضرورة في عالم الواقع على أساس المبادئ الفلسفيَّة يعتبر هامًّا للغاية.

الفيلسوف توما الأكويني أكَّد استحالة التسلسل في مختلف البراهين التي طرحها،  وقد اعتمد على هذه القاعدة أيضًا في برهان علم الكون؛ ولكن رغم تأثُّره بالحكيم ابن سينا على هذا الصعيد،  إلَّا أنَّه لم يذكر استدلالات قويَّة لإثبات هذه الاستحالة.

إذن،  نظرًا لكون تسلسل العلل المعدَّة ليس مستحيلًا عقلًا[13]،  لذا فإنّ البرهان الذي طرحه توما الأكويني ليس له القدرة على الصمود أمام الأطروحة القائلة بإمكانيَّة التسلسل؛ إذ يقول المفكِّر رونالد هيب بيرن في هذا الصدد: “حتَّى وإن اعتبرنا الممكن أنَّ ذلك الكائن الذي يظهر إلى الوجود في لحظةٍ من الزمن،  فذلك لا يعني نفي اعتبار أنّ الكون متشكّلٌ من كائناتٍ زمانيَّة الحدوث ومكرّرةٍ بحيث تكون غير متناهيةٍ”[14].

يبدو أنَّ توما الأكويني قد استند في استدلاله على هذا الصعيد إلى آراء الفارابي التي أكّد فيها بطلان التسلسل،  كما يمكن اعتبار استدلاله هذا شبيهاً بقراءة ابن ميمون لبرهان الحكيم ابن سينا .[15]

وهو في براهينه التي طرحها حول إمكان الكائنات ومعلوليَّتها،  ساق دليلًا لأجل إثبات وجود الله سبحانه وتعالى فقط،  أي أنَّ برهنته ليست بشأن الكون بأسره كما هي الحال في البراهين التي طرحت لاحقًا.

 

  برهان علم الكون في العصر الحديث على ضوء نظريَّة الفيلسوف جوتفريد فيلهيلم لايبنتز:

المفكِّر الغربيُّ جون لوك والكثير من علماء الكلام الروم الذين يعتنقون المذهب الكاثوليكيِّ،  دافعوا عن برهان علم الكون بصورته المطروحة في العصر الحديث؛ بينما انتقده مفكِّرون غربيُّون بارزون من أمثال ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل وبرتراند راسل[16].

من جهته، الفيلسوف رينيه ديكارت طرح برهان علم الكون في إطار صياغةٍ جديدةٍ تتناسب مع متبنياته الفلسفيَّة، والمقدِّمة المنطقيَّة الصغرى التي اعتمد عليها في ذلك هي: ” لديَّ إدراكٌ ذهنيٌّ حول الكمال المطلق اللَّامتناهي”. كما افترض صحَّة مبدأ العلِّيَّة ورتَّب عليه أنَّ هذا الإدراك الذهنيَّ هو عين الاعتقاد بوجود الله عزَّ وجلَّ بحيث اعتبره متَّصفًا  بالكمال إلى هذه الدرجة من الإدراك على أقلِّ تقديرٍ؛ وعلى هذا الأساس استدلَّ على وجوده جلًّ شأنُه.

هذا الفيلسوف الغربي تمكّن بنظرياته الفلسفية من تغيير الوجهة الفلسفية في العالم الغربي من مسيرتها التي كانت متعارفةً آنذاك وصياغتها في إطار نزعةٍ ذاتانيَّةٍ،  فضلًا عن أنَّه حاول إثبات وجود الله سبحانه وتعالى عن طريق دراسة وتحليل المفاهيم الذهنيَّة في إطارٍ عقليٍّ؛[17] . وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ برهانه في غنىً عن بيان الضرورة ولا حاجة له في إثبات استحالة التسلسل.

أمَّا الفيلسوف جوتفريد فيلهيلم لايبنتز فقد استند في استدلالاته على صعيد علم الكونيَّات إلى مبدأ السبب الكافي،  لذلك ساق برهان علم الكون في مسارٍ جديدٍ أمسى في ما بعد مرتكزًا للمدافعين الجدد عن نظريَّات توما الأكويني بحيث اعتمدوا عليه في مختلف استدلالاتهم[18].

ويمكن تلخيص البرهان الذي طرحه لايبنتز كما يلي[19]:

1- الكون الذي نلمسه بحواسِّنا يواجه تغييرات متواصلة.

2 – كلّ أمرٍ يكون عرضةً للتغيير فهو بذاته لا يمتلك الأسباب اللازمة لإيجاد نفسه (لو كان بذاته يمتلك الأسباب التي تؤهّله لإيجاد نفسه،  لاستلزم ذلك بقاء هذا التغيير معه إلى الأبد).

3 – لا بدَّ من توفُّر أسبابٍ كافيةٍ لوجود كلِّ شيءٍ في الكون،  وهذه الأسباب إمَّا أن تكون موجودةً في ذاته أو في ما وراءَه.

4 – إذن،  لا بدَّ من وجود علّةٍ في ما وراء هذا الكون يجري على أساسها تبرير وجوده.

5 – هذه الأسباب إمَّا أن تكون كافيةً لوجوده،  أو هناك جهةٌ أخرى في ما وراءها.

6 – من المستحيل أن تتسلسل الأسباب الكافية إلى ما لا نهاية،  إذ إنَّ العجز عن ذكر توضيحٍ ليس من شأنه أن يكون توضيحًا،  ومن ثمّ لا بدَّ من وجود توضيحٍ محدَّد.

7 – لا بدَّ من وجود علّةٍ أولى للكون بحيث تكون مستغنيةً عن كلّ شيءٍ ولا تفتقر إلى أيّ علّةٍ أخرى،  أي أنَّها علّةٌ كافيةٌ في حدّ ذاتها (علّةٌ كافيةٌ بذاتها لا في ما وراءَها ).

وقد قرَّر هذا الفيلسوف برهانه في صيغته النهائية كما يلي:  نظرًا لعدم وجود أمرٍ يشتمل على جميع هذه الصفات باستثناء الممكنات الخاصَّة السابقة أو تلك المجزَّأة من أساسها إلى مصاديق عديدة،  لذا فإنّ بيان ماهيَّة كلّ جزءٍ منها يقتضي الاعتماد على هذا التحليل نفسِه؛ ولكن ليس هناك أيّ طرحٍ جديدٍ في هذا المضمار الأمر الذي يعني ضرورة وجود استدلالٍ عقليٍّ مناسبٍ أو نهائيٍّ للحذر من حدوث التسلسل في هذه الأجزاء وإثبات أنَّها مهما كانت غير متناهيةٍ فهي لا بدَّ من أن تنتهي إلى علّةٍ واجبةٍ أعلى وأرقى منها قاطبةً،  وهذه العلّة هي المصدر الأساس للوجود وهي التي نسمّيها (الله).   

بما أنَّ هذه العلَّة التامَّة هي المرتكز العقليُّ الكافي في تحقُّق جميع الممكنات ومختلف أجزائها المرتبطة بعضها ببعض في كلّ مكانٍ،  فهي تعني وجود إلهٍ واحدٍ،  وهو الإله الذي يكفي لإيجاد جميع الكائنات من  دون استثناء”. [20]

لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ التقرير الذي ساقه الفيلسوف جوتفريد فيلهيلم لايبنتز حول برهان علم الكون يختلف عن البراهين التي طرحت قبله في هذا الصدد،  فهو قد تأثَّر بالتيارات الفلسفيَّة المعاصرة له وإثر ذلك كان حذرًا من نقد الآخرين ومؤاخذاتهم العلميَّة على استدلالاته.

و في ما يلي نذكر أوجه الاستدلال في برهان لايبنتز حول علم الكون بتفصيلٍ أكثر:

أوّلًاً:الاعتماد على السبب بدلًا عن العلَّة:

بيان مبدأ العلّيَّة ولا سيَّما بين التجريبيين من أمثال جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم لا يمكن الاعتماد عليه كسبيلٍ لإثبات الضرورة العلّيَّة على أساس التجربة،  فالفيلسوف جورج بيركلي له مقولةٌ شهيرةٌ في هذا الصدد،  وهي”علم الإنسان هو عين كونه مدركاً”،  ومن منطلق هذا الطرح اعتبر أنَّ بيان ماهيَّة وجود الكائنات يتيسَّر لنا عبر الاعتماد على الصور الإدراكيَّة التي يمتلكها الإنسان،  إذ ليس هناك أيّ ارتباطٍ وجوديٍّ في ما بينها.

يعتقد هذا الفيلسوف بأنّ العلاقة العلّيَّة بين الأجسام في عالم الواقع الخارجيِّ قد تحوَّلت إلى علاقةٍ دلاليَّةٍ،  والسبب في ذلك هو أنَّها قد انقلبت إلى علاقةٍ بين صورها الإدراكيَّة،  لذا فهي تحكي عن صرف ترتيب المدركات حسب عروضها على الذِّهن بواسطة الله سبحانه وتعالى بحيث تجعله يصطبغ بصبغةٍ إلهيَّةٍ،  في غالب الحال،  ولا لزوميَّة، حتّى إن كانت هناك حادثةٌ واحدةٌ فهي يمكن أن تعتبر علامةً ودلالةً ذهنيَّةً على حادثةٍ أخرى،  وبناءً على هذا تتغيَّر العلّيَّة الوجوديَّة الخارجيَّة التي هي (علاقةٌ في مقام الثبوت) إلى دلالةٍ ذهنيةٍ  (علاقة في مقام الإثبات) .

كما أنّ الفيلسوف ديفيد هيوم الذي أوضح مفهوم التجربة بأسلوبٍ دقيقٍ ،وسعى لاستنباط جميع المفاهيم الفلسفيَّة المرتبطة به،  قد أثبت استحالة بيان الضرورة العلّيَّة الخارجيَّة بالاعتماد على التجربة،  لذا اعتبر أنَّ السبيل الوحيد لهذا الأمر هو تداعي المعاني الذي يعكس نمطًا من العلاقة بين التصوُّرات الذهنيَّة والخارجيَّة.

نظريَّة هيوم هذه تتطابق في الحقيقة مع ما طرحه لايبنتز،  فكلاهما أكَّد عدم إمكانيَّة إثبات الضرورة العلّيَّة خارج وعاء الذِّهن بالاعتماد على التجربة الخارجيَّة،  لذا لا يتسنَّى حينئذٍ اللُّجوء إلى برهان علم الكون لإثبات العلّيَّة الوجوديَّة مـمَّا يعني ضرورة صياغة هذا البرهان في إطار مبدأ السبب الكافي والذي هو في واقع الحال أمرٌ ذهنيٌّ؛ لذا حاولا على هذا الأساس أن يصوغا برهانًا مصونًا من النقد والقدح.

هذا التغيير الذي حصل في الرؤية الغربيَّة الحديثة حول برهان علم الكون،  يتناسب مع الفكر الذاتانيِّ الذي كان سائدًا بين المفكِّرين الغربيين آنذاك،  لذا فإنَّ طرح هذا البرهان اقتضى وضع دعامةٍ راسخةٍ تصونه من أيّ شبهةٍ قد تزعزعه وتنفي دلالته.

ثانياً: نفي التسلسل الذهنيِّ بدلًا عن نفي التسلسل في العلاقة الوجوديَّة:

برهان علم الكون الذي طرحه جوتفريد لايبنتز لا تَرِد عليه شبهة التسلسل،  حيث اعتبر التسلسل اللَّامتناهي مساوقًا لعدم الاستدلال الذهنيِّ؛ لذا ذهب إلى القول بأنَّه باطلٌ؛ إلَّا أنّ نقضه لم يكن مستحكمًا ورصينًا كما ينبغي لدرجة أنَّ بعض الفلاسفة أعرضوا عنه. إضافةً إلى ذلك ،فقد أثبت في هذا البرهان أنَّ الله تعالى هو نهاية سلسلة العلل،  ولكن هل تمكَّن حقًّا من ذلك أو أنَّه استطاع فقط إثبات أنَّ الكون هو نقطة النهاية لسلسلة العلل؟ الإجابة عن هذا السؤال طويلةٌ ومتشعِّبة التفاصيل ويمكن الاطِّلاع عليها عبر مراجعة المناظرة الشهيرة التي جرت بين فردريك كوبلستون وبرتراند راسل،  حيث أُثيرت الكثير من الشبهات والتساؤلات حول نظريَّته[21].

ثالثًا: إثبات وجود الله تعالى في برهان لايبنتز

منطَلقٌ لإثبات ماهيَّة الكون بأسره لا الماهيَّة الإمكانيَّة فحسب:

لقد أراد جوتفريد لايبنتز، من خلال طرحه لبرهان علم الكون، إثبات أنَّ الله تعالى علَّةٌ لوجود الكون بأسره،  ولكنَّ المؤاخذة التي ترد عليه هي عدم إثباته أنّ كلّ كائنٍ ممكن الوجود مفتقرٌ إليه جلَّ شأنه.

نستشفُّ من هذا البرهان أنَّ الله تعالى يؤثِّر  في نظام الطبيعة ككلٍّ،  لذا إن أردنا إثبات تأثيره على التغييرات التي يواجهها الكون فلا بدَّ لنا من البحث في عوامل أخرى من قبيل القوانين الحاكمة عليه،  وهذه القوانين بطبيعة الحال قد وضعها الله تعالى للطبيعة منذ بادئ خلقتها؛ إذ لا يتسنَّى لنا إدراك تأثيره المباشر في الكون في كلّ آنٍ.

رابعًاً: عدم الحاجة إلى إثبات ضرورة وجود الله تعالى:

إنَّ أهمّ نقدٍ طرحه الفيلسوف إيمانويل كانط على برهان علم الكون الذي ساقه جوتفريد لايبنتز،  فحواه أنّ الأخير استند في برهنته إلى برهانٍ وجوديٍّ غير معتَبرٍ يراد منه إثبات ضرورة وجود الله تعالى أو وجوب وجود الذاتيِّ؛ فحسب اعتقاد كانط ليس هناك أمرٌ يتَّصف بضرورة الوجود بذاته،  حيث اعتبر الضرورة قيدًا منطقيًّا وليس وجوديًّا،  ومن هذا المنطلق فلا نجاعة من كلّ تلك المساعي الحثيثة التي يروم العلماء من ورائها إثبات واجب الوجود،  أي أنَّ القضية سالبةٌ بانتفاء الموضوع كما يزعم هذا الفيلسوف.

ولكن، كما نلاحظ في طرح لايبنتز للبرهان المذكور،  فإنَّ إثبات وجود الله سبحانه وتعالى لا يعني إثبات واجب الوجود،  أي أنَّه لا يعتمد على مبدأ الوجوب الذاتي في أطروحته الأمر الذي يعني عقم نقد إيمانويل كانط على البرهان وعدم موضوعيَّته.

 

  النقاط المحوريَّة في نقد برهان علم الكون:

أورد الفيلسوفان ديفيد هيوم وإيمانويل كانط نقدًا أساسيًّا على برهان علم الكون،  ولا سيَّما الأوَّل منهما،  حيث استهدفت آراؤه النقديَّة البرهان في بُنيته الأساسيَّة ضمن سبع مؤاخذاتٍ نذكرها في ما يلي[22]:

1 – يمكننا استنتاج علّةٍ متناهيةٍ عبر الاستدلال بالمعلولات المتناهية – بمعنى سنخيَّة العلّة مع المعلول – وبما أنَّ المعلول (الكون  متناهٍ)،  لذا لا يفيدنا البرهان سوى إثبات وجود إلهٍ متناهٍ (علَّة متناهية)،  لهذا السنخ من المعلولات.

2 – حسب القواعد المنطقيَّة،  لا توجد قضيَّةٌ وجوديَّةٌ ضروريَّةٌ،  وعبارة (واجب الوجود) لا تدلُّ على معنىً معقولٍ ينسجم مع الأُسُس المنطقيَّة الثابتة،  وبطبيعة الحال فإنَّ تصوُّر عدم وجود كلّ شيءٍ وبما في ذلك الله يعدُّ ممكنًا،  لذا فإنَّ هذا التصوُّر بحدّ ذاته يعني انعدام ضرورة وجود كلِّ ما ينضوي تحته.

3 – لو كان المقصود من واجب الوجود هو ذلك الأمر الذي لا يطرأ عليه الفناء،  ففي هذه الحالة يمكن اعتبار الكون بحدِّ ذاته واجب الوجود.

4 – التسلسل اللَّامتناهي ليس من المستحيلات،  وهذه السلسلة الأزليَّة لا يمكن أن تكون ناشئةً من علّةٍ لأنَّ قانون العلّيَّة يقتضي تقدُّم العلَّة على معلولها من حيث الزمان؛ في حين أنَّ وجود هذه السلسلة الأزليَّة يقتضي عدم تقدُّم أيِّ شيءٍ عليها. إذن،  التسلسل اللَّامتناهي ممكنٌ ولا صحَّة للقول باستحالته.

5 – لا مجال لإثبات صحَّة قانون العلّيَّة،  فالتجربة لا تنمُّ عن وجود أيِّ ارتباطٍ ضروريٍّ بين العلَّة والمعلول.

6 – العالم ككلٍّ لا يفتقر إلى علّةٍ موجِدةٍ،  بل الأجزاء هي التي تفتقر لعلَّة كهذه.

7 – براهين علم اللَّاهوت لا تقنع إلَّا أولئك الذين يتبنَّون عقيدة وجود الأمر المطلق.

لا ريب في أنَّ النزعة الشكوكيَّة التي انتهجها الفيلسوف ديفيد هيوم قد استمرَّت في ما بعد تحت ظلِّ لاأدريَّة خلفه إيمانويل كانط،  فالأخير إضافةً إلى تبنِّيه المؤاخذاتِ نفسها التي طرحها سلفُه هيوم على برهان علم الكون [23] ، فقد اعتبر هذا البرهان باطلًا من أساسه لكونه منبثقًا من برهانٍ وجوديٍّ باطلٍ؛ حيث ادَّعى أنَّ أصحاب هذا البرهان قصدوا تحصيل نتيجةٍ منطقيَّةٍ ضروريَّةٍ بعيدًا عن التجربة التي هي في الحقيقة منشؤه الأساسيُّ،  أي أنَّهم حاولوا إثبات مفهوم واجب الوجود خارج نطاق التجربة؛ وهذا القفز على الاستدلال يعني تجاوز إحدى مراحله الأساسيَّة وإثبات ما لا يمكن إثباته بالدليل ،مـمَّا يعني بطلان برهان علم الكون من أساسه لأنَّه لا يفي بالغرض ، وكذلك لا مجال لإثبات المدَّعى على أساسه،  ويمكن القول أنَّ هذا التجاوز ضروريٌّ في عمليَّة الاستدلال لكنَّه غير معتبرٍ.

إلى ذلك، أكّد كانط أنَّ المفاهيم الوجوديَّة لا تتَّصف بالضرورة التي هي ميزةٌ للفكر فحسب،  أي أنَّها ليست من مختصَّات الوجود ولا الأشياء،  بل من مختصَّات القضايا فحسب؛ وبطبيعة الحال فالعلَّة الجزئيَّة (المرتبطة بالوجود الخارجي)  لا يمكن أن تنشأ من معلولٍ ظاهرانيٍّ (مرتبطٍ بعالم الذِّهن) لأنَّ العلَّة عبارةٌ عن مقولةٍ ذهنيَّةٍ فرضت نفسها على عالم الواقع (الخارج)، أي أنَّها ليست مكوِّنةً له.

إنَّ المحاور الأساسية التي ارتكز عليها نقد ديفيد هيوم وإيمانويل كانط لبرهان جوتفريد لايبنتز تتلخَّص في ثلاثة اعتراضاتٍ يمكن تقريرها كما يلي:

1 – كيفيَّة بيان ماهيَّة الضرورة الوجوديَّة.

2 – كيفية بيان العلّة في العالم الخارجي.

3 – عدم استحالة التسلسل اللَّامتناهي.

سوف نتطرَّق إلى شرح وتحليل هذه المحاور الثلاثة ضمن المباحث التي سنسوقها حول برهان الإمكان والوجوب.

 

برهان علم الكون في عصرنا الراهن:

بعد جوتفريد لايبنتز بقي برهان علم الكون مطروحًا على طاولة البحث والتحليل في السياق نفسه حتَّى عصرنا الراهن ضمن مؤلَّفات بعض المفكِّرين من أمثال كرستيان وولف وريتشارد تايلر ونونو ماسياني وفريدريك كوبلستون،  ولكنَّ ما يحظى بالاهتمام على هذا الصعيد هو طرحه في نمطٍ آخر من قبل المفكِّر وليام لين كرايغ،  حيث طبعت آراؤه ونقاشاته على هذا الصعيد ضمن كتابٍ مستقلٍّ،  واعتبر برهانه أنَّه من سنخ براهين علم الكونيَّات العقائدي.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ وليام لين كرايغ طرح تفاصيله في نسقٍ جديدٍ مشابهٍ للبرهان الذي طرحه علماء الكلام المسلمون كالكندي والغزالي،  كما ارتكز فيه على نظريَّات عالم الرياضيَّات المعاصر جورج فرديناند لودفيج فيليب كانتور،  وعلى النظريَّة الفيزيائيَّة الشهيرة الانفجار العظيم big bang)[24])؛ فضلًا عن ذلك فقد اعتمد على هذا البرهان لإثبات مسألة الحدوث الزمانيِّ للكون وافتقاره للخالق تبارك وتعالى.

 

برهان الإمكان والوجوب في الفكر الإسلامي:  

برهان علم الكون في التعاليم الفلسفيَّة الإسلاميَّة يتقوّم على أساس أنَّ جميع الحقائق المشهودة لنا ذات طبيعةٍ إمكانيَّةٍ،  بمعنى عدم اتِّصاف ذاتها بالوجود أو العدم،  وبالتالي تكون الممكنات متساويةً وجودًا وعدمًا .

إذن،  الممكن على هذا الأساس عبارةٌ عن شيءٍ لم يؤخذ في ذاته الوجود ولا العدم باعتبار أنَّ نسبته إليهما متكافئةٌ،  فهو بحدّ ذاته ليس من شأنه أن يكون موجودًا أو معدومًا إلَّا إذا وجد مرجَّحٌ لذلك،  ومن المؤكَّد أنَّ هذا المرجَّح يجب ألَّا يكون شيئًا متَّصفًا بالإمكان أيضًا،  وذلك لأنَّ ما يتساوى في ذاته الوجود والعدم لا يمكنه أن يُخرِج ما يناظره في هذه الميزة من حدِّ التساوي،  لذا فهو مفتقرٌ إلى شيءٍ لا يتساوى فيه الأمران المذكوران.

ماهيَّة الممكن إن أُريد لها التجلِّي في عالم الوجود،  فهي بطبيعة الحال مفتقرةٌ إلى الغير الذي يكون علّةً لها،  وهذا الغير الذي يصدر منه الإيجاب (إضفاء الوجود على أمرٍ آخر) من غير الممكن أن يكون أمرًا ماهويًا يتساوى فيه الوجود والعدم.

صاحب كتاب “الشوارق”  نقل القاعدتين التاليتين من الخواجة نصير الدين الطوسي لإثبات أنَّ علَّة وجود الممكن لا يمكن أن تكون ممكنةً أيضًاً، وهما:  “الشيء ما لم يَجِبْ لم يوجَد،  وما لم يوجَـد لم يوجـِد”.   الثمرة التي تترتَّب على هاتين القاعدتين هي أنَّ ذات الممكن لكونها محرومةً من الوجود فهي بطبيعة الحال غير موجودةٍ،  وبما أنَّها غير موجودةٍ فهي غير قادرةٍ على الإيجاد؛ لذا لا يمكنها الإيجاد إلَّا في حالةٍ واحدةٍ،  وهي اعتمادها على غيرها،  وهذا الغير مشروطٌ بأن لا يكون من الممكنات. إذن،  لا يمكن تصوُّر الوجود والإيجاد للمكن إلَّا إذا اعتمد على غيرٍ لا تتَّصف ذاته بالوجود والعدم بشكلٍ متساوٍ وفي الحين ذاته ليست ضروريَّة الوجود.

ما ذكر أعلاه هو في الواقع المقدِّمة الكبرى للاستدلال في برهان الإمكان والوجوب،  وأمَّا مقدِّمته الصغرى ففحواها أنَّ كلَّ كائنٍ موجودٍ في الكون يندرج ضمن الممكنات،  وبالتالي فهو معلولٌ. عندما تثبت هذه المقدِّمة الصغرى فلا تتحقَّق منها النتيجة المطلوبة إلَّا بعد تحقُّق المقدِّمة الكبرى،  فيثبت لنا أنّ كلّ كائنٍ لا يمكن أن يظهر في وعاء الوجود ما لم يكن هناك واجب الوجود؛ لذا ما دام موجودًا فهذا يعني وجود واجب الوجود.

هناك ثلاث طرائق أو مراحل لإثبات أنّ الكائنات ممكنة الوجود،  وهي كما يلي:

أوَّلًا: بما أنَّ الكائنات الموجودة في الكون مسبوقةٌ بعدمٍ فهذا دليلٌ على أنَّها حادثةٌ ـ ممكنة الوجود ـ أي إنَّ حدوثها دليلٌ على كونها من الممكنات.

هناك ملاحظةٌ يجب الالتفات إليها على هذا الصعيد،  ألَّا وهي أنَّ مجرَّد الحدوث يترتَّب عليه كون الموجود ممكنًا،  لذا فهو غير معتمدٍ على سائر مراحل الاستدلال،  كالاستدلالات التي يطرحها علماء الكلام.

ثانيًا: عند ملاحظة ذات كلِّ شيءٍ موجودٍ في الخارج فهو في الحقيقة يكون ملحوظًا من نافذة الوجود عن طريق التحليل العقلي وليس الاستنباط التجريبيَّ،  وهذه الملاحظة بطبيعة الحال ليست من ذاتيَّاته؛ لذا تكون نسبته إلى الوجود والعدم متساويةً،  وبالتالي فهو ممكن الوجود.

ثالثًا: كلُّ حقيقةٍ موجودةٍ على أرض الواقع بحيث يدرك الذهن ذاتها وذاتيَّاتها عن طريق التعقُّل الحصوليِّ،  فهي تندرج ضمن الممكنات،  وذلك لأنَّ الشيء الذي توجد ذاته وذاتيَّاته بالوجود الذهنيِّ يدلُّ بحدّ ذاته على أنَّ الوجود والواقع الخارجيَّ ليسا عين ذاته وليسا خارجين عن نطاق ذاتيَّاته مـمَّا يعني أنَّه ممكن الوجود،  إذ من المستحيل أن ينتقل الوجود بذاته وواقعه الخارجيُّ إلى وعاء الذهن.

إذن،  الشيء الذي يكون الواقع الخارجيُّ – الوجود العينيُّ – ضروريًّا له بحيث لا ينفكُّ عنه،  ليس من شأنه مطلقًا أن ينتقل بذاته إلى الذهن،  لأنَّ الموجودَ العينيَّ يُعتبر منشئًا للأثر في حين أنَّ الموجود الذهنيَّ لا أثر له؛ ومن المؤكَّد أنَّ الشيء الذي يكون منشئًا للأثر بحدِّ ذاته لا يمكنه أن يتجرَّد عن تأثيره بتاتًا،  وعلى هذا الأساس لا يمكن للذهن مطلقًا إدراك كُنهه وذاته الحقيقيَّة،  بل له القابليَّة على انتزاع مفهومٍ له بعد إدراكه الحضوريِّ،  وإثر هذا الإدراك يصبح المفهوم في غاية البداهة ومن ثمّ فهو يحكي عن ذلك الواقع الخارجيِّ الذي هو في الحقيقة غاية في الخفاء.

برهان علم الكون الذي طرحه الفلاسفة الغربيُّون قد تحقَّقت فيه المرحلة الأولى فقط من المراحل المشار إليها أعلاه والتي يمكن تحصيلها عن طريق التجربة أيضًا،  وذلك حتَّى في مجال الاستدلال لإثبات أنَّ الكون من الممكنات؛ بينما المحور الأساسيُّ في استدلال الحكيم ابن سينا عقليٌّ وليس تجريبيًّا كما في المرحلة الثانية من المراحل الثلاث المذكورة؛ ولكن بفضل مبدأ أصالة الوجود الذي طرحه صدر المتألِّهين،  يتسنَّى لنا الاستدلال على أساس المرحلة الثالثة لإثبات أنَّ الكون من الممكنات بحيث نتمكَّن على هذا الأساس من إثبات أنَّ جميع أجزائه هي من سنخ الممكنات بشكلٍ أدقَّ وأنفذ؛ وبطبيعة الحال فإنِّ برهان علم الكون بعيدٌ كلَّ البعد عن هذا الاستدلال المحكم.

برهان الإمكان والوجوب في صيغته السابقة لم يكن بحاجةٍ إلى إثبات استحالة الدور والتسلسل أو الاعتماد عليهما في عمليَّة الاستدلال،  إذ إنَّه يتطرَّق أوَّلًا إلى إثبات واجب الوجود ومن ثمَّ يثبت ضرورة تناهي سلسلة الممكنات التي تكون واسطةً في الإيجاد[25].

ومن الجدير بالذكر هنا أنَّ قضيَّة افتقار الممكن إلى الغير تُعدُّ من القضايا الحقيقيَّة التي هي ليست من سنخ الموجبة الكلّيَّة،  ولهذا السبب لا يمكن تسرية هذا الافتقار إلى الكون بأسره كما ذهب إليه الفلاسفة الغربيون لدى طرحهم برهان علم الكون،  لذا لا تصل النوبة إلى الحديث عن كون العالم بأسره عبارةً عن وجودٍ ذهنيٍّ،  بل إنَّ المشمول بهذه القاعدة هو كلُّ أمرٍ يتساوى فيه الوجود والعدم بشكلٍ متكافئ كالأرض التي نحيا فيها والإنسان الذي نراه في عالم الواقع وحتَّى هذه الكتابة التي نقرؤها.

الفيلسوف توما الأكويني ومن حذا حذوه،  أخطأوا في فهم برهان الحكيم ابن سينا،  أو يمكن القول أنَّ استنباطهم كان عودةً أخرى للرؤية الأرسطويَّة حول مبدأ العلّيَّة،  حيث نظروا إلى هذا المبدأ بعين الحسِّ والتجربة وفق الظواهر الطبيعيَّة المحسوسة، أي أنَّهم حاولوا إثبات وجود العلّيَّة من منطلق الحسِّ والتجربة؛ في حين أنَّ الحكيم ابن سينا سلَّط الضوء على العلَّة لإثبات وجود الكائنات وليس لإثبات طبيعتها،  فهو يرى أنَّ الإمكانَ الماهويَّ جزءٌ من ذات الشيء بحيث لا ينفكُّ عنه بتاتًا؛ فحينما نقول إنَّ هذا الشيء ـ كالقلم مثلًا ـ ممكن الوجود،  نروم من ذلك أنَّ ذاته لا تقتضي الوجود بنفسها،  وعلى هذا الأساس لا بدَّ من وجود شيءٍ يُفيض عليه الوجود في كلِّ لحظةٍ من  دون انقطاع.

وببيانٍ فلسفيٍّ نقول إنّ الماهيَّة بلحاظ غيرها تخرج من نسبة الاستواء التي تتَّصف بها – التساوي بين الوجود والعدم – ولكن بلحاظ نفسها تبقى متساوية في نسبتها إلى الوجود والعدم من دون انفكاكٍ عنهما مـمَّا يعني اتِّصافها بالإمكان،  ففي هذه الحالة لا يسري الوجود إلى ذوات الماهيَّات التي تتَّصف بالإمكان،  ولهذا السبب لا يمكن أن تنقطع حاجة الممكن إلى الغير مطلقًا،  فهي حاجةٌ دائمةٌ وثابتةٌ.

كما تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظةٍ هامّةٍ للغاية،  وهي أنَّ العلَّة الموجِدة في الفلسفة الإسلاميَّة لا تقتصر على سلسلة الكون،  أي أنَّ الكون بكلِّ ما فيه مفتقرٌ إلى هذه العلَّة في نشأته ووجوده،  وهذه القاعدة بطبيعة الحال تشمل كلَّ ما هو موجود حولنا وبما في ذلك أنفسنا؛ وهذه العلَّة الموجدة بكلِّ تأكيدٍ ليست سوى واجب الوجود.

لا بدَّ من القول أنَّ وساطة الممكنات وسببيَّة بعضها البعض لا تكون بشكلٍ طوليٍّ بحيث تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ،  إذ ليس هناك ممكنٌ له القابليَّة على أن يكون بحدِّ ذاته واسطةً لنقل الفيض عن طريق إضفاء الوجود إلى غيره،  بل إنَّ جميع الممكنات من جهة كونها متقوِّمةً بواجب الوجود فهي تجري في مجرى الفيض،  أي أنَّ المبدأ الغنيَّ عن كلّ شيءٍ يحيط بالكامل على وساطتها وسببيَّتها لكونه هو المفيض لكلّ ما لديها من قابليَّات وجوديَّة.

خلاصة الكلام أنَّ هذا البرهان الذي كان مطروحًا بين العلماء المسلمين،  يتقوَّم على القضايا التالية:

أوَّلًا: لم يستند إلى قاعدة بطلان الدور والتسلسل،  والمباحث التي ذكرت في بعض أطروحاته حولهما تتَّصف بصبغةٍ تعليميَّةٍ لتأكيد بطلانهما.

ثانياً: استحالة تسلسل العلل الوجوديَّة المشترطة إن كانت متعدِّدةً ومترتِّبةً ومجتمعةً بعضها مع بعض في الوجود.

ثالثًا: الفصل في بعض الحالات بين برهان الإمكان والوجوب وبين بعض صور برهان العلّيَّة؛ وهذا الأمر ليس صائبًا لأنَّ العلِّيَّة عبارةٌ عن أصلٍ مشتركٍ يُعتمد عليه في جميع البراهين وبما فيها هذا البرهان،  وعلى هذا الأساس يمكن القول أنَّ مبدأ العلّيَّة لا يُعدّ برهانًا مستقلًّا بحدِّ ذاته بحيث يُدرج إلى جانب سائر البراهين التي تُساق لإثبات وجود الله عزِّ وجلِّ،  فإذا حدث شكٌّ وترديدٌ في أصل هذا المبدأ سوف يطرأ هذا الشكّ والترديد على العلاقة الضروريَّة التي لا مناص منها بين المقدِّمة والنتيجة في الاستدلال المبرهن مـمَّا يعني انتفاء عملية الاستدلال من أساسها.

آية الله جوادي الآملي استشكل على برهان علم الوجود الذي طرحه ديفيد هيوم باعتبار أنَّ عمليَّة الاستدلال فيه ليست سوى جهدٍ لتجميع أجزاء متناثرة لا تحتاج إلى علّةٍ إلَّا تلك العلّة المرتبطة بكلّ جزءٍ منها؛ ولكنَّه وصف برهان الإمكان والوجوب كما يلي: “الاستدلال في برهان الإمكان والوجوب لم يرتكز في عمليَّة الاستدلال على الإمكان الماهويِّ لوجود الكون ككلٍّ – بصفته مجموعة أجزاء – كما هو متعارفٌ في رحاب الفلسفة الغربيَّة،  بل ارتكز على أساس قضيَّةٍ هامَّةٍ فحواها أنَّ الممكن لا يمكنه أن يتجلَّى في وعاء الوجود دون الاعتماد على الغير،  وهذه القضية حقيقيَّةٌ تصدق على جميع الممكنات بصفتها أفرادًا وليس على وجودها ككلٍّ،  إذ ليس هناك وجودٌ حقيقيٌّ للمجموع،  ومن هذا المنطلق ليس من شأن الموجود أن يتَّصف بالإمكان أو الوجوب الأمر الذي يجعله غير محتاجٍ إلى الغير من باب القضيَّة المنطقيَّة القائلة بأن هذه الحاجة سالبةٌ بانتفاء موضوعها.

إذن،  اعتبار الممكنات ككلٍّ هو مجرَّد اعتبارٍ ذهنيٍّ ولا يندرج في إطار وعاء الوجود الخارجيِّ،  وحتَّى مع افتراض وجودها ككلٍّ وبافتراض الاعتماد عليها في عمليَّة البرهنة،  ففي هذه الحالة أيضًا  إنَّ الإمكان الذي هو محض حاجةٍ وافتقارٍ يعتبر من الميزات التي لا تنفكُّ عن الكلِّ،  أي أنَّه جزءٌ لا يتجزّأ عن ذات مجموع الأجزاء المجتمعة التي تؤلِّف الكلّ؛ وهذا الأمر قد يدركه العقل إدراكًا  تامًّا،  لذا فهو في غنيٍّ عن المشاهدة والتجربة لتأكيد صحَّته أو سقمه.

الأساس الراسخ الذي يستند إليه برهان الإمكان والوجوب متقوّمٌ على مقدّماتٍ فلسفيةٍ،  وعلى مرّ الزمان وتوالي البرهنة والاستدلال طوال قرونٍ متماديةٍ ترسّخ أكثر فأكثر بفضل أطروحات ونظريات الفلاسفة المسلمين،  وعلى هذا الأساس ذكرنا المؤاخذات الثلاث التي أوردت على برهان علم الكون المطروح من قبل العلماء الغربيين،  حيث بادر الفلاسفة المسلمون إلى طرحها على هذا البرهان بهدف شرحه وتحليله بدقّةٍ متناهيةٍ وصقله من النواقص التي تكتنفه.

وقد أجريت بحوثٌ ونقاشاتٌ في غاية الدقَّة حول النقد الذي طرحه الفيلسوفان ديفيد هيوم وإيمانويل كانط حول الضرورة الموجودة في عالم الخارج خلال اعتراضهما على صحّة البراهين الوجوديَّة وبراهين علم الكونيَّات،  حيث أرادا من ذلك نفي وجود واجب الوجود؛ ويمكن تلخيص الردّ بإيجازٍ على مزاعمهما العارية عن الصحَّة كما يلي: الضرورة والوجوب عبارةٌ عن مفهومين بديهيَّين يدركهما الإنسان في ذاته بشكلٍ فطريٍّ،  وأمَّا علم الفلسفة فهو يعتبرهما متحقِّقين بصفتهما معقولات ثانية فلسفيَّة،  ومن ثمّ فإنَّ علم المنطق يعتمد عليهما كأصلٍ موضوعيٍّ ثابتٍ من منطلق البحوث الفلسفيَّة،  ومن هذا المنطلق تتقوَّم عليهما قواعده الثابتة.

علم المنطق يتطرَّق إلى تعيين مصاديق المفاهيم الذهنيَّة في نطاق القضايا التي يطرحها حولها،  وعلى هذا الأساس صوَّر الموجِّهات الثلاثة عشر ومن ثمَّ اعتمد عليها في مجال العلاقات والنسب الموجودة بين قضايا الحمل،  أي في إطار المعقولات الثانية المنطقيَّة.

أضف إلى ذلك فالضرورة المقصودة في واجب الوجود لا تعدُّ من الضرورات المطروحة في إطار الربط بين المواضيع والمحمولات،  بل هي ناظرةٌ بشكلٍ مباشرٍ إلى رسوخ الواقع وتأصُّله باعتباره حقيقةً عينيةً خارجيةً”. [26]

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عالم الدين المسلم مهدي الحائري اليزدي الذي اعتبر هذه الضرورة من سنخ الضرورات الذاتيَّة المنطقيَّة،  قد قرَّر نظريَّته بسياقٍ مغايرٍ لما تبَّناه الفيلسوف الغربيُّ إيمانويل كانط،  لذا لا يمكن طرح قضيَّة أنَّها سالبة بانتفاء الموضوع،  حيث قال إنَّها ضرورةٌ ذاتيَّةٌ فلسفيَّةٌ أو أزليَّةٌ خارجةٌ عن النطاق الذي أقرَّه إيمانويل كانط. [27]

أمَّا بالنسبة إلى ماهيَّة العلِّيَّة في برهان الإمكان والوجوب،  فيمكن بيانها كما يلي: إن أردنا تفسيرها بحسب أطروحة الفيلسوف الغربيِّ ديفيد هيوم الذي قيَّدها في نطاق الحسِّ والتجربة،  فلا مناص لنا من الُّلجوء إلى النظريَّة الذاتانيَّة الغربيَّة،  وبالتالي سوف نضطرّ إلى بيان الموضوع اعتمادًا على أسلوب تداعي المعاني.

من المؤكَّد أنَّ تعاليم الفلسفة الإسلاميَّة تطرح تفسيرًا عقليًّا استنادًا لإثبات أنَّ مبدأ العلِّيَّة من سنخ المعقولات الثانية مـمَّا يعني أنَّ مصاديقه في عالم الحسِّ والتجربة يجب أن تكون بديهيَّةً عقليَّةً؛ لذا فإنَّ فلسفتنا لا تؤيِّد مقولة استكشاف العلّيَّة من التجربة ومن ثمَّ تقييم المفاهيم العقليَّة على أساسها برغم أنّ الفيلسوف الغربيَّ إيمانويل كانط يعتقد بوجوب تقدُّم العلَّة على المعلول،  لكنَّ الخلل الأساسيَّ الذي يرد على نظريَّته في مجال بيان حقيقة العلّيَّة،  قد أسفر عن إيجاد خللٍ في براهين علم الكونيَّات أيضًا؛ ولهذا السبب حلَّ مبدأ العلّيَّة الذهنيَّة أو الدليل في الأطروحات اللَّاحقة لهذه البراهين بدلًا عن العلّيَّة الوجوديَّة،  مثل مبدأ السبب الكافي.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الإجابة الفلسفيَّة التي تُطرح على النقد المذكور من قبل إيمانويل كانط وديفيد هيوم،  ذات تفاصيل وتشعُّبات كثيرة لا يتسع المجال  لتسليط الضوء عليها في هذه الدراسة المقتضبة،  لذلك أشرنا بإيجازٍ إلى الأسلوب الصائب في الردّ عليها فحسب.

 

خلاصة البحث:  

نستشفُّ من التفاصيل التي ذكرت آنفًا أنَّ أوجه الاختلاف الموجودة بين براهين علم الكونيَّات المطروحة في العالم الغربي وبرهان الإمكان والوجوب المطروح في العالم الإسلاميِّ، منشؤها الأساسيُّ هو ذلك الاختلاف الموجود في النمط الفكريِّ الذي يتبنَّاه مفكِّرو المدرستين الإسلاميَّة والغربيَّة؛ ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 – براهين علم الكونيَّات المطروحة بين المفكِّرين الغربيين تعتمد على التجربة لأجل بيان ماهيَّة العلِّيَّة التي تحتاج إليها في عمليَّة الاستدلال،  لذا فهي تسوقها في نطاق العِلَّة المُعدَّة فحسب،  بينما برهان الإمكان والوجوب الإسلاميِّ يؤكَّد كون العقل هو المبنى الأساسيَّ للعلّيَّة التي هي علّيّةٌ حقيقيَّةٌ لا اعتباريَّةٌ.

2 – نظرًا لكون تسلسل العلل المعدَّة بحدّ ذاته لا يُعدُّ أمرًا مستحيلًا،  لذا يمكن الاعتماد عليه في تفنيد شبهة التسلسل المطروحة على براهين علم الكونيَّات من قبل الفيلسوفين ديفيد هيوم وإيمانويل كانط؛ ولكن لا حاجة لنا بذلك لدى طرح استدلالات برهان الإمكان والوجوب؛ حتَّى إن تصوِّرنا أنَّنا بحاجةٍ له في هذا المضمار فالسبب في ذلك يرجع إلى كون العلِّيَّة الحقيقيَّة هي المقصودة،  فنفي تسلسل العلل يمكن إثباته وفق الأصول والاستنتاجات العقليَّة.

3 – براهين علم الكون المطروحة وفق آراء الفيلسوف الغربي جوتفريد لايبنتز لبيان معالم الضرورة الوجوديَّة المراد منها إثبات وجود واجب الوجود تُطرح عليها إشكالاتٌ أساسيَّةٌ،  إذ لا يمكن الاعتماد على التجربة للاستدلال على وجود هكذا ضرورةٍ؛ بينما برهان الإمكان والوجوب المطروح بين الفلاسفة المسلمين أكَّد كون هذه الضرورة تعتبر من سنخ المعقولات الثانية الفلسفيَّة،  حيث اعتبرها حقيقةً متقوِّمةً بذاتها تعمّ نطاق الذهن والخارج؛ وعلى هذا الأساس لا مجال لطرح مؤاخذات إيمانويل كانط عليها.

4 – العلّيَّة التي هي عبارةٌ عن علاقةٍ تتجسَّد في مقام الثبوت قد بدَّلت السَّبب بها ضمن البراهين التي طرحت على صعيد علم الكونيَّات ولا سيَّما بعد عهد جوتفريد لايبنتز،  فالسبب في الواقع هو عبارةٌ عن علاقةٍ تتجسَّد في مقام الإثبات. كما أنَّ العلّيَّة بحدِّ ذاتها كانت عرضةً للنقد والتفنيد من قبل النظريَّات المرتكزة على النزعة الذاتانيَّة،  في حين أنَّنا لا نجد هذا الخلل في براهين الإمكان والوجوب.

5 – براهين علم الكونيَّات ولا سيَّما برهان جوتفريد لايبنتز،  تهدف إلى إثبات وجود الله سبحانه وتعالى للعالم بأسره،  وذلك على أساس فكرة أنَّ أجزاء العالم من شأنها بعضها توضيح ماهيَّة بعضها الآخر؛ ولكنَّ وجود الله عزَّ وجلّ حسب مبادئ برهان الإمكان والوجوب يعدُّ ضروريًا لكلِّ واحدٍ من الممكنات ولا غنى عنه مطلقًا، وبالتالي فهو ناظرٌ إلى ربوبيَّته تعالى في كلِّ جزءٍ من أجزاء الكون،  بينما براهين علم الكونيَّات ناظرةٌ إليها على ضوء الكون بأسره.

6 – الله سبحانه وتعالى في براهين علم الكونيَّات يعتبر علَّةً محدثةً، ولكنَّه على ضوء برهان الإمكان والوجوب عبارةٌ عن علّةٍ محدثةٍ ومبقيةٍ في آنٍ واحدٍ.

 

 

 

مصادر البحث:

  • أرسطو، ما بعد الطبيعة (باللُّغة الفارسيَّة)،  إعداد: محمَّد حسن لطيفي،  طهران،  منشورات طرح نو،  1999 م.
  • أفلاطون، تيماوس در مجموعه آثار أفلاطون ( بالُّلغة الفارسيَّة)، إعداد: محمَّد حسن لطيفي،  طهران،  منشورات خوارزمي،  الجزء الثالث،  1957 م.
  • عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين إثبات خدا (باللُّغة الفارسيَّة)،  قم،  منشورات إسراء،  2005 م.
  • مهدي الحائري اليزدي، كاوش هاي عقلي نظري (بالُّلغة الفارسيَّة)،  طهران،  منشورات انتشار،  1981 م.
  • رينيه ديكارت، تأمُّلات در فلسفه اولى (باللُّغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: أحمد أحمدي،  طهران،  منشورات دانشكاهي،  1982 م.
  • برتراند راسل، عرفان ومنطق (باللُّغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة : نجف دريا بندري،  طهران،  منشورات كتاب هاي جيبي،  1970 م.
  • محمّد حسين الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم (بالُّلغة الفارسيَّة)،  قم،  منشورات صدرا،  الجزء الخامس،  1971 م.
  • إيمانويل كانط، سنجس خرد ناب (باللُّغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة:  شمس الدين أديب سلطاني،  طهران،  منشورات أمير كبير،  1983 م.
  • نورمان جسلر، فلسفه دين (بالُّلغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة:  حميد رضا آيت اللّهي،  طهران،  منشورات حكمت،  2005 م.
  • جوتفريد فيلهيلم لايبنتز، متادولوژي (باللُّغة الفارسيَّة)، ترجمه إلى الفارسيَّة: يحيى مهدوي،  طهران،  منشورات خوارزمي،  1976 م.
  • كريم مجتهدي، فلسفه در قرون وسطا (باللُّغة الفارسيَّة)، طهران،  منشورات أمير كبير،  2000 م.
  • محمَّد تقي مصباح اليزدي، ترجمه وشرح برهان شفاء (باللُّغة الفارسيَّة)، طهران،  منشورات أمير كبير،  1994 م.
  • رونالد هيب بيرن، برهان وجوب وامكان در خدا در فلسفه (باللُّغة الفارسيَّة)، ترجمه إلى الفارسيَّة: بهاء الدين خرَّمشاهي،  طهران،  منشورات مؤسَّسة الدراسات والبحوث الثقافيَّة،  1993 م.
  • جون هاروود هيك، فلسفه دين (باللُّغة الفارسيَّة)، ترجمه إلى الفارسيَّة: بهزاد سالكي،  طهران،  منشورات الهدى الدوليَّة،  1997 م.

 

المصادر الأجنبيَّة:

15 – Anslem – “ Monologion “ in Anselm Basic Writing

،  translated by S. N. Dean. La. Sslle – Illinois: Open Court Publishing Co. 1962.

16 – Aristotle – Basic Works Of Aristotle

،  Edited with an introduction by: R. McKeon،  New York، Random House،  1941.

17 – Augustine – “ on Free Will “ in The Fathers of the Church: The Retraction  Volu. 60،  Translated by Sister M. I. Bogan،  Washington D. C.،  Catholic University of America Press.1968.

18 – Craig

،  William Lane – The Kalam Comolological Argument،  New York: Barnes & Nble،  1979.

19 – Descartes

،  Rene – Meditation on first Philosophy،  Translated and edited by John Cotingham،  Cambridge: Cambridge University Press،  1996.

20 – Hume

،  Daved – Dialogues Concerning Natural Religion  Indiana Polis: Hekett،  1980.

21 – Kant

،  Immanuel – Critique of Pure Reason،  Translated by Norman Kemp Smith،  New York،  St. Martin`s Press. 1969.

22 – Leibniz

،  Gottfreid – Monadology and Other Philosophical Essays،  Translated by Paul and Anne Schreeker،  Indiana Polis،  Indiana: Bobs Merrill. 1969.

23 – Ockham William – Philosophical Essays

،  Translated with Introduction by: P. Bochner،  Indiana Polis،  Indiana: Bobbs Merrill،  1962.

24 – Plato – Collected Dialogues

،  Edited by E. Hamilton and H. Cairns،  New Yourk: Panthon Books،  1941.

25 – Scutus

،  John Duns – Philosophical Writtings،  Indiana Polis،  Indiana: Bobbs Merrill،  1962.

26 – Thomas Aquinas – Summa Theologica

،  Translated by English Dominican Fathers،  Chicago،  Benzingers Brothers،  1948.

 

 

[1]– جون هاروود هيك،  فلسفه دين (باللغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: بهزاد سالكي،  ص 58.

 

[2]– أرسطو،  ما بعد الطبيعة (باللغة الفارسيَّة)،  إعداد: محمَّد حسن لطيفي،  ص 479.

 

[3]– plato – Collected Dialogues،  Edited by E. Hamilton and H. Cairns،  New Yourk: Panthon Books،  1941. p. 27.

 

[4]– Aristotle – Basic Works Of Aristotle،  Edited with an introduction by: R. McKeon،  New York،  Random House،  1941،  Metaphysics XII،  ch. A.

 

[5]– كريم مجتهدي،  فلسفه در قرون وسطا (باللغة الفارسيَّة)،  ص 247. (الفلسفة في القرون الوسطى).

 

[6]– Augustine – “ on Free Will “ in The Fathers of the Church: The Retraction،  Volu. 60،  Translated by Sister M. I. Bogan،  Washington D. C.،  Catholic University of America Press.1968. pp. 1 – 5.

 

[7]– Anselm – “ Monologion “ in Anselm Basic Writing،  translated by S. N. Dean. La. Sslle – Illinois: Open Court Publishing Co. 1962،  chs. 1 – 3.

 

[8]– Thomas Aquinas – Summa Theologica،  Translated by English Dominican Fathers،  Chicago،  Benzingers Brothers،  1948. chs. 1 – 3.

 

[9]– Scutus،  John Duns – Philosophical Writtings،  Indiana Polis،  Indiana: Bobbs Merrill،  1962. pp. 39 – 56.

 

[10] – William Ockham،  1290 – 1350.

 

[11] – Ockham،  William – Philosophical Essays،  Translated with Introduction by: P. Bochner،  Indiana Polis،  Indiana: Bobbs Merrill،  1962. pp. 129 ff.

 

[12]– نورمان جسلر،  فلسفه دين (بالُّلغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: حميد رضا آيت اللّهي،  ص 269.

 

[13]– هذا الأمر غير ممكنٍ من الناحية العمليَّة، أي أنَّ تسلسل العلل المعدَّة مستحيلٌ ولا يمكن أن يتحقّق،  حيث استدلَّ بعض المفكّرين على استحالته.

 

[14]– رونالد هيب بيرن،  برهان وجوب وامكان در خدا در فلسفه (باللُّغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: بهاء الدين خرّمشاهي،  ص 70.

 

[15]– كريم مجتهدي،  فلسفه در قرون وسطا (بالُّلغة الفارسيَّة)،  ص 244م.

 

[16]– رونالد هيب بيرن،  برهان وجوب وامكان در خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)،  ترجمه إلى الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي،  ص 58.

 

[17]– Descartes،  Rene – Meditation on first Philosophy،  Translated and edited by John Cotingham Cambridge: Cambridge University Press،  1996،  pp. 35 – 39.

 

[18]– Leibniz،  Gottfreid – Monadology and Other Philosophical Essays،  Translated by Paul and Anne Schreeker،  Indiana Polis،  Indiana: Bobs Merrill. 1969. pp. 32 – 39.

 

[19]– نورمان جسلر،  فلسفه دين (باللُّغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسية: حميد رضا آيت اللّهي،  ص 271 – 273.

 

[20]– جوتفريد فيلهيلم لايبنتز،  متادولوژي (بالُّلغة الفارسيَّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: يحيى مهدوي،  ص 127.

 

[21]– للاطّلاع أكثر،  راجع: برتراند راسل،  عرفان ومنطق (باللُّغة الفارسيّة)،  ترجمه إلى الفارسيَّة: نجف دريا بندري،  ص 199 – 242.

 

[22]– Hume،  Daved – Dialogues Concerning Natural Religion،  Indiana Polis: Hekett،  1980،  sec. v.

 

[23]– Kant،  Immanuel – Critique of Pure Reason،  Translated by Norman Kemp Smith،  New York،  St. Martin`s Press. 1969،  A 606.

 

[24]– Craig،  William Lane – The Kalam Comolological Argument،  New York: Barnes & Nble،  1979.

 

[25]– عبد الله جوادي الآملي،  تبيين براهين اثبات خدا (باللُّغة الفارسيَّة)،  ص 8 – 143.

 

[26] – المصدر السابق،  ص 62 – 156.

 

[27] – مهدي الحائري اليزدي،  كاوش هاي عقلي نظري (باللُّغة الفارسيَّة)،  ص 179 – 220.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى