الدراسات والبحوث

سياسة التخلُّق : الأخلاق الإلهيَّة والمدنيَّة عند ابن عربي

شيرين دقوري

سياسة التخلُّق : الأخلاق الإلهيَّة والمدنيَّة عند ابن عربي

شيرين دقوري

 

تمهيد:

يتعرَّض الإسلام للكثير من التحريف والتشويه والهجوم الشديد من الاتِّجاهات كافَّة غرباً وشرقاً. فتارة يوصف بأنَّه دينٌ إرهابيٌّ، متطرِّفٌ، عنيفٌ… وتارة بأنَّه دينٌ لم يصُن حقوق الإنسان، وخصوصاً المرأة. وعلى ذلك، لا يحقُّ لأيِّ دولة أن تجعل من أحكام الشريعة الإسلاميَّة مرجعيَّة دستوريَّة لها.

لقد اعتاد أعداء الإسلام النَّظر إليه بواسطة مرآة مقعَّرة متكسِّرة الجوانب، فعكست تلك المرآة المشوَّهة وجه ذلك الدِّين في أبشع صورة. ومن الواجب علينا كمسلمين أن نصحِّح تلك الرؤية الخاطئة، وأن نكشف عن انفتاح الدين الإسلاميِّ على الديانات الأخرى والحضارات وكلِّ الثقافات، وصيانته لحقوق الإنسان مهما كانت عقيدة ذلك الإنسان أو ديانته، وفي الوقت نفسه التأكيد على أنَّ الدين الإسلاميَّ هو الشريعة الكاملة والنهائيَّة.

وإذا ما قرأنا القرآن الكريم المصدر التشريعيَّ للإسلام، نستشفُّ التسامح الإسلاميَّ والذي تأسَّس على نظرة فلسفيَّة شملت الوجود، بجانبيه “الحقِّ” و”الخلق”. وهذا الوجود “الخلق” قائم على التنوُّع والاختلاف والتمايز كونه قانوناً إلهيَّاً، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13). فالإسلام أعطى الإنسان حرِّيَّته واستقلاليَّته حين جعله خليفة الله على الأرض. وهذه الحرِّيَّة محكومة بحقوق الله سبحانه وتعالى والتي هي حدود الشريعة الإسلاميَّة.

 

ولكي يكون هناك تسابق بين البشر لبلوغ الحقِّ يأتي التكريم الإلهيُّ ليشمل كلَّ الناس{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) ومعيار التفاضل بين البشر المكرَّمين هو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13). وانطلاقاً من هذا التسامح الإسلاميِّ في التعامل مع المختلفين يأتي مفهوم “العدل” الإسلاميِّ، بكلِّ تجلِّياته، الحجر الأساس لقيام أيِّ مجتمع مدنيٍّ، والذي يحتلُّ مكانة عالية في المنهج القرآنيِّ. فالعدل مع الآخر المختلف في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8). والعدل مع المخالفين لنا من أهل الكتاب وأصحاب العقائد يتجلَّى في ألاَّ نحكم عليهم بالتعميم إن أساؤوا فإنَّهم ليسوا كلهم سواء، يقول: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران: 113). والعدل مع النفس متمثِّلاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلِه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْن} (النساء: 135).

هذا المنهج نفسه نجده في السنَّة النبويَّة التي هي التطبيق السلوكيِّ للوحي القرآنيِّ والمتمثِّل بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام في انفتاحه على الديانات وأنَّ الدين واحد: “الأنبياء إخوة من علاَّت، وأمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد”(متَّفق عليه)[1]. ومن يقرأ دستور المدينة[2] يدرك تماماً كيف أنَّ هذا الدستور سبق الكثير من العهود والمواثيق الدوليَّة حيث حفظ حقوق وحريَّة غير المسلمين (بمن فيهم اليهود) جنباً إلى جنب المسلمين، بل وضمَّهم جميعاً تحت مفهوم الأمَّة الواحدة، والذي يوازي ما يُعرف اليوم بمفهوم “المواطنة” و”المدنيَّة”.

في ضوء هذه التعاليم الإسلاميَّة أسَّس ابن عربي لفلسفة أخلاقيَّة، ومن ثمَّ لفلسفة سياسيَّة مختلفة عن مفهومها المتعارف عليه منذ قرون، والذي ارتضاه واستكان إليه تاريخ البشريَّة والسياسيين. أمَّا نحن فسنطلق على مفهوم السياسة المستندة إلى الأخلاق الإلهيَّة والأخلاق المحمَّديَّة عند ابن عربي تسمية “سياسة التخلق”،  وسنتعرَّف عليها في عجالة من خلال الفقرات التالية من هذا البحث.

 

الأخلاق الصوفيَّة والسياسة:

لا ريب في أهميَّة التمييز بين السياسة “السياسويَّة”[3] التي لا تهمُّ أهل التصوُّف -لما في السياسة من مسؤوليَّة وحمل كبيرين، ما يجعل المتصوِّفة يبتعدون عنها مخافة مخالفة شرع الله- وبين تخلُّق السياسة بالأخلاق الإلهيَّة -والتي نفتقدها في مجتمعنا في أيامنا هذه-. فالتمييز من هذا النوع يظهر أنَّ الدور السلبيَّ الذي ينسب إلى أهل التصوُّف إنَّما هو نابع من ابتعادهم عن هذا الجزء من الدور السياسيِّ، وليس بمفهومه الآخر الذي أُسقط من ثقافتنا وتربيتنا، فلا سلبيَّة هنا بالمطلق في موقف بعض المتصوِّفة من الحياة السياسيَّة، بل إنَّنا إذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلاميِّ وجدنا أنَّ غالبيَّة علماء الدين والفقهاء آثروا الابتعاد عن السياسة والاقتصار على الاهتمام بفقه العبادات والأحكام الشرعيَّة فحسب. وعلى العموم، فإنَّ كثيراً من الباحثين يخطئون في اتِّخاذهم المنهج التعميميِّ في الحكم على المتصوِّفة بالانعزال والسلبيَّة تجاه قضايا المجتمع.

وفي هذا المجال، تستوقفنا التساؤلات التالية: هل نقول مع من يذهب إلى أنَّ أقوال الصوفيَّة لا تتعدَّى النصائح والحكم الأخلاقيَّة أو الدينيَّة التي لا ترقى إلى نسق كلِّيٍّ كامل؟ وهل يمكننا القول أنَّ التجربة الصوفيَّة المتَّسمة بالروحانيَّة الفرديَّة تظلُّ ضمن دائرة الذات الفرديَّة صاحبة التجربة، ولا يمكن أن تطلق أبداً على الذوات الأخرى كي تتَّخذ بعدها نظريَّة عامَّة كليَّة قابلة للتطبيق؟ وهل كان ابن عربي منعزلاً عن الحياة السياسيَّة غير مكترث لما يحدث من تغيُّرات وتحوُّلات في مجتمعه، وأنَّه رغم من موسوعيَّته وإلمامه بأغلب العلوم الإنسانيَّة فإنَّه قد تجاوز علم السياسة!؟[4]

 

في أغلب الكتابات التي تبحث في موضوع السياسة وموقف أهل التصوُّف، منها نجد نموذجاً لها لما قام به عبد السلام الغرميني في كتابه التصوُّف والآخر، حيث يقسِّم أنواع المتصوِّفة إلى أربعة أقسام، جاعلاً ابن عربي ممَّن كانوا يخالطون رجال الدولة مخالَطة قليلة وتبادل الزيارات المعدودة معهم. أمَّا الثلاثة الباقية فيحصر موقفهم على الشكل التالي: 1. المناصرة والتأييد. 2. المحاشاة والاجتناب احتياطاً في الدين، والابتعاد عن كلِّ شبهة. 3. الدخول في معارضتهم وتوجيه النقد لهم[5].

وفي فقرة أخرى، يقول إنَّ ابن عربي كان: “متواطئاً عموماً مع سلاطين وقته. خصوصاً عندما استقرَّ بالمشرق حيث كان يكثر التردُّد على الملك الظاهر، حتى أنَّه يذكر أنَّه كان لابن عربي بيت خاص في بلاطه. وكان لا يتردَّد في رفع حوائج الناس إليه ويوجِّه إليه نصائح في غاية اللُّطف واللَّباقة”[6].

نذكِّر في هذا الصدد، بأنَّه رغم أنَّ والد ابن عربي عمل في الجيش بإشبيليا حيث كانت تربيته في عائلة لها علاقات مع العسكر، إلاَّ أنَّه عندما عرض الخليفة الموحدي أبو يعقوب المنصور (ت: 594) الالتحاق بديوانه رفض ابن عربي هذا العرض. أمَّا عندما انتقل إلى المشرق فقد كانت مكانته عالية عند ملوك الأيوبيين، وكانوا هم من يرغبون في التقرُّب له والتودُّد إليه، حتى أنَّ سلطان دمشق الملك المعظَّم ابن الملك العادل كانت علاقته به علاقة مريد بشيخ.

 

انطلاقاً ممَّا تقدَّم، فإنَّ النتيجة التي خلص إليها الغرميني هي أنَّ الصوفيَّة في أصل منهاجهم غير مؤهَّلين لخوض غمار الحياة السياسيَّة بكل مكوِّناتها. وهم مع كلِّ رجال الدين والعلماء بعيدون عن الفهم الصحيح لها. والذين قال فيهم ابن خلدون إنَّهم “أبعد البشر عن السياسة ومذاهبها. لأنَّهم معتادون النظر الفكريَّ والغوص على المعاني وتجريدها في الذهن أموراً كليَّة عامَّة ليحكم عليها أمر العموم…”.

ويضيف قائلاً: “وإذا كان من حقِّهم وواجبهم كأفراد وكسائر كلِّ الشرائح الاجتماعيَّة الاهتمام بأمور المسلمين، واستلهام روح الدين ومبادئه وأخلاقيَّاته في توجيه الحياة العامَّة، فإنَّه ليس من الحكمة في شيء أن يقبلوا المعادلة، وأن يصبح همُّهم الأول هو الاشتغال بالسياسة “السياسويَّة”، ولا أن يفسِّروا كلَّ أنشطة الحياة من خلال العامل السياسيّْ”[7]. وفي هذا فصل فاضح بين مبادئ وأخلاق الإسلام ودورها الكبير في توجيه الحياة الاجتماعيَّة وبين الحياة السياسيَّة وأنشطتها، نافياً فرضيَّة إمكانيَّة قيام علم السياسة والحياة السياسيَّة على الأخلاق ومن بينها أخلاق الصوفيَّة.

أضف إلى ذلك، نلاحظ أنَّ الكاتب مع اعترافه بأنَّ التعميم في هذه الحالة غير عمليٍّ، إلاَّ أنَّه نسي في تقسيمه وتصنيفه ذاك العامل التاريخيِّ والأشخاص أو الأنظمة السياسيَّة التي حكمت في هذه الحقبة أو تلك.

على مثال رأي الغرميني، كان رأي توفيق الطويل حيث يقول: “إنَّ الطريق الذي يسلكه الصوفيُّ لبلوغ السعادة في سلوكه للتقرُّب من الله إنَّما أدَّى إلى انسحاب الصوفيِّ من الحياة العامَّة، وانتهى بالسالك إلى النظر إلى الوجود كلِّه من خلال ذاته، والاكتفاء بسعادة سلبيَّة باطنيَّة تقوم في الفناء عن نفسه والبقاء بالله وحده”[8].

أمَّا النتيجة لدى الرجلين ومن نحى نحوهما، فهي أنَّ الطريق الصوفيَّ يختفي معه واجب الفرد كفرد في الأسرة، وكمواطن في أمَّة، وكعضو في مجتمع إنسانيّْ!

 

في سياق ما سلف من تفصيل، يمكن تلخيص النقاط الأساسيَّة التي اُنتُقِد من خلالها مذهب ابن عربي الأخلاقيِّ والتي أثَّرت بدورها على الفهم الصحيح لنظرته إلى السياسة وموقفه من الحياة السياسية، على الشكل التالي:

1- نفي المسؤوليَّة الأخلاقيَّة عن مذهبه. وقد اعتمد الباحثون الذين وصلوا إلى هذه النتيجة على مذهبه في وحدة الوجود الذي يقول بأنَّ الله اتَّخذ الإنسان مظهراً ومجلى له، وبالتالي فإنَّ المنظومة الأخلاقيَّة في ضوء هذه النظريَّة تتقوَّض المسؤوليَّة الأخلاقيَّة فيها، وتفضي إلى الجبريَّة ونفي الحريَّة الإنسانيَّة، طالما أنَّ الإنسان مكلَّف لأنَّه هو الذي يطيع والله هو الذي يأمر، وتصبح غاية الأخلاق عند القائلين بهذا المذهب هي “السعادة الشخصيَّة، التي تكون بالاتِّحاد بالله بمعنى فنائه فيه… إنَّها متعة روحيَّة ولذَّة عقليَّة فرديَّة فحسب”[9].

2- ومنهم انتهوا إلى أنَّ نظريَّة الإنسان الكامل، أو خلق الإنسان على الصورة الإلهيَّة هي نظريَّة أنطولوجيَّة لا مجال للأخلاق فيها[10].

 

لكي نفهم التصوُّف وطريقه وإمكانيَّة ارتباطه بالسياسة عند ابن عربي كفكر أوَّلاً وكسلوك ثانياً، سنعرِّج بداية على بعض أقوال المتصوِّفة حول تلك المسألة، مع الإشارة إلى أنَّه في أغلب تعريفات التصوُّف يقال إنَّه “أدب وخلق”.

يقول أبو حفص النيسابوري (ت تقريباً 260 هـ) إنَّ: “التصوُّف كلُّه آداب لكلِّ وقت أدب، ولكلِّ مقام أدب، ولكلِّ حال أدب، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيَّع الآداب فهو بعيد من حيث يظنُّ القرب، ومردود من حيث يظنُّ القبول”[11]، وقريبٌ من هذا قول أبو الحسن النوري: “ليس التصوُّف رسوماً ولا علوماً ولكنَّه أخلاق”.

وبالإضافة إلى تعريف التصوُّف بأنَّه حسَن الخلق يُعرَّف كذلك بأنَّه الحريَّة في حدِّ ذاته، الحريَّة من قيود العبوديَّة والأهواء، من هنا يضيف أبو الحسن النوري على التعريف الأوَّل بقوله إنه: “الحريَّة، والفتوَّة، وترك التكلُّف، والسخاء”.[12]

من جانبه، يقول المرتعش إنَّ “التصوُّف: حسن الخلق”، وهذا على ثلاثة أنواع:

أوَّلها مع الحقِّ بأداء أوامره بلا رياء.

والثاني مع الخلق بحفظ حرمة الكبار والشفقة على الصغار، وإنصاف الأقران، والإعراض عن الكلِ، وعدم طلب الانصاف.

والثالث مع النفس بعدم متابعة الهوى والشيطان. وكلُّ من يقوِّم نفسه في هذه المعاني الثلاثة يكون من ذوي الخلق الحسن. وهذا الذي ذكرته متَّفق مع قول عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها، حين قيل لها أخبرينا عن خلق النبيِّ عليه السلام فقالت: اقرأ من القرآن قول الله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. (الأعراف/199)[13] .

وفي باب الخلق في الرسالة القشيريَّة يحدِّد الواسطيُّ صاحب الخلق العظيم بأنَّه الذي “لا يُخاصِم ولا يُخاصَم من شدَّة معرفته بالله تعالى”[14]. وهنا تأسَّى بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قيل له يا رسول الله، ادع الله على المشركين. فقال: “إنَّما بُعثتُ رحمة، ولم أُبعَث عذباً”[15].

من المعلوم أنَّ كلَّ مذهب أخلاقيٍّ لا يخلو من الإلزام والمسؤوليَّة والواجب كي يُقام الحقُّ وتأخذ العدالة مجراها. ويفرِّق السيد محمد بدوي[16] بين مبدأ فلاسفة الأخلاق وبين مبادئ الأخلاق الإسلاميَّة، والتي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار في قراءتنا لمذهب ابن عربي الأخلاقيِّ حيث يقول إنَّ: “فلاسفة الأخلاق حاولوا دائماً بناء قواعد الأخلاق على مبدأ وحيد إمَّا مبدأ السعادة أو مبدأ اللَّذة أو مبدأ العقل”، إلاَّ أنَّ هذه المبادئ تختلف عند فلاسفة المسلمين، لأنَّ القواعد العامَّة للأخلاق ليست من صنع البشر بل إنَّنا تلقَّيناها عن المشرِّع الأسمى، ونستطيع أن نستنبطها من القرآن والسنَّة. أمَّا الواجبات الخاصَّة فإنَّنا نكيِّفها تبعاً لظروف حياتنا شرط أن لا نخرج بها عمَّا رسمه لنا المثل الأعلى.

وبما أنَّ المتصوِّفة يبنون علمهم على الإيمان والصدق والإخلاص، فالتصوُّف يغدو هنا أيضاً، العلم الذي يصوِّر المثل الأخلاقيَّ الإسلاميَّ الأعلى، وهذا قصد ابن عربي بالتصوُّف، مستنداً في ذلك إلى تفسيره للآيات القرآنيَّة والسنَّة الشريفة، حيث يؤكِّد على أنَّ ميزان الشرع هو الميزان ذو الكفة الراجحة إذا ما وُجِد في مقابله غيره من العلوم، “إذا أعطاك الله علماً من العلوم الإلهيَّة لا من غيرها لا تعتبر الغير في هذا الميزان الخاص…”[17]. والتصوُّف في أحد تعريفاته عنده هو الوقوف مع الآداب الشرعيَّة ظاهراً وباطناً، وهي مكارم الأخلاق. وهو أن تعامل كلَّ شيء بما يليق به ممَّا يحمده منك[18]. بكلمات أُخَر، وباختصار، يرتبط التصوُّف بالأخلاق ومكارم الأخلاق وكلُّ ما يتفرَّع من علوم عن هذا العلم إنَّما يستند في الأصل إلى تبنِّي حُسن الخلق المحمديِّ والتشبُّه بالأخلاق الإلهيَّة ظاهراً وباطناً.

والتصوَّف بهذا المعنى هو حقيقة الفتوَّة عند ابن عربي (كسابقيه من أهل التصوُّف): “فالفتوَّة أن يُؤثِر الإنسان العلم المشروع الوارد من الله على ألسنة الرُّسل على هوى نفسه وعلى أدلَّة عقله..”[19]. والفتوَّة إيثار حظوظ الآخرين على حظِّ النفس، كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي (ت: 505 هـ)[20]، فالإيثار يحمل في دلالته المثال الأعلى في الحياة الروحيَّة وفي الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وابن عربي خير من أبحر وأفاض في البحث في أخلاقيَّات الفتوَّة والمروءة[21]، والتي تسعى جميعها للحفاظ على إنسانيَّة الإنسانيَّة ودوام بقائها، وعلى خلق مجتمع فاضل مدنيّْ.

فالنبوَّة والتصوُّف والفتوَّة كلُّها مقامات تتغذَّى من مَعين واحد هو التخلُّق بالأخلاق الإلهيَّة. تحمل جميعها رسالة واحدة هي الرسالة الأخلاقيَّة.[22] والرسول الكريم يعد النموذج الأكمل، الفتى بامتياز، للاقتداء عند الصوفيَّة. فهم ملتزمون بأخلاقه، محافظون على سنَّته. كيف لا وهو القائل: “بُعِثت لأتمِّم حُسن الأخلاق”*. وكثيراً ما يستشهد الصوفيَّة بقول عائشة رضي الله عنها من أن خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن*، للدلالة بشكل رمزيٍّ على أنَّه متخلِّق بالأخلاق الإلهيَّة.

 

ولأنَّه ليس من أصحاب الفلسفات النظريَّة، فإنَّ الأخلاق عنده ضمن نظرته الفلسفيَّة تنقسم إلى أخلاق نظريَّة وأخلاق عمليَّة. الأولى تمحورت حول التصوُّر الميتافيزيقيِّ الذي يعكس فلسفته عن التجلِّي الإلهيِّ، والتي بحث فيها المسائل الفلسفيَّة الشهيرة، القضاء والقدر، الخير والشرِّ، الجبريَّة والحريَّة، الأمر التكليفيَّ والأمر التكوينيَّ، والثانية تمثِّل الجانب العمليَّ السلوكيّْ. وهو بذلك سبق الفلاسفة الذين نظروا في الأخلاق نظرة تجريديّة متعالية بعيدة عن المجتمع والناس، وأنزل هذه الأخلاق التجريديَّة ليربطها بالواقع ويدلُّ بها الناس على الطريق الصحيح من خلال تطبيقها والحثِّ على الالتزام بها. ولأنَّ العلاقة بين الإلهيِّ والإنسانيِّ عنده متداخلة فإنَّه حتى السياسة التي قد يكون قرأها من خلال عالمه الميتافيزيقيِّ المتعالي المثاليِّ لها تجلٍّ في العالم الإنسانيّْ.

سنلاحظ أنَّ الجانب العمليَّ للأخلاق الذي سيتفرَّع عنه الجانب السياسيُّ، (تخلُّق السياسة)، إن لم يكن حاضراً جليَّاً في نصوص ابن عربي، أو أنَّ تلك النصوص لم تفصح تماماً عن اتِّجاهه السياسيِّ أو اهتمامه بالشؤون السياسيَّة ونظم الحكم، إلاَّ أننا في قراءتنا لتلك النصوص القليلة والمبعثرة عن ذلك التوجُّه تدلُّنا على قصده ورأيه في السياسة، خصوصاً تلك الموجودة في الوصايا الدينيَّة والأخلاقيَّة والنصائح السياسيَّة للملوك والحكَّام.

ولأنَّ الحريَّة من المفاهيم المركزيَّة لأيِّ مجتمع مدنيٍّ، والتي تلعب دوراً جوهريَّاً في قياس حريَّة أو استبداد هذا النظام السياسيِّ أو ذاك، فإنَّنا سنعرِّج قليلاً على مفهومها عنده، ومن ثمّ نعود إلى تخلُّق السياسة.

 

الحرِّيَّة وأصلها الإلهيُّ في فلسفة السياسة عند ابن عربي:

 

قلنا إنَّ هناك من زعم أنَّ مذهب ابن عربي في وحدة الوجود أدَّى إلى نفي المسؤوليَّة، وها هو عفيفي في كتابه “التصوُّف الفلسفي” يتساءل عن إمكانيَّة أن يحتلَّ الفعل الأخلاقيُّ الضروريُّ (الالتزام الأخلاقيُّ) مكاناً في فكر ابن عربي. ويستنتج، كما فعل غيره الكثير، أنَّه رفض الالتزام الأخلاقيَّ من خلال عرضه لنظريَّته الخاصَّة عن حرِّيَّة الإنسان. وهو يدَّعي أنَّ ابن عربي لا يؤمن بحرِّيَّة الاختيار، فالإنسان لا يملك خياراً لكن هناك البديل. إنَّه يختار احتمالاً واحداً من الاحتمالات البديلة والذي حدث بإرادة الله. لذلك فالمسؤوليَّة لا معنى لها عندما تنتفي الإرادة[23].

في المقابل، يذهب محمد المصباحي[24] إلى أنَّه في قلب مذهب وحدة الوجود يمكن أن تعبِّر عن الحرِّيَّة بجهة ما. وهذا ما يفهم من قول ابن عربي: “كن ممَّن يُنسب إلى الحقِّ، ولا يُنسب إلى الخلق، وهو معنى قوله تعالى: {ما عندكم ينفد} (النحل: 96)، فوصف بالنفاد ما نسبه إلينا و”ما” لفظة تدلُّ على كلِّ شيء”[25]. هنا نفهم أنَّها مطالبة بممارسة التحرُّر من استرقاق سلطان الأغيار. فإن كان ابن عربي مؤمناً بأنَّ الله خلق الإنسان على صورته، وبأنَّ الخلافة في الأرض أوكِلت إليه، وبأنَّ بإمكانه عدم الوقوع في معصية الخالق حين حدَّد له فرائض شريعته، فإنَّه بعد كلِّ ذلك لا يمكن له أن يسلب الإنسان حريَّته وقدرته على الفعل.

ولفهم موقع الحرِّيَّة الإنسانيَّة في مذهب ابن عربي الأخلاقيِّ لا بدَّ من التمييز بين مفهومَيْ العبوديَّة والعبودة في فكره. فوجود الإنسان يدخل في باب الإضافة لأنَّه صادر عن الله. والإنسان بما هو مضاف إلى خالقه، أي من حيث هو عبد، لا يمكن أن يوصف بالحرِّيَّة لأنَّ العبوديَّة “لا تقبل العتق”[26]، مادام الضدُّ لا يقبل ضدَّه أو لا يتحوَّل إليه. أمَّا الإنسان من حيث عينه أو ذاته فيمكن أن يوصف بالحرِّيَّة[27]. ونفهم من هذه العلاقة بين الإضافة والعينيَّة وبين العبوديَّة والعبودة، أنَّ العبوديَّة لا تسمح بالحرِّيَّة لأنَّها مضافة ومنسوبة، في حين أنَّ العين تسمح بالحرِّيَّة من حيث هي عبودة لأنَّ هذه الأخيرة تفتقد النسبة. وفي الحقيقة، يتمتع صاحب العبودة بالحرِّيَّة لأنَّه يكون في وضع وجوديٍّ يجعله يحقِّق نوعاً من وحدة الوجود تمكِّنه من الشعور بأنَّه “غني” عن العالمين! من هنا، تتحدَّد حرِّيَّة الإنسان وعبوديَّته من خلال مفهومَيْ الإضافة والعينيَّة.

يقول ابن عربي في مقام العبودة: “العبوديَّة نسبة إلى العبودة، والعبودة مخلصة من غير نسب، لا إلى الله ولا إلى نفسها، لأنَّه لا يقبل النسب إليه، ولذلك لم تجئ بياء النسب… فمقام العبوديَّة مقام الذلَّة والافتقار وليس بنعت إلهيٍّ… فالعبد معناه الذليل يُقال أرض معبدة أي مذلَّلة…”[28].

 

فهل نفهم من هذا أنَّ الحرِّيَّة أضحت تشكِّل جزءاً من عين (ذات) الإنسان، بينما ظلَّت العبوديَّة تنتمي إلى مجال “وجوده” الذي هو مضاف إلى ربِّه؟ يتساءل المصباحي[29]. ونجد الإجابة عن تساؤله في عبارة صغيرة لابن عربي: “وكما أنَّ الكفر عارض كان الاسترقاق عارضاً أيضاً والأصل الحرِّيَّة والإيمان”[30]. فكما أنَّ كلَّ كائن من الكائنات يعود وجوده إلى الله فـإنَّ: “كلَّ ما سوى الله قد انقاد في رد وجوده إلى الله، وأنَّه ما استفاد الوجود إلاَّ من الله ولا بقاء له في الوجود إلاَّ بالله[31].

 

إذن، الإضافة إلى الله تفضي إلى العبوديَّة التي لا عتق فيها، بينما الإضافة إلى العالم تسمح للإنسان بأن يكون عبداً وحرَّاً[32]. فالإنسان في حقيقته ليس عبداً للطبيعة وفي أعراضه وحاجاته عبد لها، بينما هو عبد في حقيقته وأعراضه لله. بالتالي، فإنَّ إضافة الإنسان بالعبوديَّة إلى ربِّه، أو إلى العبوديَّة أفضل من إضافته بالحرِّيَّة إلى الغير بأن يُقال حرٌّ عن رقِّ الأغيار… فمقام العبوديَّة أشرف من مقام الحرِّيَّة في حقِّ الإنسان، والعبودة أشرف من العبوديَّة. وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا في حديث ميمونة بنت الحارث لمَّا أعتقت وليدة لها في زمان رسول الله، فذكرت ذلك لرسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فقال: “لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك، فمقام العبوديَّة رجح على ثواب الحرِّيَّة كما رجح الفقر إلى الله على الغنى بالله”[33]. فالغنى صفة ذاتيَّة للحق تعالى. لأنَّ الله هو الغني الحميد، وأمَّا الغنى للعبد فهو غنى النفس بالله عن العالمين، “فالإنسان فقير بالذات لأنَّه ممكن وهو غنيٌّ بالعرض لأنَّه غنيٌّ بالصورة وذلك أمر عرض له بالنسبة إليه وإن كان مقصوداً للحقّْ. فللإنسان وجهان إذا كان كاملاً وجه افتقار إلى الله، ووجه غنى إلى العالم. فيستقبل العالم بالغنى عنه، ويستقبل ربه بالافتقار إليه”[34].

وعليه، فإنَّ فالإنسان محتار بين أن يختار الحرِّيَّة إزاء العالم الطبيعيِّ والإنسانيِّ فيغدو حرَّاً في عزِّ عبوديَّته إزاء الله، أو أن يختار العبوديَّة إزاء الكون فيغدو عبداً للأغيار، وهو اختيار الحرِّيَّة إزاء الله في الوقت نفسه.

فـ”العبوديَّة أداة الحريَّة والحريَّة أداة العبوديَّة: فإمَّا أن تختار الحريَّة إزاء الله فتصبح أداة في يد الحتميَّة الطبيعيَّة والضرورة الوجوديَّة، أو تختار الحريَّة إزاء الكون فتمتلئ بغنى الله بالله، وتصبح حرَّاً في عزِّ عبودتك.

إنَّ هذا الاستثناء الإلهيَّ أي “أن لا تكون عبداً لغير الله”[35]، إنما هو دعوة للتحرُّر من عبوديَّة العالم الطبيعيِّ والإنسانيِّ الآخر. وعلى ذلك، فالحريَّة هنا تتمثَّل في أنَّه لا ملك ولا سلطان ولا حكم لأحد من خلق الله على وجوده.

ومن هذا المقام يرتبط علم الحكمة عند ابن عربي هنا بالحريَّة وتركها. فالحكيم هو الذي ترك الحريَّة لفهمه مقام العبودة الخالصة، أي باختصار وضع الأمور في نصابها وفي مكانها. فالله تعالى يقول في حديث قدسيٍّ: {إنَّ لنفسك عليك حقَّاً، ولعينك عليك حقاَ، ولزورك عليك حقاً}[36]، ومن توجَّهت عليه الحقوق فأنَّى له الحريَّة[37].

 

يجدر القول أنَّ هذه نقطة مهمة لفهم جوهر الحريَّة الإنسانيَّة في فلسفة ابن عربي، وكي نضعها في سياقها الحقيقيِّ، فنستطيع القول بأنَّه كلَّما ازدادت عبوديَّة الإنسان لله تنامت حريَّته إزاء الكون والمجتمع، وانعتق من عبوديَّته للأشياء، وكلَّما نقصت عبوديَّته لله تقلَّصت حريَّته إزاء الأسباب الطبيعيَّة والإنسانيَّة.

فالحريَّة في ظلِّ التجلِّي الإلهيِّ عند ابن عربي تتجلَّى من خلال التحرُّر تجاه المخلوقين من الأغيار، أمَّا تجاه الله فلا حريَّة أبداً. ولا أجمل ولا أدلَّ من عبارة ابن عربي:”كلُّ حريَّة تُغنيك عن الاسترقاق الإلهيِّ لا يعوَّل عليها”.[38]

وكعادته في ربط الإلهيِّ بالإنسانيِّ نجده يربط الأسماء الإلهيَّة ومفهومَيْ الحريَّة والعبوديَّة بالأخلاق، فربط مقام العبوديَّة بخمسة أسماء إلهيَّة هي”النافع، والعاصم، والواقي، والسريع، والستَّار”، بينما لم يخصِّص لمقام الحريَّة سوى اسمين فقط هما “البصير والبارئ”، اللذان يعطيان مقام الحريَّة في الاسم الجامع، فمنه يكون الإمداد لأهل الفضائل وهم الذين يثابرون على مكارم الأخلاق”[39]. وهو يخصُّ اسم البارئ بالدلالة على الحريَّة في أربعة مجالات هي: مجال الخلق النظريِّ (المهندسون الأذكياء)، ومجال الخلق العمليِّ التقنيِّ (المخترعون للصنائع)، ومجال الخلق الفنيِّ (الواضعون للأشكال الغريبة والمصورون) ومجال مكارم الأخلاق. أما اسم البصير فتستمدُّ منه الحريَّة المتَّصلة بصنائع متصلة بحُسن نَظم الكلام[40].

وتتحدَّد على ذلك العلاقة بين العبد والسيِّد في ظلِّ مفهومَيْ الحريَّة والعبوديَّة، وهي علاقة متبادلة، فالسيد يستحقُّ اسم السيد لقيامه بما يحتاج إليه العبد، والعبد عبد لأنَّه محتاج إلى سيد ليقضي له احتياجاته، فيقول إنَّه: “لا معنى للملك إلاَّ التصريف بالقهر والشدَّة، وطالما لم يقم السيد بما طلبه العبد فقد زالت سيادته من ذلك الوجه. وأحوال العبد على قسمين: ذاتيَّة وعرضيَّة. والإنسان إذا لم يتعبَّد أحداً من عباد الله كان عبداً خالصاً لله فتصرَّف في سيده بجميع أحواله. قال صلى الله عليه وسلم: “خادم القوم سيدهم”، لأنَّه القائم بأمورهم، وهم عاجزون عن القيام بما تقتضيه أحوالهم… فيتَّصف العبد بامتثال أمر سيده والسيد بالقيام بضرورات عبده[41].

 

سياسة المدينة وأخلاقيَّة السياسة:

 

يذكر ابن عربي في كتابه محاضرة الأبرار[42] أنَّه تسنَّى له أن يقف على كتاب “سرُّ الأسرار” لأرسطو، ويشبه محتواه بالدائرة التي تتضمَّن: -العالم وهو كالبستان سياجه الدولة. – الدولة سلطان يحجبه السنَّة. – السنَّة سياسية يسوسها الملك. – الملك راع يعضده الجيش. – الجيش أعوان يكفلهم المال. – المال رزق تجمعه الرعيَّة. –الرعيَّة عبيد يعبدهم العدل، العدل مألوف فيه صلاح العالم، العالم بستان ودار الدور[43]. وكان قد ألَّف كتاب “التدبيرات الإلهيَّة” عندما طلب منه الشيخ الصالح المَوْروري أن يقابل كتاب “سر الأسرار في تدبير المملكة الدنيويَّة” بكتاب “في سياسة المملكة الإنسانيَّة” التي تؤدي إلى سعادة الإنسان، كما يقول هو نفسه عن التعريف بالكتاب وغايته.

وفي هذا الكتاب يحاول ابن عربي تحديد مفهوم سياسة التشريع، وترتيب وظائف العاملين في الدولة وعلاقتهم بعضهم ببعض، وكيفيَّة إدارة تلك الدولة كنموذج لنظام حكوميٍّ سياسيَّاً ومدنيَّاً وأخلاقيَّاً، ونلمس فيه أنَّ السياسة والأخلاق متداخلتان من خلال الوصايا الدينيَّة والنصائح السياسيَّة، وأنَّ ابن عربي عندما أخذ التطرُّق إلى علم السياسة، والتي لم تكن كأيِّ سياسة متعارَف عليها في قاموسنا اليوم، كان يضفي عليها بعداً جديداً وهو “تخلُّق السياسة” المرتكز على علم التصوُّف الذي هو في الأساس علم التخلُّق.

بالإضافة إلى تلك المقارنات والمقابلات التي يقوم بها ابن عربي بين الإنسان الكامل (في التصوُّف)، وبين دولة المدينة (السياسة)، يظهر هذا التداخل بين التصوُّف والسياسة، حيث شبَّه العالم بالإنسان الكبير، والإنسان (العالم الأصغر) بالعالم الكبير، وأنَّ كلَّ ما وُجد في العالم متفرِّقاً وُجد في العالم الإنسانيِّ مجتمعاً، لذلك يجب علينا ونحن نقرأ هذه المقارنات التي يجريها بين الجسد الإنسانيِّ وجسد نظام الحكم (سياسة المدينة) سحب كلِّ ما يقوله عن جسد الإنسان ووظائفه إلى جسد الدولة ووظائفها وواجباتها.

إنَّها أقرب ما تكون إلى سياسة دولة مثاليَّة لإدارة مدينة فاضلة، وهو ما نفتقده كثيراً في عصرنا هذا. “ففي الوقت الذي يتمُّ فيه الحديث عن الواجبات التي على الإمام القيام بها لكي يدير الدولة على أحسن وجه، يتمُّ الحديث أيضاً عن الأشياء التي يجب القيام بها لتأمين ولوج الروح الذي يدير الجسد، إلى الكمال، وذلك بقياس التمثيل مع الإنسان، مجسَّدة بوظائف الإمام كي يحسن إدارة الدولة [الدولة المثاليَّة]”[44].

ويتجلَّى لنا تشبيهه المدينة الإنسانيَّة بمدينة الجسم الإنسانيِّ، في قوله بأنَّ الجسم الإنسانيَّ كالمُلك فيه رعيَّة وأرباب دولة للخليفة (التي تسمَّى حضرة الجسم)، وهذه المدينة قائمة على أربعة أعمدة هي “العناصر”، والقلب هو مسكن الخليفة وموضع أمره للجسم /الرعيَّة {ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن..}[45]. أما “الدماغ فمسكن الوزير الذي هو العقل، والنفس محلُّ التغيير والتطهير ومقرُّ الأمر والنهي، وهي الليلة المباركة التي يُفرق كلُّ أمر حكيم… وهي كريمة هذا الخليفة وحُرَّته. وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو حامد في قوله: “إن الروح نكح النفس فتولد ما بينهما الجسم… “[46].

وبكلمات أخرى، فإنَّ ابن عربي أسَّس لنموذج دولة مدنيَّة ذات نظام شورى، دستورها الشريعة الإسلاميَّة، والعدل أساس حكمها. فبرأيه أنَّ نظام الشورى ضروريٌّ في نظام الحكم السياسيِّ، ويربطه ببقاء المملكة واستقرار ملكها، وهو واضح في قوله “وإيَّاك وإنفاذ أمر في ملكك حتى تُشاور فيه وزيرك فإنَّه في مشاورتك إيَّاه تثبت مودَّتك في قلبه، والمودَّة تورث الشفقة، والشفقة تورث النصح، والنصح يورث العدل، وبالعدل بقاء الممكلة، هكذا ينبغي أن تكون صفات الإمام وأحواله وإلاَّ هلك ويُهلك”.[47]

 

وفي فقرة في فصل عنوَنه بـ “سياسة مدينة”، والتي يظهر فيها أيضاً مقابلته بين أعضاء الجسد الإنسانيِّ ووظيفتهم فيه، وبين أعضاء جسد الدولة ووظيفتهم فيها، يقول ناصحاً الحاكم باتِّخاذ الشورى مبدأ لحكمه: “اصغ إلى سياسة مدينة من أخ شفيق عليك رفيق بك، بل ينبغي لك عندما تريد أن تبرز لأهل مملكتك، وتظهر في عالمك المتصل والمنفصل من عالم الملكوت والجبروت والشهادة، فلتقدِّم وزيرك العقل إلى جميع مملكتك يَقُم فيهم مقامك، ويعرِّفهم بتجليك لهم…”[48]. أمَّا في تحديد مضمون دستور الدولة فنستشفُّ حرصه وغيرته الشديدة على تحكيم الشريعة الإسلاميَّة وتطبيقها في البلاد التي يحيا فيها المسلمون. وقد قال بفتوى تحجير إقامة المسلمين ببيت المقدس مادامت تحت حكم الكفَّار، وذلك حرصاً منه على قدرة المسلمين على ممارسة شعائرهم من دون قيود، والتأكُّد من عدم إهانة الدين الإسلاميِّ، أو تقييد إعلاء كلمة الله وقول الحقِّ، أو الانجرار إلى الأهواء في بلد يكون واليها كافر. بل ولقد أمر بالهجرة من بلاد يحكمها غير المسلمين[49].

ولأنَّ أساس كلِّ حكم مدنيٍّ ومعيار إحقاق الحقِّ وإبطال الباطل هو العدل الذي شكَّل منطلقاً قيميَّاً في القرآن الكريم نجد أنَّ ابن عربي يعي هذه القيمة جيِّداً ويتناولها بجدِّيَّة في جلّ كتبه كأساس لقيام دولة الحقّْ.

ففي التدبيرات الإلهيَّة يخصِّص ابن عربي باباً عنوانه “في العدل وهو قاضي هذه المدينة القائم بأحكامها، يؤكِّد فيه أنَّ العدل هو الحاكم الشرعيُّ لمملكة الملك، والمبقي عليها، والمنتصر لها من الأعداء، وعلى أن يكون العدل حكمنا في الظاهر والباطن، وقد أمر الله تعالى بالعدل حين قال: {إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان} (النحل: 90) وذمَّ من لم يتَّصف به أو لم يجعله حاكماً عليه، فقال: {ويل للمطفِّفين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين: 1-3)، ويقول: “إنَّ الملك جسد روحه العدل”، ويستشهد بوصايا بعض الحكماء عن العدل قائلاً: “لا تكن حلواً فتُشرط ولا مراً فتُعفى”[50]. والعدل أصلاً ميزان الباري كما يقول ابن عربي، وأوَّله أن يبدأ الإنسان بسياسة نفسه فيتحلَّى بكلِّ الخصال الزكيَّة الفاضلة، والتي منها توصله إلى سياسة الناس. فمن “لم يرحم الناس منَعه الله من قدرته، إن العدل ميزان الله وضعَه للخلقِ، ونصَبَه للحقِّ فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، استغنى عن الناس بخلَّتين قلَّة الطمع وشدَّة الورع”[51].

وإذا ما بدأ كلُّ إنسان بنفسه بالتحلِّي بالأخلاق الإلهيَّة فإنَّ العلاقة بين الحقِّ والعبد، السيد والعبد، الحاكم والشعب، تصبح علاقة متبادلة متعادلة في ضوء التخلُّق بالاسم العدل، لأنَّنا كما نطلب من الحقِّ العدل في حكمه علينا، كذلك يطلب منا الحقُّ العدل في حكمنا عليه بما نطلبه منه على حدِّ ما شرَّعه الله. وعندئذٍ نصبح مرآة تعكس هذه الصفة، أي صفة العدل على العالم أجمع.

 

وينبغي القول هنا أنَّه إذا كان ابن عربي في مقارنته بين المملكة الإنسانيَّة ومملكة الجسد قد أنشأ دولة مثاليَّة على شكل المدينة الفاضلة تحاكي فيها الدولة في أرض الواقع، فهل من مسوِّغ بعد ذلك لاعتباره كغالبيَّة أهل التصوُّف منعزلاً زاهداً في الدنيا بعيداً عن الحياة السياسيَّة؟

 

في الفقرة التالية ستتَّضح لنا نقطة مهمَّة في فلسفة السياسة لدى ابن عربي، وهي الإمامة والفرق بين الإمام السياسيِّ والإمام الدينيِّ. وما إذا كان قد فرَّق حقاً بينهما.

 

الإمام الدينيُّ والإمام السياسيُّ:

في الحديث عن دور الإمام ووظيفته في الدولة عند ابن عربي، تستوقفنا الأسئلة التالية: من هو الحاكم العادل؟ وهل حقَّاً اتَّبع موقف أهل السنَّة في قولهم عدم الخروج على الحاكم حتى ولو جار أو ظلم؟ ومتى يحقُّ للرُّعاة/الشعب الخروج على الحاكم الجائر والظالم؟ وكيف كانت علاقته بإمام أو حاكم عصره؟

الإمام عند ابن عربي هو الوليُّ نفسه، الإمامة هنا بمعناها الشامل المطلق أي/ التقدُّم والتولية والتصرُّف. فهي مرتبة أو وظيفة وليست شخصاً معيَّناً. ومن الحديث الشريف “كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته”، نفهم أنَّها تشمل جميع الناس، كلٍّ حسب مكانه في المجتمع.

وقد اقتضت سنَّة الكون والحكمة الإلهيَّة أن يكون الناس على طبقات، بعضهم رئيس والبعض الآخر مرؤوس، ومن كان رئيساً وراع فسيُطالب يوم القيامة بالعدل في شعبه ورعيَّته، البادية منها والحاضرة، وهؤلاء الرعيَّة كجوارح الإنسان سيسألها الله تعالى عنك وعمَّا فعلته فيهم وكيف حكمتهم…[52]. فوُلاة الأمور مهما ارتفعت مكانتهم مطالبون بتلبية احتياجات الرُّعاة، وحتى النبي -عليه الصلاة والسلام- أمره الله تعالى بالرِّفق واللِّين بمن يأتيه سائلاً حاجته، فيقول: إنَّ “الملوك نوَّاب الله، وهم موضع حاجة الخلق، وهم المأمورون أن لا ينهروا السائل. يقول الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وهو النائب الأكبر {وأمَّا السائل فلا تنهر}، ولهذا يسأل الله تعالى يوم القيامة النوَّاب وهم الرُّعاة عن من استرعاهم عليه، ويسأل الرعايا ما فعلوا فيهم”[53].

في هذا الباب، نرى ابن عربي ينصح الإمام بأن يتَّخذ أمين ثقة يباشر بالأمور عنه خصوصاً في ما يتعلَّق بأمور الجباية بالعدل والحقِّ والسياسة، وليكن هذا الأمين واحداً لأنَّ في الكثرة فساداً وفتنة، ممَّا قد يصيبه الهوى والأنا في الحكم فيظلم الرعيَّة.

 

لنتوقَّف الآن على مسألة الخروج على الحاكم الجائر عند ابن عربي، ونعرِّج على بعض الآراء الفقهيَّة حول تلك المسألة.

نلاحظ أنَّه كثيراً ما كان يروي حوادث صحبته مع الملوك والوُلاة ومعاملتهم له، وموقفه منهم من نصح ورشد وتوجيه سياسيٍّ وأخلاقيٍّ، ويبدو أنَّه حقاً كان محاطاً بملوك شكَّلوا نماذج لسياسة التخلُّق بالأخلاق الإلهية، خصوصاً في القسم الثاني من حياته أي في المشرق، عدا عن أنَّه، انطلاقاً من أهميَّة تطبيق شريعة سيِّدنا محمد عليه الصلاة والسلام، واتِّخاذه نموذجاً أعلى للتمثُّل به، وجد أنَّ الكثير من الملوك الذين صحبهم كانوا نموذجاً لأخلاق النبيِّ عليه الصلاة والسلام، فهذا الملك العادل أبو بكر بن أيوب الذي يقول عنه أنَّه كان من أكثر الملوك الذين صحبهم رفقاً، وفي هذا تأسٍّ بأخلاق النبيِّ صلَّى عليه وسلَّم حين قال: “إنَّ الله يحبُّ الرِّفق في الأمر كلِّه”[54].

ونلاحظ أن كل نصائحه للملوك تؤكد على التخلق بأخلاق النبي عليه السلام يقول على سبيل المثال: “كن متخلقاً بأخلاق الله وقد قال تعالى لنبيه ممتنا عليه فبما رحمة من الله لِنت لهم واللِّين خفضُ الجناح والمداراة والسياسة”[55]. وهنا يظهر دليل آخر على الجمع عنده بين الملك الدينيِّ والسياسيِّ.

وفي باب “ترجمة السيادة” في كتابه “التراجم” نجد أيضاً أنَّ السياسة ارتبطت بالدينيِّ والمثَل الأخلاقيِّ القرآنيِّ والنبويِّ اللذين حثَّا على اللِّين والرِّفق، “الملكُ يبقى على اللِّين والقهر، ولا يبقى على العنف، خُذ العفو وأمر بالعُرف”، وأيضاً يقول: “للسيادة عنف ولين فاسلك بهما مواضعهما”، “سياسة السيِّد لطفٌ وقد تكون عن ضعف، وعدم سياسته قوَّة أو خرق”[56].

 

ومن الأمثلة الدالَّة على حُسن خلق أولئك الملوك الأيوبيين كان ما طلب أمراً من أحدهم من قضاء حاجة لأحد من الناس إلاَّ ونفَّذوها له، ولم يرده أحد، ومنهم الملك غازي ابن الملك الناصر لدين الله صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب والذي قضى له في أحد الأيام 118 حاجة من حوائج الناس، ولو كان لديه أكثر لقضاها. ويتحدَّث عن أسلوبه في ذلك بأن كان يبسط بساطاً يستدرُّ فيه الملك ممَّا يستدعي ذلك الملك أن يسأل، ويطلب قضاء تلك الحاجة هو بنفسه وبطيب خاطر[57].

ومع ذلك، فهو لم ينفكّ عن نصح الملوك وتذكيرهم بالتمسُّك بالشريعة والاحتكام إلى مبدأي الرَّحمة والعدل في التعامل مع الرعيَّة/الشعب، كوصيَّته في حديث يقول فيه: “وإن كنت والياً فاقضِ بالحقِّ بين الناس ولا تتَّبع الهوى فيضلُّك عن سبيل الله، وسبيل الله هو ما شرَّعه لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله، فالذين يضلُّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا، والنسيان التَّرك حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا”[58]. ومع ذلك، فإنَّه يقول إن غفل الإمام بلهوه، وطلب نيل الشهوات، وأهمل أحوال الرعيَّة والنظر بأمورهم، فإنَّه بذلك يكون قد عزل نفسه، وذهبت عنه مرتبة السيادة، وفقد الرئاسة، ويكون الله قد حرمه خيرها[59].

وكان قد اقتبس من بعض الفلاسفة اليونانيين الكبار (سقراط وأفلاطون وأرسطو) أقوالاً عن أهميَّة إصلاح النفس والبدء بتسييسها، والتي هي مفتاح سياسة الناس[60].

 

 

ويقول ابن عربي في مكان آخر في وصيَّة ملك: “إذا أحسنت سيرته وصلحت سريرته صيَّر رعيَّته جنداً، وأنَّ أول العدل أن يبدأ الرجل بنفسه فيلزمها كلَّ خلَّة زكيَّة وحاصلة رضيَّة في مذهب سديد ومكسب حميد… ومن لم يرحم الناس منعه الله من رحمته، ومن استطال بسلطانه سلبه الله من قدرته…”[61].

ويقول رادعاً من ظلم من الحكَّام وجار واتَّبع أهواءه كذلك: “ولا يغرَّنك أنَّ الله وسع عليك سلطانك، وسوَّى لك البلاد ومهَّدها مع إقامتك على المخالفة والجور وتعدِّي الحدود، فإنَّ ذلك الاتِّساع مع الإبقاء على مثل هذه الصفات إمهال من الحقِّ لا إهمال، وما بينك وبين أن تقف على أعمالك إلاَّ بلوغ الأجل المسمَّى”.[62]

 

وبالحديث عن الفصل بين السياسة والدين، أو بين الإمام السياسيِّ والإمام الدينيِّ، فإن ابن عربي عندما يأتي على مسألة عدم الخروج عن طاعة الحاكم، وحتى في حالة جوره، فإنَّ فكرة التمييز بين الإمام السياسيِّ والإمام الدينيِّ تظهر جليَّاً في قوله: “لمَّا كانت الإمامة عرضاً، كما كانت الأمانة عرضاً، والإمامة أمانة، لذلك ظهر بها بعض الأقطاب ولم يظهر بها بعضهم، فنظر الحقُّ لهذا القطب بالأهليَّة، ولو نظر الله للإمام الظاهر بهذه العين ما جار قط كما نراه، الإماميَّة في الإمام المعصوم، فإنَّه من شرط الإمام الباطن أن يكون معصوماً وليس الظاهر إن كان غيره يكون له مقام العصمة ومن هنا غلطت الإماميَّة”[63]. وهنا يظهر أنَّه غلَّط غلاة الشيعة والرافضة القائلين بالإماميَّة المعصومة: أي العصمة للإمام الظاهر، وهو بالتالي يخالف فكرة الحاكميَّة المطلَقة للسلطة الدينيَّة.

إلى ذلك، كان يضع نصب عينيه تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا جبريَّة في الإمامة، بل فيها تخيير لتركها لأنَّها حسرة وندامة في يوم القيامة، إلاَّ لمن كان إماماً عادلاً بحقّْ. وعندما نقرأ تأكيده على حقِّ الإمام في إطاعته واتِّباعه وذلك من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، فإنه يقول عن أولي الأمر منكم، إنَّهم الأقطاب والخلفاء والولاة[64]، وينصح المسلم من هذا الباب بقوله: “احذر أن ترجح نظرك على علم الله في خلقه بمن قدَّمه من الولاة في النظر في أمور المسلمين وإن جاروا، فإنَّ لله فيهم سرَّاً لا تعرفه، وإن ما يدفع الله بهم من الشرور ويحصل بهم من المصالح أكثر من جورهم إن جاروا، وهذا كثير ما يقع فيه الناس… “[65].

في هذا الإطار، تقول سعاد الحكيم في معجمها، إنَّ موقف ابن عربي من الخروج على الحاكم أو الوليِّ إنما هو موقف سنِّيٌّ لم يخرج عنه، وأن المتصوِّفة بشكل عام لم يجاهروا بمخالفة أهل السنَّة في ذلك، ما أدَّى إلى عزلة سياسيَّة متمثِّلة في حالات الزهد والبعد عن الناس، حيث قاموا بفصل وظيفيٍّ بين الإمام الدينيِّ والإمام السياسيّْ[66].

وتقول في الصفحة نفسها إنَّه أثبت في الزمن الواحد إمامين: إمام ظاهر هو الخليفة الحاكم السياسيُّ (متَّفقاً مع أهل السنَّة) وإمام باطن هو الخليفة على الحقيقة، ولكنَّ هذين الإمامين لا تنافُر بينهما بل يمدُّ الثاني الأول، فالثاني هو ما يسمُّونه بالقطب والغوث وصاحب الوقت”!.

في الواقع، يبدو أن في هذه النقطة التباساً، حيث الغلط في التعميم على الموقف السنِّيِّ من أنَّه موقف واحد من هذه المسألة الاجتهاديَّة والتي هي مسألة محكومة بشروط تاريخيَّة وظرفيَّة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ هناك ظروفاً خاصَّة عاشها ابن عربي مع الحكَّام خصوصاً في المشرق وتحت حكم الأيوبيين، جعلته يتَّخذ هذا الموقف منهم.

فموقف ابن عربي لم يكن موقفاً غريباً عن غيره من العلماء الربانيين، فها هو الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وتلميذه ابن تيميَّة (ت 728 هـ)، على سبيل المثال، حرَّما الخروج على الحاكم. لكنَّنا عندما نعود إلى التاريخ ونقرأ حياة هذين الإمامين ندرك مباشرة أنَّ عصرهما كان مليئاً بالمخاطر الخارجيَّة وأنَّهما عاشا فترات صراع وحروب وانقسامات، خصوصاً الخطرين التتريَّ والمغوليَّ ممَّا استدعى أن يكون موقفهما إزاء هذه الفتوى مفهومة كونهما أرادا منه حقن دماء المسلمين من الداخل خوفاً عليهم من الفتنة ومن ضياع الأرض والدين والعرض والأنفس. أمَّا الإمام أبو حامد الغزالي فيرى جواز خلع الحاكم الظالم والمستبدِّ من دون قتال.

مهما يكن من أمر، فقد أردنا من ضرب الأمثلة السابقة أن نبيِّن أنَّ موقفهم كان بناء على معطيات الواقع، وأنَّهم طوَّعوا فكرهم وفتواهم حسب الأوضاع السياسيَّة المحيطة بالبلاد، وللتأكيد على أنَّه لا وجود لمطلق الأحكام في تلك المسألة أو غيرها، بل وجب علينا أولاً الوقوف على الظروف التاريخيَّة المحيطة بكل إمام أفتى بفتوى ما قبل الأخذ بها.

 

وعليه، فإنَّ ما قيل عن مسألة عدم الخروج على الحاكم الظالم يُقال ايضاً على مسألة الفصل بين الإمامين الدينيِّ والسياسيِّ، وأنَّهما مسألتان تابعتان لظروف تاريخيَّة، وللأوضاع السياسيَّة والمجتمعيَّة التي خضعت لها الأمَّة الإسلاميَّة ككل، وأجد في فكرة الشيخ محمد الغزالي خير تعبير عمَّا أريد قولُه هنا، حيث يقول إنَّه ومنذ عهد الخلفاء الراشدين فقد شهدت الأمَّة الإسلاميَّة انفصال العلم عن الحكم، فدولة الخلافة الراشدة مثَّلت الإسلام تمثيلاً هو الأقرب إلى عهد النبوَّة… ثمَّ تحوَّلت دولة الخلافة إلى نظام ملكيٍّ، فحدث تحوُّل فى قضايا إسلاميَّة مهمَّة وبدأ الفقه السياسىُّ والدستوريُّ للدولة يتجمَّد… كما تجمَّد فقه العلاقات الاقتصاديَّة والماليَّة. وكذلك فقه العلاقات الدوليَّة،… “هنا نجد الأئمة الذين قادوا الأمَّة علميَّاً. وهم مشهورون: أبو حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل، وهم فقهاء التزموا ناحية فروع الفقه، كما التزم المحدثون رواية السُّنَن… غلب على هؤلاء وأولئك الرغبة في ألاَّ يصطدموا بالنظام القائم، لأنَّ النظام القائم اصطدم به الخوارج، وهؤلاء ليس لديهم فقه، فنكَّل بهم النظام تنكيلاً قطع دابرهم، وآيَس الناس من أن يكون هناك مجال لإصلاح سياسيٍّ بالمعنى الذى يعود بالأمَّة إلى دولة الخلافة… واكتفى الأئمة بأنَّهم قبلوا الأمر الواقع، واستفاضوا فى شروح العبادات والمعاملات على النحو الذىيوصل إلينا…”.

ويضيف أنَّ ضياع الحكم وانفصال العلم عن الحكم أو الثقافة عن السياسة، أعقبه انفصال آخر أشدُّ خطورة من الانفصال الأول: “وهو أنَّ العلم الإسلامىَّ انقسم بين فقهاء ومتصوِّفة، مع أنَّ التربية التي أساسها العقيدة والأخلاق، جزء من مقاصد القرآن الذى جاءت آياته لتدريب الأمَّة على العقيدة والأخلاق بطرق شتَّى…”[67].

ونلفت إلى أنَّ الانفصال الثاني بين العلم والحكم، الذي تحدَّث عنه الشيخ الغزالي، لم يكن انفصالاً كاملاً مع ابن عربي، حيث حقَّق نوعاً من الترابط بين الأخلاق والتربية الدينيَّة الفاضلة وبين السياسة، بين العلم والثقافة المجتمعيَّة وبين الحكم السياسيّْ.

وإذا رجعنا إلى ابن عربي فنجده يعتبر أنَّ صحبة الملوك بشكلها العامِّ فيه مفسدة وأذى للمسلم، وكأنَّه هنا يعترف ضمنيَّاً بالوجه الفاسد للحياة السياسيَّة، لكنَّه في المقابل يؤكِّد على أنَّ خير الصحبة عندما تكون كلمتك مسموعة تخدم من خلالها بقيَّة المسلمين، فتدفع فيها عن مظلوم أو تساعد محتاجاً، أو تنصح حاكماً ما بأن يردَّ عن أحدهم شقاءً ما.[68]

في نصٍّ آخر نجده ينكر على من يجامل أو يساير الحكَّام في مسائل شرعيَّة بغية نيل مرضاتهم، فيقول: “واعلم أنَّه لمَّا غلبت الأهواء على النفوس، وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجَّة البيضاء، وجنحوا إلى التأويلات البعيدة ليمشُّوا أغراض الملوك فيما لهم فيه من هوى نفس، ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعيٍّ مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك ويفتي به. وقد رأينا منهم جماعة على هذا من قضاتهم وفقائهم”[69].

 

لا ريب، في رأيي، بأن ابن عربي قد أسَّس لوظيفة الإمام السياسيِّ على وظيفته الدينيَّة، (السياسة على الأخلاق/الدين)، وذلك لجوهريَّة مفهوم الخلافة والاستخلاف وعمارة الأرض، وهو بذلك لم يفصل بينهما فصلاً تامَّاً، بل كان تارة يفصل وتارة أخرى يجمع. فالخليفة بالمعنى السياسيِّ المرتكز على الدينيِّ يتجلَّى في قوله: “لما نظروا إلى عدل هذا الخليفة في ملكه واستقامة طريقته في هباته وأحكامه وقضاياه سمُّوه مركز دائرة الكون لوجود العدل به”[70].

 

لقد بات معلوماً أنَّ الإنسان الكامل هو المخلوق على صورة الرحمن، وهو النسخة الكاملة والمدينة الفاضلة، وهو اختار اسم “المدينة الفاضلة” لأنَّ اللَّفظ الأول منها يتضمَّن إشارة إلى تمامه وجمعيَّته (الإنسان)، واللَّفظ الثاني منها يتضمَّن إشارة إلى شرفه على بقيَّة المخلوقات[71]. هذا الكامل/المدينة الفاضلة من أهمِّ صفاته العدل والإنصاف. فيعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويكون هو النواة لإصلاح المدينة والمجتمع ككلٍّ من خلال فلسفة سياسة أخلاقيَّة. فالسياسيُّ الأخلاقيُّ هنا هو ذلك الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها[72] والخليفة في الأساس ينبغي له التخلُّق “بأسماء من استخلفه حتى يظهر ذلك في أخلاق رعيَّته وفي أفعالهم”[73].

 

ومن خلال مقارنة ابن عربي بين الإمامة والخلافة نجد أنَّ الخلافة مرتبطة بمفهوم العبوديَّة لأنَّ الخليفة لا بدَّ من أن يذكر أنَّه مُستخلَف من قبل الحقِّ في خلافة الحقِّ بالصفات الإلهيَّة على الأرض، أمَّا الإمام فليس له هذه القوَّة التذكيريَّة[74].

أمَّا أشكال ظهور الخلافة على الأرض عنده فهي: الولاية، النبوَّة، الإمامة، الأمر، الملك[75]. وفي شكل الخلافة نلمح وحدة الخليفة الظاهر والخليفة الباطن أو السياسيِّ والدينيِّ، حين يقول: إنَّها “مرتبة تحوز الملك الظاهر والباطن، فإذا تقاصر الخليفة الحقُّ، أي المستخلف من الله عن الظهور بها في الخلق، احتجب بشخص خليفة الظاهر وأمدَّه بالحكم والتصرُّف”[76].

وفي فقرة أخرى يتحدَّث ابن عربي عن اسم من أسماء الإمام، وهو ما يطلق عليه بـ”قطب الوقت”، فيظهر أنه من الممكن أن تجتمع فيه الإمامتان السياسيَّة والدينيَّة، ويقول: “فقد يكون قطب الوقت هو الإمام نفسه كأبي بكر وغيره في وقته، وقد لا يكون قطب الوقت فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يظهر إلاَّ بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نوَّاب القطب في الباطن من حيث لا يشعر، فالجور والعدل يقعان في أئمَّة الظاهر ولا يكون القطب إلاَّ عدلاً.. ” وهذا القطب خيَّره الله تعالى إمَّا الظهور بالسيف فكان خليفة بالظاهر.. و”لهذا الإمام نائب وهو الخليفة ومن الممكن أن يعدل أو يجور.. وقد يكون عادلاً بحسب ما وفقه الله تعالى لذلك..”.[77]

إذا اشتغل السلطان بغير رعيَّته وما يحتاجون إليه فقد عزلته المرتبة بهذا الفعل. ولا فرق بينه وبين العامَّة[78].

وفي نصيحة للحاكم السياسيِّ يقول فيها: “يا أيُّها السيد الكريم تحبَّب إلى رعيَّتك وأجزل لهم العطايا كلِّ صنف ما يصلح به ذلك بأن تمنعهم من المحارم، وتُجزل لهم مواهب الطاعات على قدر الاستطاعات، وتذكَّر قول من استخلف يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقوله إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك”[79].

 

إلى ذلك، تشير الحكيم إلى نصٍّ آخر تقول إنَّه غريب على ابن عربي، وفيه أنه “يقسم المهدي المال بالسويَّة، ويعدل بالرعيَّة، ويفصل في القضيَّة، يأتيه الرجل فيقول له: يا مهدي اعطني، وبين يديه المال فيحثُّ له في ثوبه ما استطاع أن يحمله”. وتعتبر أنَّ الغرابة تتجلَّى في سببين: الأول إنَّ إمداد الأولياء عنده هو علميٌّ – روحانيٌّ، الثاني: أنَّ القرن 6 هـ بعيد عن رؤية المال أحد مقوِّمات الكمال في شخص الإمام أو الولي[80].

بيد أنَّ هذا النص الذي وجدته د. سعاد غريباً أجده دليلاً على أنَّ ابن عربي لم يفصل فصلاً تامَّاً بين الإمام الدينيِّ والإمام السياسيِّ… بل إنَّه يفصح، بشكل غير واضح، عن الدور المدينيِّ الحياتيِّ للإمام، وهي بنفسها تقول في فقرة أخرى[81] إنَّ المذاهب والفرق تمزِّق وحدة المسلمين، وبالتالي تضعف قوَّتهم، لذلك فإنَّ دور المهديِّ هو في إزالة التمزُّق الحاصل في صفوف المسلمين، وبرفع التمزُّق تحصل القوَّة التي يستتبعها الغنى والعلم.. “. وفي هذا اعتراف ما بتداخل الوظائف للمهديِّ أو للإمام.. الدينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.

ونلمح في نصٍّ لابن عربي يعود فيه إلى رأي الحكماء أهميَّة التأكيد على الدور الوظيفيِّ للإمام الدينيِّ والسياسيِّ، فيقول: “لا يخلو الإمام أن يكون واحداً من أربعة بالجود ظهر الوجود ودام”. فالملوك أربعة لا خامس لها، ولا يخلو ملك من إحدى هذه الأوصاف: ملك سخيٌّ على نفسه، سخيٌّ على رعيَّته، وهو صاحب علم وعمل، وملكٌ لئيمٌ على نفس، لئيمٌ على رعيَّته، لا صاحب علم ولا عمل، ملكٌ لئيمٌ على نفسه سخيٌّ على رعيَّته، صاحب عمل لا علم، ملكٌ لئيمٌ على نفسه، سخيٌّ على رعيَّته، صاحب علم لا عمل. فظاهر الخليفة عمل وباطنه علم. وأفضل تلك الخصال هي صاحب علم وعمل، وهو الذي وصل للمقام المحمديّْ[82].

وفي وصيَّة كتبها للملك السلجوقي كيكاوس[83] أطلق عليها: وصيَّة دينيَّة ونصيحة سياسيَّة”، ما يدلُّ على تزاوجهما وتداخلهما، حيث شمل الدينيَّ والسياسيَّ، الأولى وصيَّة والثانية نصيحة.

 

 

خلاصة:

 

نستخلص ممَّا تقدَّم أنَّ تتبُّعنا لمؤلَّفات الصوفيَّة ومنهجهم في الحياة يُبرز الربط بين السيرة الصوفيَّة وبين الأخلاق المثاليَّة كسلوك اجتماعيٍّ، والتي تدعو من خلالها إلى بناء مجتمع مثاليٍّ فاضل، علاوة على أنَّ التجربة الروحيَّة الصوفيَّة تستند إلى مقوِّمات أخلاقيَّة واضحة والتي تطلب السعادة في غايتها للمجتمع بأفراده. على عكس ما ذهب إليه بعض الباحثين من أنَّ موقف أغلب الصوفيَّة، ومن بينهم ابن عربي، كان سلبيَّاً تجاه فساد وظلم الحكَّام والأمراء.

وقد لاحظنا أنَّه من الضروريِّ الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخيَّة التي عاشها ابن عربي ومن عاصر من الملوك والولاة، وأنَّ ما في أمرهم من صلاح جعله يتَّخذ من تصريحاته الكثيرة فتوى عدم الخروج عن الولاة، أو يظهر  وكأنه يقول بالفصل بين الإمام الدينيِّ والإمام السياسيِّ في دور كلٍّ منهما في المجتمع. لكن وكما لاحظنا في هذا البحث، من خلال الفقرات والاقتباسات حول نصائحه للولاة والأمراء والملوك والتي كانت نصائح دينيَّة ووصايا سياسيَّة، أنَّه لا يفصل فصلاً مطلقاً، بل إن الإمامين على المستوى الوظيفيِّ هما واحد، في أغلب الأحيان، وعليه يقع واجب إقامة العدل وإنهاء الظلم وتحكيم شريعة الله.

كما استشفَّينا من خلال تتبُّع بعض مؤلَّفات ابن عربي ككتاب التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة، على سبيل المثال، أنَّه يتحدَّث فيه عن المدينة وشروط سياستها المدنيَّة، وصفات إمامها العادل ووزيرها وكلِّ مسؤوليها، وصولاً إلى الرعيَّة وعلاقة الإمام بالرعيَّة. وهو بدعوته للتخلُّق بالأخلاق الإلهيَّة في جانبيها النظريِّ والعمليِّ يدلُّ على ما يمكن أن نطلق عليه سياسة “التخلُّق بالأخلاق الإلهيَّة” (التي تبنَّاها ابن عربي) في مقابل “سياسة السياسة” البعيدة عن الأخلاق والمرتبطة بالمصالح الشخصيَّة والأهواء الدنيويَّة. فهو بتخلُّق السياسة يدعو بدوره إلى المدنيَّة مفتاح العدل، والتسامح، وقبول الآخر، والحياة الكريمة لكلِّ أفراد المجتمع. ولأنَّ مدنيَّة مجتمع ما أول ما تُقاس به هو “الحريَّة” ومدى تحقُّقها في أفراد مجتمع تلك الدولة، فإنَّنا نلمح تلك المدنيَّة في قوله بالتحرُّر من عبوديَّة الأغيار. فلقد كان ابن عربي من المفكِّرين الداعين إلى التحرُّر من تبعيَّة أيِّ إنسان، أو أيِّ مؤسَّسة اجتماعيَّة أو حزب سياسيٍّ أو حاكم مستبد، خصوصاً إذا ما كانت هذه الأغيار تصطدم مع حريَّة الفرد وتمنع حقوقه كفرد في مجتمع، علاوة على أنَّه حقٌّ إلهيٌّ حين كرم الله تعالى الإنسان، فهو حرٌّ تجاه الكون، والعبوديَّة وحدها لله تعالى.

أخيراً، نجد أنَّ الوليَّ أو الحاكم السياسيَّ بمرتبته الدينيَّة الكماليَّة التي عليه أن يصل إليها، وبوظيفته في بناء المجتمع الدينيِّ، إنَّما هو النموذج المثال لتطبيق هذا الكمال على الأرض والملهم لبقيَّة أفراد المجتمع كي يمشوا على نهجه، ويحقِّقوا مجتمعاً مدنيَّاً مؤمناً، مجتمع العدل والحقِّ، الذي أراده الله سبحانه وتعالى في خلافة الإنسان الأرض وعمارتها بما أمر به في شريعته.

وختاماً، لا أدَّعي أنَّ هذا البحث كامل، وأنَّه أحاط بكلِّ جوانبه، إنَّما هو بداية مشروع لأبحاث عدَّة تحتاج جهداً وبحثاً دؤوبين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]– ولذلك خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: “نحن أحقُّ وأولى بموسى منكم”. وقال في عيسى عليه السلام: “أنا أولى بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة”. صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام.

[2]– راجع: محمود شريف بسيوني، الوثائق الدوليَّة المعنيَّة بحقوق الإنسان، المجلَّد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003. وقد نشرت هذه الوثيقة بتصريح من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول شيكاغو.

[3]– استعرنا هذا المصطلح من عبد السلام الغرميني الذي ورد في كتابه الصوفي والآخر.

[4]– كما عبر روزنتال عن أنَّ معرفة ابن عربي بعلم السياسة مسألة مسلَّم بها، كونها فرعاً من فروع الفلسفة، وأنَّه “أجاز البحث فيها، كونه نتاج تأمُّل فكريٍّ عقلانيّْ. بيد أنَّه، وبطبيعة الحال، أدنى من قانون الوحي الدينيِّ المُنزَل”.

  1. Rosenthal, “Ibn ‘Arabi between Philosophy and Mysticism, Oriens, Volume 31,p. 27, Leiden, Brill, 1988, pp 1- 35.

[5]– عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر، الفصل الخامس: بين التصوُّف والسياسة، ص 159.

[6]المرجع السابق، ص 161. وسنرى بعد قليل تلك النصائح التي وصفها الغرميني بأنَّها غاية اللُّطف واللَّباقة، بأنَّ الكثير منها كان حازماً شديد اللَّهجة لا يتوانى عن التذكير بشرع الله والتعاليم الإسلاميَّة.

[7]السابق، ص 181. وقول ابن خلدون المقتبس منقول من المرجع السابق، ص156.

[8]– توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق الصوفيَّة عند ابن العربي، ضمن الكتاب التذكاري، أشرف عليه إبراهيم بيومي مدكور، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1969، ص ص 155-180. ص 172.

[9]– محمد يوسف موسى، فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلتها بالفلسفة الإغريقيَّة، القاهرة: مؤسَّسة الخانجي، ط 1، 1963، ص 311-312، ص 283. وكذلك انتهى الطويل بقوله إنَّ سقوط قيمة الإلزام الأخلاقي وارتفاع المسؤوليَّة بسبب زوال ركنيها الأساسيين العقل وحريَّة الاختيار. الطويل، في بحثه فلسفة الأخلاق الصوفيَّة عند ابن العربي، سبق ذكره، ص 169. وفي ص 273 ينفي محمد يوسف موسى أن تكون “رسالة في الأخلاق” التي نشرها محيي الدين صبري الكردي لابن العربي بل ينسبها إلى يحيى بن عدي. بينما انظر مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، 1965، ص 11 حيث ذكر ابن عربي أنه كتب رسالة في الأخلاق سنة 591 لأحد من إخوانه كان قد فصّل الكلام في الأخلاق. وعلى العموم قد تكون الرسالة التي تكلم عليها ابن عربي ليست هي ذاتها التي وصلت لنا. وقد نسب سمير خليل كتاب “تهذيب الأخلاق” تحقيق عبد الرحمن حسن محمود على أنَّه لابن عربي إلى يحيى بن عدي. راجع مقالتيه:

  1. Khalil, Le Tahthib Al-Akhlaq, Arabica, XXI, 1974, pp 111-138.
  2. Khalil, Le Tahthib Al-Akhlaq, Arabica, XXVI, 1977, pp. 158-178.

[10]– كما عند أحمد محمود صبحي، الفلسفة الأخلاقيَّة في الفكر الإسلامي، القاهرة: دار المعارف بمصر، د.ت.ن، ص215، طبعاً هو انطلق من رأيه بأن ابن عربي لم يأت بميتافيزيقا الأخلاق. وسنرى في الفقرة الأخيرة “الإمام الديني والإمام السياسي” بطلان هذه النظريَّة.

[11]– الهجويري، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الهادي قنديل، راجع الترجمة أمين عبد المجيد بدوي، بيروت: دار النهضة العربيَّة، 1980، ص 237.

[12]الهجويري، المصدر السابق، ص237. فالحريَّة أن يتحرَّر من قيد الهوى، والفتوَّة أن يتجرَّد من رؤية الفتوَّة وترك التكلُّف أن لا يجتهد في المتعلِّقات والنصيب والسخاء أن يترك الدنيا لأهل الدنيا. المصدر نفسه، ص 239.

[13]المصدر السابق، المعطيات نفسها.

[14]– عبد الكريم بن هوزان القشيري، الرسالة، جزءان، شرح: أبو يحيى زكريا الأنصاري، تحقيق: عبد الجليل العطا، دمشق: دار النعمان، ط 1، 2000، ج 2، ص 494.

[15]المصدر السابق، ج 2، ص 501.

[16]السيد محمد بدوي، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع ، الإسكندريَّة: دار المعارف، 1980، ص ص83 – 85.

[17]الفتوحات المكيَّة، صادر، ج 3، ص 8. وقد شهد ابن تيميَّة لابن عربي شهادة كبيرة على سلامة مذهبه في الأخلاق والعبادات والأوامر والنواهي، يقول: “وابن العربي أقربهم إلى الإسلام وأحسن كلاماً في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقرُّ الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات”. ابن تيميَّة، مجموعة الرسائل والمسائل، فصل خامس، ج 1، ص 176. ويضيف: “وإنما كنت قديماً ممَّن يحسن الظنَّ بابن العربي ويعظِّمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكُنْه، والمحكم المربوط، والدرِّ الفاخرة، ومطالع النجوم ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطَّلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه”، ص 171.

[18]الفتوحات المكية، طبعة صادر، الجزء  2، ص 128.

19-الفتوحات، الباب  146، ج 2 ، ص 232.

[20]– أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 القاهرة: مطبعة الاستقامة، د.ت.ن، ص 138.

[21]– يمكن الرجوع إلى بحثنا “رابعة العدويَّة وست عجم بنت النفيس مثالان للفتوة النسويَّة” للوقوف على بعض إشارات الفتوة عند ابن عربي، ضمن أعمال الملتقى الدولي للتصوُّف، الجزائر: CNRPAH ديسمبر، 2008، ص ص 385- 404.

[22]نجد هذه الإشارة عند ابن العربي في شرح رسالة القدس في محاسبة النفس، جمع محمود الغراب، دمشق: مطبعة نضر، 1985، ص 11.

* مالك بن أنس، الموطأ، ج 2، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1985، كتاب حُسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، حديث رقم 8، ص 904.

* هو طرف من حديث، ورد في صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، في صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل، رقم 746. وفي سنن أبي داوود، لسليمان بن الأشعث أبي داوود السجستاني الأزدي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر، في الصلاة: باب في صلاة الليل، رقم 1342.

[23]– Affifi, The Mystical Philosophy of Muhyi d-Din-Ibnul-Arabi, Cambridge: Cambridge University Press, 1939, p. 153.

وينتهي إلى أنَّ ابن عربي لا يقدِّم منظومة أخلاقيَّة، إذ هو يرفض هذا الجانب تماماً كما يرفض وجود أيِّ بناء أو منهجيَّة في فكر ابن العربي.

“Ibnul ‘Arabi’s theory has a great deal of what is known in Ethics as Scientific Determinism” p.155.

[24]– “الكتابة من خلال التضاد: تجلِّيات الحريَّة في غياباتها عند ابن العربي”، ضمن أعمال ندوة Ibn Arabi and Modern Era

published by: Kultur A. S. April 2010, p p. 156-157. Istanbul, May, 2008,

[25]الفتوحات، ط صادر، ج 2، ص 518.

[26]الفتوحات، ج 2، ص 226.

[27]المصدر السابق، ج 4، ص 213.

[28]– تكملة الاقتباس: “…ولا يذل إلى الله من لا يعرفه، فلا بدَّ من المعرفة به أولاً… فالعبد مع الحقِّ في حال عبوديَّته كالظلِّ مع الشخص في مقابلة السراج كلَّما قرب من السراج عظُم الظلُّ، ولا قرب من الله إلاَّ بما هو لك وصف أخص لا له، وكلما بعُد من السراج صغُر الظلُّ فإنَّه ما يبعدك عن الحق إلاَّ خروجك عن صفتك التي تستحقُّها وطمعك في صفته”. الفتوحات، ط صادر، ج 2، ص 214.

[29]المصباحي، ص ص 156- 158. وينطلق المصباحي من ثلاثة براهين تجعل من مذهب ابن عربي من أوائل المذاهب الداعية للحريَّة وذلك إذا ما أخذنا في عين الاعتبار تلك البراهين: 1. قيام فكر ابن عربي على مبدأ التقلُّب والتحوُّل الذي يستدعي قولنا إن ذلك الفكر هو فكر منفتح على مغامرات الحريَّة في مختلف أشكالها. 2. قيامه أيضاً على مبدأ الإمكان بوصفه البيئة المناسبة لانبثاق الحريَّة بالمعنى الحقِّ للكلمة. 3. قيامه كذلك بإعطاء الأسبقيَّة للخيال على العقل. راجع المرجع السابق، المعطيات السابقة.

[30]الفتوحات، ج 2، ص 691.

[31]الفتوحات، ج 1، ص 552.

[32]المصدر السابق، ج 2، ص 617.

[33]السابق، ج 1، ص ص 576 – 577 وصل في الفصل بين العبوديَّة والحريَّة. تماماً كما عبَّر الطوسي في اللمع، حيث يقول: إنَّ هناك فرقة ضالَّة ظنَّت “أن اسم الحريَّة أتمُّ من اسم العبوديَّة للمتعارف بين الخلق أنَّ الأحرار أعلى مرتبة وأسنى درجة في أحوال الدنيا من العبيد، فقاست على ذلك فضلَّت وتوهَّمت أنَّ العبد ما دام بينه وبين الله تعالى تعبد فهو مسمَّى باسم العبوديَّة”. أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي (ت: 378هـ)، اللمع في التصوُّف، تصحيح وعناية: نيكلسون، ليدن: بريل، 1914، ص 420. وانظر كذلك أبيات الشعر حول هذه المسألة في فصل مقام ترك الحريَّة، الفتوحات، ج 2، ص 226.

[34]المصدر السابق، ج 4، ص 308.

 [35]- السابق، ج 2،  ص ص 226-227.

[36] – والحديث من المصدر كاملاً، حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا الأوزاعي قال: حدَّثني يحيى بن أبي كثير قال: حدَّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: حدَّثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشراً أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله فشددت فشدد علي. قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزد عليه. قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام قال: نصف الدهر فكان عبد الله يقول بعد ما كبر يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري، كتاب الصوم. باب حق الجسم في الصوم. 

[37]الفتوحات، ج 2، ص 228.

[38]– ابن عربي، رسالة لا يعول عليها، ضمن رسائل ابن عربي، تقديم محمود محمود الغراب، بيروت: دار صادر، ط 1، 1997، ص 253.

[39]الفتوحات، ج 2، ص 424.

[40]السابق، ج 2، ص ص 424-425.

[41]الفتوحات، ج 4، ص 374 .

[42]محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، ج 2، بيروت:  دار صادر، من دون تاريخ نشر، ص ص 51-52 . عند المقارنة بين سر الأسرار والتدبيرات الإلهيَّة “اعتباراً من الباب 5 يمكن رؤية آثار سر الأسرار في التدبيرات بشكل واضح. أمَّا قبل الخامس فإن ابن عربي يسرد لنا معلومات تتعلَّق بخلق الإنسان وبوجود الخليفة الذي يحكم الأجساد وبآراء المتصوَّفين به والتعابير المتعلِّقة بهذه الآراء وبالآراء المختلفة للعلماء حول ماهيَّة وحقيقة الروح وبكيفيَّة نشوء مدينة الأجساد التي يملكها الخليفة والتفاصيل المتعلِّقة به وبالأسباب التي أدَّت إلى اندلاع الحرب بين العقل والشهوة. راجع: زليخة أوتلش، “سر الأسرار والتدبيرات الإلهيَّة في علاقة الفلسفة بالتصوُّف”، مجلَّة التراث العربي، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، العدد 116، كانون الأول 2009، السنة 29، ص ص  184-  194، ص 190.

[43]– ابن عربي، التدبيرات الإلهيَّة (مع كتاب إنشاء الدوائر)، ليدن، بريل،1912 ، ص 120. والجملتان الأخيرتان من الفتوحات، ج 1، ص 266. وتقول أوتلش إنه “وعند مقارنة التدبيرات مع سر الأسرار نرى أنَّ رسالة السياسة في كلا النتاجين تعبِّر عن نطاق محدَّد جدَّاً. يتحدَّث سر الأسرار عن الدولة المثاليَّة، وعن الغاية من إيجاد هذه الدولة من دون إهمال الفضائل الأخلاقيَّة، ولا يتحدَّث عن أي نظام حكم سوى الحكم الملكيِّ المطلق”. النتاجان يتشابهان في الهواجس والتطلُّعات السياسيَّة، ويختلفان في وظائف الإدارة لكلِّ سياسة فيها. مرجع سبق ذكره، ص ص 192- 193.

[44]– زليخة أوتلش، سبق ذكره، ص 189. وتقسم أوتلش الكتاب إلى “المقدِّمة عن خلق الإنسان ومكانته في الدنيا، ويسوِّق لنا في القسم الأول والثاني أفكاراً مختلفة عن الروح. وفي 3 – 6 عن النظام الموجود في المملكة الإنسانيَّة. أمَّا 4 فيتألف من 4 أقسام فرعية تتحدث عن الأسرار الإلهيَّة التي منحت للإنسان والقوى التي تولِّدها الأفلاك لدى الإنسان وحواس الأحجار والنور، ويتضمَّن الباب الأخير وصايا للمريدين”، ص 189.

[45]التدبيرات الإلهية، ص ص 131-132.

[46]المصدر السابق، ص 134. فالمملكة الإنسانيَّة تتكوَّن من “الخليفة والوزير والقاضي والكاتب وقابض خراج وجبايات وأعوان. إلى أمثال هذا مما يليق بحضرة الخلافة التي هي محلُّ الإرث وفي الأنبياء انتشرت رايتها، ولاحت علامتها، وأذعن الكلُّ لسلطانها، ثم خفيت بعد الأنبياء”. المصدر السابق، ص 111. وعن صفات القطب راجع ص 112. ويتوسَّع ابن عربي في صفات القطب في كتابه المنزل القطب ومقاله وحاله، ضمن رسائله.

[47]التدبيرات الإلهيَّة، ص 152.

[48]السابق، ص 146.

[49]الفتوحات، ج 4، ص 460.

 50- التدبيرات، ص ص 156- 157. يرجع ابن عربي العدل إلى أصله اللغويِّ (كحال أغلب مصطلحاته) فيعرِّفه بأنَّه الميل. يُقال: “عدل عن الطريق إذا مال عنه، وعدل إليه إذا مال إليه. وسمِّي الميل إلى الحقِّ عدلاً كما سمِّي الميل عن الحقِّ جورا بمعنى أنَّ الله خلق الخلق بالعدل، أي أنَّ الذات لها استحقاق من حيث هويَّتها، ولها استحقاق من حيث مرتبتها، وهي الألوهيَّة، فلمَّا كان الميل ممَّا تستحقُّه الذات لما تستحقُّه الألوهيَّة التي تطلب المظاهر لذاتها سمِّي ذلك عدلاً أي ميلاً من استحقاق ذاتيٍّ إلى استحقاق إلهيٍّ لطلب المألوه ذلك الذي يستحقُّه، ومن أعطى المستحقَّ ما يستحقُّه سمِّي عادلاً، وعطاؤه عدلاً، فما خلق الله الخلق إلاَّ بالحقِّ، وهو إعطاؤه خلقه ما يستحقُّونه…”. الفتوحات، ج 2، ص 60.

[51]الفتوحات المكيَّة، ج 4، ص 540.

[52]التدبيرات الإلهيَّة، ص ص 185-186. الإمام عند ابن عربي هو الوليُّ نفسه، وهو يأخذ الإمامة بمعناها الشامل المطلق أي/ التقدُّم والتولية والتصرُّف. فهي مرتبة أو وظيفة وليست شخصاً معيَّناً. ومن الحديث الشريف كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته”، نفهم أنَّها تشمل جميع الناس، كلٍّ حسب مكانه في المجتمع. سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، دندرة، ط 1، 1981، ص 102.

[53]الفتوحات، ج 1، ص 582.

[54]الفتوحات، ج 4، ص 6.

[55]الفتوحات، ج 3، ص 472. راجع كذلك مختصر الدرَّة الفاخرة، تحقيق: محمد أديب الجادر، عمان: دار الفتح، ط 1، 2006، ص 11. انظر كذلك نصيحته في اتخاذ اللين والمشورة كمنهج له في التدبيرات الإلهيَّة، ص 150.

[56]التراجم، ضمن الرسائل، باب ترجمة السيادة، ص 292.

[57]الفتوحات، ج 3، ص 472. وانظر كذلك نصائحه للوالي في الفتوحات، ج 4، ص 499 + ص 533. وانظر نصيحته لصاحب حلب الظاهر غازي ابن الملك الناصر لدين الله صلاح الدين بن أيوب في العدل. الفتوحات، ج 4، ص ص 539-540.

[58]الفتوحات، ج 4، ص 476.

[59]المصدر السابق، ج 4، ص 6.

[60]– راجع محاضرة الأبرار، ج 2، ص 284.

[61]الفتوحات، ج 4، ص 540.

[62]المصدر السابق، ج 4، ص 547.

[63]المصدر السابق، ج 3، ص 138. ويقول إنَّ الوالي والإمام هو المنصوب للولاية، وإنما سمِّي والياً لأنَّه يوالي الأمر من غير إهمال لأمر ما ممَّا له عليه ولاية، وإن لم يفعل فليس بوالٍ وإنما هو حاكم هوى… فإنَّ الوالي على الحقيقة هو الله، والمنصوب للولاية بحكم الله يحكم، وبما أراه الله وهو الحق…”. ج 4، ص 305. نستشفُّ هنا جبريَّة لا شورى ولا بيعة بل وفصل بين الدينيِّ والسياسيِّ.

[64]الفتوحات، ج 3، ص 139.

[65] المصدر السابق، ج 4، ص 484.

 [66]المعجم الصوفي، سبق ذكره، ص 104.

[67]– ويضيف “كان من الممكن أن ينكشف ضرر هذا المسلك لو أنَّه حدثت عودة إلى دولة الخلافة، لكنَّ الذى حصل أنَّه جاءت الدولة العباسيَّة بعد الدولة الأمويَّة، فوقع فى نفوس الناس يأس من أن يحقِّق الإسلام بمفهومه الكامل مائة بالمائة، فاكتفوا بتحقيق الناحية الفرعيَّة فى فقهه، والناحية العباديَّة الفرديَّة، وتأثَّرت السياسة الإسلاميَّة تأثُّراً واضحاً، وانهزمت الشورى انهزاماً واضحاً، ووقع للأمَّة ما وقع. ولكن لاشكَّ في أنَّ الإسلام فى جملته بقي… وأن الملوك الذين تبنُّوا الإسلام، تبنُّوا منه المجموع من المعارف التى لا تصطدم بوجودهم، ولا بأحوالهم الاقتصاديَّة التى تحيط بهم أو يشكُّلونها لحراسة سلطتهم… ومن خرج على هذا الخط، إمَّا تصوُّف وابتعد، أي انسحب من الميدان بالتصوُّف، وإمَّا عاش يتحمَّل شيئاً من الأذى …”. محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص ص 58-  60.

نسخة:  pdf على الموقع:

www.al-mostafa.com

[68]الفتوحات، ج 4، ص 490.

[69]المصدر السابق، ج 3، الباب 318، ص 69-70. وانظر في المصدر نفسه الحادثة التي أخبرها الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لابن عربي عن أحد هؤلاء الفقهاء وفتواه الباطلة.

[70]التدبيرات الإلهيَّة، ص 128.

[71]المعجم الصوفي، سبق ذكره، ص 1018. وهنا كان تميُّز مدينة ابن عربي الفاضلة عن مثيلتها عند الفلاسفة، “فالفلاسفة (كالفارابي) اختاروا مدينة أفلاطون وأرسطو وحدة الإصلاح المرجوَّة في فلسفة سياسيَّة. عند ابن عربي الفرد هو نواة الإصلاح ووحدته في فلسفة اجتماعيَّة إنسانيَّة، ومن إصلاح الفرد ينتشر إصلاح المجموع. فالإنسان هو المدينة الفاضلة، والإصلاح لن يكون إلاَّ على مستوى الفرد وانطلاقاً منه”. المرجع السابق، ص 1018.

[72]التدبيرات، ص 150.

[73]المصدر السابق، ص 145. فإذا كان العبد “نائباً وخليفة عن الحقِّ أو خليفة عن عبد مثله، فلا بدَّ من أن يخلع عليه من استخلفه من صفاته ما تطلبه مرتبة الخلافة، لأنَّه إن لم يظهر بصورة من استخلفه  فلا يتمشَّى له حكم في أمثاله، وليس ظهوره بصورة من استخلفه سوى ما تعطيه مرتبة السيادة، فأعطته رتبة العبودة ورتبة الخلافة أحكاما لا يمكن أن يصرفها إلاَّ في سيده والذي استخلفه، كما أنَّ له أحكاماً لا يصرفها إلاَّ فيمن استخلف عليه. والخلافة صغرى وكبرى، فأكبرها التي لا أكبر منها الإمامة الكبرى على العالم، وأصغرها خلافته على نفسه، وما بينهما يطلق عليها صغرى بالنسبة إلى ما فوقها، وهي بعينها كبرى بالنظر إلى ما تحتها…” المصدر السابق، ج 3، ص 408.

[74]السابق، ج 3، ص 410.

[75]– ولمعرفة الفرق بينهم جميعاً، راجع المعجم الصوفي ص ص 413-416. وتبيَّن الحكيم أنَّ الولاية مرتبة من مراتب القرب الإلهيِّ، يتولَّى فيها الحق، من حيث أسمائه الحسنى، التي هي أرباب العبد. وهذه النسبة الخاصة للحقِّ لا تُكتسب اكتساباً إنسانيَّاً مطلقاً، وإنما هي تعيين إلهيّْ. بل إنَّ اليد الإنسانيَّة تتدخَّل هنا في الجهد الإنسانيِّ الذي يستعدُّ وينتظر صدور هذه المنة الإلهيَّة. ومن هنا قد يُفهم أنَّ الوليَّ بمعنى الحاكم السياسيِّ إنَّما هو مختصُّ من الحقِّ وحده وبتعيين إلهيّْ. أعتقد أنَّ د. الحكيم لم تتطرَّق إلى هذا المفهوم لأنَّها تنفي بالأصل أن يكون ابن عربي قد تطرَّق إلى هذا المعنى من مفهوم الوليِّ والولاية. راجع، المعجم، مادة ولي، ولاية، ص ص 1234- 1235.

[76]المعجم الصوفي، ص 416.

[77]الفتوحات، ج 3، ص 137. وانظر في الفصوص حين يفرق بين مهام الخليفة والرسول، فيقول إنَّ دور الرسول هو التبليغ، وإنَّ الخليفة هو صاحب السيف والعزل والولاية، فإذا ما اتَّخذ الرسول السيف لتبليغ رسالته وحمايتها فعندئذٍ صار اسمه الخليفة الرسول. فما كلُّ رسول خليفة. فصوص الحكم، تعليق وشرح أبو العلا عفيفي، بيروت: دار صادر، ج 1، ص 207.

[78]الفتوحات، ج 3، ص 336، وبقيَّة الاقتباس السابق يستشهد ابن عربي بقصة حدثت مع الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث كان مثالاً لتفانيه في قضاء حاجات الناس، وجعل هذه المسألة ضمن أولويَّاته كخليفة للمسلمين، يقول: “ولمَّا أراد عمر بن عبد العزيز يوم وُلِّي الخلافة أن يقيل راحة لنفسه لما تعب من شغله بقضاء حوائج الناس، دخل عليه ابنه فقال يا أمير المؤمنين أنت تستريح وأصحاب الحاجات على الباب من أراد الراحة لا يلي أمور الناس، فبكى عمر وقال: الحمد لله الذي أخرج من ظهري من ينبِّهني ويدعوني إلى الحقِّ ويعينني عليه. فترك الراحة وخرج إلى الناس”.

ويقول: “فكل سلطان لا ينظر في أحوال رعيَّته ولا يمشي بالعدل فيهم ولا يعاملهم بالإحسان الذي يليق بهم فقد عزل نفسه في نفس الأمر. ويقول الفقهاء إنَّ الحاكم إذا فسق أو جار فقد انعزل شرعاً، ولكن عندنا انعزل شرعاً فيما فسق فيه خاصة [هنا يذكر أنَّ العزل ليس عزلاً تامَّاً بل هو عزل بمسألة خاصة متعلِّقة بحالة فسق أو ظلم أو جور]،… فمن لم يف لمن بايعه بما بايعه عليه فقد عزل نفسه وليس بملك. وإن كان حاكما فما كلُّ حاكم يكون سلطاناً، فإنَّ السلطان من تكون الحجَّة لا عليه…” الفتوحات، ج1 ، ص 296.

[79]التدبيرات، ص149.

[80]المعجم الصوفي، ص 1105.

[81]المرجع السابق، ص 1106. وفي كتاب خاتم الأولياء، النبوَّة والولاية في مذهب ابن عربي، نجدها أيضاً تصرِّح بأنَّ الوليَّ أو الحاكم تجتمع فيه الإمامة الدينيَّة والسياسيَّة، تقول إنَّ: “الولي الكامل هو الواصل إلى الحقِّ، الراجع إلى الخلق. إنَّ الولاية مسؤوليَّة: يرث الوليُّ هموم الناس، واقع أمَّة ومجتمع وبيئة؛ يقتلع وجدانه من أماكن القرب ويصبِّرها في أرض الوقت، ليكون وجهُه في كلِّ زمن شاهدًا على الكمال المتروك. الوليُّ قبضة تنوَّرتْ من أثر الرسول، وارتدَّتْ إلينا، …” وتشير إلى أن شودكيفتش هو من دخل إلى عمق مفهوم الوليِّ بعد أن كان مرتبطاً فقط بالكرامات وخرق العوائد: يحلِّل معناه، يبيِّن هوية الوليِّ ودوره في الكون، ويرتِّب عالم الروح والفعل. الحكيم، خاتم الأولياء، النبوَّة والولاية في مذهب ابن عربي، ص 5.

[82] التدبيرات الإلهية، ص 152-153. يقصد بالسخاء بذل الشيء عند الحاجة إليه من غير زيادة ولا نقصان، واللؤم منع الشيء مع الحاجة إليه فمن جاوز فقد أفرط ومن قصر فقد فرّط. انظر المصدر السابق، ص 154.

[83] وهذا الملك هو أكثر الملوك الذين اصطحبهم ابن عربي حيث مكث عنده عدة سنين وكانت الرسائل قائمة بينهما وإن افترقا، الفتوحات، ج 4، ص 547.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى