الدراسات والبحوث

أزمة الوعي الأوروبيِّ والنفسانيَّات الترنسندنتاليَّة (فينومينولوجيا فرانز برنتانو تطبيقًا)

خنجر حميَّة

أزمة الوعي الأوروبيِّ والنفسانيَّات الترنسندنتاليَّة (فينومينولوجيا فرانز برنتانو تطبيقًا)

خنجر حميَّة

تبحث هذه الدراسة في المعاثر الأنطولوجيّة التي وقع فيها الوعي الأوروبيّ في القرن التاسع عشر، ثمّ امتدّ إلى المراحل التالية من عصور الحداثة، ولأجل هذه الغاية يتناول البروفسور خنجر حميّة المنظومة الفينومينولوجيّة للفيلسوف الإيطاليّ فرانز برنتانو، ويشرح أبعادها النقديّة، ويسعى إلى تحليل عناصرها وخصوصًا لجهة مشروعه الداعي إلى إصلاح الفلسفة الغربيّة الحديثة التي انحدرت عن أهدافها السامية في تحقيق المعرفة النظريّة.

الجانب المهمّ في هذه الدراسة هو أنّها لم تكتفِ بنقد برنتانو للفلسفة، وإنّما ذهبت إلى بيان جواب أعمق في أزمة الوعي لدى النخب الغربيّة.

المحرِّر

إلى أيّ حدّ سيكون من المشروع أن نبدأ التاريخ للحركة الفينومينولوجيّة، بالفيلسوف الإيطالي فرانز برنتانو؟

من المؤكّد أنّ برنتانو نفسه لم يشأ أن يكون عالِمَ ظاهريّات، ولم يدَّع قطّ أنّه فينوميولوجيّ، بالرغم من أنّه عاش بما يكفي، ليرى انتشار حركة الفينومينولوجيا، حتى فيما بعد هوسرل. وبمقدار ما كان برنتانو على اطلاع كافٍ على تطوّر هوسرل الفكريّ في مفاصله الأساسيّة ومراحله، فإّن ردّة فعله، بالرغم من صداقته لهوسرل وحسن نيّته تجاهه، كانت صورة مبالغة من صور الحيرة والتردّد والقلق[2].

مع ذلك فإنّ مصطلح «فينومينولوجيّ» يرد في كتابات برنتانو، على سبيل المثال، كعنوان بديل لملاحظاته في درس علم النفس الوضعيّ، الذي كان ألقاه في جامعة فيينا (سنتي 1888- 1889)، لكن من الواضح أنّ ذلك لم يتحقّق إلّا خلال مرحلة لاحقة من تطوّره الفلسفيّ؛ لذلك يجب أن نبحث عن تبريرات أخرى -غير ورود المصطلح عند برنتانو- للحكم بأنّ الحركة الفينومينولوجيّة إنّما تبدأ به، تكون أكثر إقناعًا[3]. مثل تلك الأسباب يمكن أن نجدها ونعثر عليها في الاعترافات المتكرّرة وغير المحدّدة التي يقرّ فيها هوسرل بدينه الحاسم لبرنتانو فيما يتّصل بالظاهريّات.. لكن هوسرل اعترف كذلك بدينه لوليم جيمس مع أنّ أحدًا لم يدّع أنّه البداية الفعليّة للفينومينولوجيا كما سيتبيّن لاحقًا، كذلك فإنّ هوسرل لم ينسب فكرة الفينومينولوجيا إلى برنتانو، الرجل الذي أطلق عليه مرّات عديدة لقب «أستاذي الوحيد» و»المعلم في الفلسفة»، وبالتالي فإنّه يجب البحث عن سبب رئيسيّ وجيه يسمح لنا بافتراض ابتداء الفينومينولوجيا ببرنتانو، وأنّه هو الذي مهّد السبيل لظهور الفينومينولوجيا كعلم، وفي عناصر محدّدة من فلسفته، تخللت النسق العام لفينومينولوجيا هوسرل ومذاهب خلفائه.

ومن الواضح أن ذلك لا يتطلّب، أو يستوجب، شرحًا كاملًا لفلسفة برنتانو بالمقدار الذي تستحقّه في نفسها[4] وبدلًا من ذلك فإنّ ما اقترحه كبديل هو أوّلًا إعطاء فكرة عن الأهداف الأساسيّة والمبادئ التي تقوم عليها فلسفته، وثانيًا إظهار كيف أنّ الملامح البارزة والمميّزات التي تحفل بها هذه الفلسفة هي نتيجة لهذه العناصر والمبادئ الأساسيّة.

1- إصلاح الفلسفة علميًّا «الإصلاح العلميّ للفلسفة»

لقد ذكر طلاب برنتانو، حتى أولئك الأكثر استقلاليّة فكريّة، أنّ ما هو أكثر إثارة للإعجاب في شخصيّة برنتانو وتعليمه هو شعوره الدائم بأنّه ينهض بأعباء مهمّة جوهريّة[5]. لكن ما هي بالضبط هذه المهمّة كما تصوّرها هو نفسه؟

لم يتطوع برنتانو البتة بذكر مثل هذه المهمّة بشكل واضح ونسقيّ، لكن مع ذلك، فإنّ تصريحاته العرضيّة وأفعاله كانت تظهر أنّ المهمّة التي كان يتطلّع إلى القيام بها والإيفاء بجوهر حقيقتها هي «إحداث ثورة عالميّة»، أو إصلاح جذريّ للفلسفة من أجل خدمة البشريّة[6].

لكن مثل هذا الطموح لإصلاح الفلسفة كان له جانبان، واحد إيجابيّ وآخر سلبيّ؛ الجانب السلبيّ اقتضى من برنتانو تحرّرًا جذريًّا من المعتقدات التقليديّة لرجل في مثل شخصيّته وعمره، أمّا الجانب الإيجابيّ، فكان يعني له بذل جهد متواصل لاستعادة فلسفة – هي نتيجة الانشغال بالمسائل العلميّة، ونتيجة الروحانيّة الصراطيّة المتزمتّة، وكانت الأرثوذكسيّة قد انحدرت شيئًا فشيئًا عن هدفها السامي لتحقيق المعرفة النظريّة، فلسفة بقي هدفها النهائيّ، مع كلّ ذلك، أن تظلّ «حكمة»، حكمة -كما  اعتقد برنتانو بثقة- ستسفر عن إثبات المصدر الإلهيّ لكلّ الكائنات.

لكن هذه الفلسفة المتجدّدة بروح مراحلها الصاعدة، كما كانت عند الإغريق حتى أرسطو، وفي عصر توماس أكوينوس، وفي الفلسفة الحديثة من بيكون إلى لايبنز، يجب أن تتجنّب التطلّع إلى بناء المذاهب العظيمة والنسقيّة المتعارضة.

لقد كان برنتانو مستعدًّا لدفع ثمن هذا الإصلاح حتى في صورة معاناة شخصيّة وخيبة أمل مهنيّة، وهو شيء اضطر في الحقيقة، في نهاية الأمر، إلى تحمّله، لقد كان تحرّره الأكثر إيلامًا وإحباطًا هو تحرّره من إيمانه الدينيّ الأساسيّ؛ ذلك أنّه وُلد في عائلة كاثولوكيّة راقية استوطنت، بالرغم من اسمها الإيطاليّ، جنوب ألمانيا لقرون عديدة. وهو – عكس الجديّة الدينيّة التي عرفتها الفترة الرومانسيّة، لدرجة أنّه حاول جاهدًا طوال ثماني سنوات أن يجمع بين حياة الفيلسوف وحياة الكاهن – مع ذلك حاول في الدروس التي قدّمها كافتتاحيّة في محاضرات التأهيل في جامعة ويلزبورغ، أن يعلن استقلال الفلسفة التامّ عن علم اللاهوت.

لكن المناسبة التي هزّت لأوّل مرة نمط حياته وإيمانه كانت كفاحه الذي سبق إعلان عقيدة العصمة البابويّة «لا يعني اللاهوتيّ نفسه»، فقد أعدّ برنتانو موجزًا خاصًّا ضده، قدّمه الأسقف (كيتيلر)، أحد زعماء المعارضة غير الناضجة للعقيدة، إلى الأساقفة الألمان المجتمعين في فولدا[7].

إنّ الهزيمة في هذا الكفاح ضدّ الاستبداد المتطرّف للكنيسة، لم تدفع برنتانو إلى الاستسلام على غرار رعاته الكنسيّين، ولم ينضمّ إلى انفصال الكاثوليك القدامى تحت قيادة «إغنبارد دولنجر»، بل اندفع إلى حمل مشكلته الدينيّة بنفسه، محاولًا إزالة التناقضات بين الوحي الخارق للطبيعة والعقل، فرفض عقائد مثل الثالوث والتجسّد والعقاب الأبديّ -حتى أنّ بعض أعماله المنشورة بعد وفاته مثل: «vorn Dasein Goffs» أحد أكثر أعماله ضخامة والذي يحتوي على تطوير منهجيّ لدين فلسفيّ، لم يعلن عنه، مع ذلك، ولم يبشّر به- وهي عقائد وقناعات تشبه الكثير منها وجهات نظر لاهوتيّي القرن الثامن عشر، على الرغم من أنّ برنتانو بقي يؤمن بالعناية الإلهيّة مع أنّ ذلك لم يكن عقلانيًّا. ويمكن العثور على أحد أفضل التعبيرات عن موقفه العامّ في ما يتّصل بالإيمان في رسالة إلى تلميذه وصديقه كارل ستامبف تتضمّن الآتي:

«بالنسبة لي، فإنّ رجلًا لا يفكّر، في مكابدة صعوبات الحياة، وفيلسوفًا لا يزاول التأمّل ولا يمارس تجربة الفكر لا يستحقّ اسمه، هو ليس فيلسوفًا، بل حرّ في علميّ»[8].

لقد انفصل برنتانو عن الكنيسة، واستقال من الكهنوت، وكلّفه ذلك ترك منصبه في جامعة فرتزبورغ، حيث كان يدرّس لمدّة سبع سنوات. وفي عام 1874م تمّ تعيينه في منصب أستاذ متفرّغ في جامعة فيينا، لكنّه اضطر إلى الاستقالة مرّة أخرى عندما قرر بعد ست سنوات الزواج، ذلك أنّ قوانين الجامعة كانت تمنع الزواج على من كان رسم فيما سبق أسقفًا أو كاهنًا، لكنّه استمر بالتدريس كمحاضر، يتقاضى أجرًا محدّدًا على محاضراته، وكان من بين تلامذته في هذه الفترة ألكسوس ميننغ، وإدموند هوسرل. وعندما رفضت السلطات النمساويّة سنة 1895م طلب تعيينه أستاذًا متفرّغًا، حيث كان يرغب في الاستقرار الوظيفيّ، قرّر التقاعد عن التدريس، وقضى بقيّة حياته كعالم حرّ في إيطاليا وسويسرا، في حين أنّ بعض طلابه قاموا بعمل رائع في العالم الأكاديميّ، إثنان من هؤلاء باتا يتمتّعان بأهمّيّة كبيرة فيما يتّصل بالفينومينولوجيا، لم يشاركا برنتانو خلفيّته الطائفية فحسب، بل تبعاه كذلك في انفصاله الدينيّ، هما كارل ستاميف، الذي استلهم نموذج أستاذه ودخل مدرسة دينيّة للكهنوت، وأنطون مارتي الذي تلقّى نذوره ورسم كاهنًا.

ومن الواضح أنّه كان أكثر من مجرّد مصادفة أنّ الحركة الفلسفيّة الجديدة قابلتها السلطة العقائديّة الدينيّة بالرفض، وهو الرفض الذي سبقه فحص جادّ لأوراق اعتمادها كمحاولة صادقة لتجربة الحياة الدينيّة، التي يتطلّبها الإيمان[9].

إحدى الصفات الأكثر تحرّرًا، والتي تستحقّ أن تكون علامة على الاستقلال الذاتيّ لهذه الفلسفة، تتأتّى من ناحية أنّ برنتانو، الذي ولد في عائلة ألمانيّة تعتنق الليبراليّة السياسيّة، وكان أكثر أعضائها شهرة وجرأة شقيقه الأصغر الخير الاقتصاديّ «لوجو برنتانو»، لم يكن قطّ قوميًّا «ألمانيًّا».

وعلى عكس الليبراليّين الآخرين الذين حقّقوا نجاحات، فإنّ برنتانو لم يتصالح أبدًا مع توحيد ألمانيا بالقوّة البروسيّة، كما أنّه لم يغفل، في السياسة الواقعيّة لرايخ بسمارك، الخطر الذي كانت تمثّله على حرّيّة الفرد وسلامته، ونذر الكارثة الكونيّة التي كانت تبشّر بها[10].

لقد عارض برنتانو فلسفة:» القوّة حقّ»، وكان كذلك داعية للسلام في الواقع[11]، وكان يشعر بنفسه على نحو متزايد كمواطن عالميّ تعني الجنسيّة الوطنيّة القليل له، لكن المهمّ هنا (أو الأكثر أهمّيّة) هو الغياب التامّ لأيّ نزعة قوميّة، علميّة أو فلسفيّة في تفلسفه، ويعزى ذلك -جزئيًّا- إلى اهتمامه- الذي لم يكن اهتمامًا عصريًّا في ذلك الوقت في ألمانيا- بمفكّرين مثل أوغست كونت، وجون ستيورات مل أو هربرت سبنسر، لقد كان ذلك علامة موحية لكلٍّ من برنتانو وزمنه أن وجد من الضروريّ أن يتضمّن كتابه (علم النفس) الصادر عام 1874 ما يلي:

«ليس أغرب من وجود علم نفس وطنيّ -لو كان هذا علمًا ألمانيًّا- سوى أن يكون هناك حقيقة ألمانيّة، هذا هو السبب في أنّني في عملي أخذت في الاعتبار الإنجازات البارزة للفلاسفة الإنجليز المعاصرين، التي لا تقلّ عن الإنجازات التي حقّقها الألمان».

لكن في السياق الحاليّ يبقى التحرّر الأكثر أهمّيّة في تجربة برنتانو هو تفلسفه.

خلال فترة دراسته الأوّليّة -حين لم تكن أولويّة الفلسفة الكاثوليكيّة بعد ثابتة بين الكاثوليك- من الواضح أنّ التقاليد الدراسيّة كانت نقطة انطلاقته. لقد كان أرسطو في الواقع هو نقطة المركز في دراساته الفلسفيّة، وهو بالرغم من أنّه كان يعتبر أنّ النسق الأرسطيّ لا يمكن الدفاع عنه في نهاية المطاف، لكنّه مع ذلك كرّس له كلّ الوقت الذي وفّرته له منحته الدراسيّة.

البداية كانت مع أطروحة الدكتوراه… حول معاني الوجود المتعدّدة عند أرسطو، وقد انصبّ نقده على توماس أكوينوس والمدرسيّين بشكل عامّ- مع توفّر كتاباتهم التي كانت مألوفة له بالطبع إبان دروسه الأولى في المدرسة الجديدة- وسيكون نقده لهم أشدّ قسوة  مما فعله مع أرسطو في كتاب «علم النفس عند أرسطو».

ومع ذلك فإنّ معارضته الرئيسة كانت موجّهة إلى المثاليّين الألمان الذين يبدؤون بكانط، والذين يمثّلون بنظره مرحلة واحدة منحدرة من مراحل الفلسفة العظيمة، من أمثال بيكون وريكارت ولوك ثم لبينز الذي يمثّل القمة، ولقد استندت هذه المعارضة إلى معرفة كبيرة لكانط وشيلنج في الوقت الذي تبدو فيه معرفة برنتانو بهيغل أمرًا مشكوكًا فيه. إن مثل هذا التحرّر من التقاليد الفلسفيّة في مثل هذا الوقت، دفعه إلى البحث عن الأساس عند المفكّرين المعاصرين، ولقد وجد بعضًا من ذلك عند فلاسفة ألمان من أصحاب التفكير العلميّ… أمثال لوتزه.. وكذلك عند مفكّرين أجانب كالوضعيّين الفرنسيّين والتجريبيّين الإنكليز.

لقد كان في الواقع ثمّة مراسلات له مع جون ستيورات مل- وتحتوي أرشيفات برنتانو على أحد عشر خطابًا غير منشور- أثناء إعداده كتابه الخاصّ في علم النفس (pshycologie vom empirisshen standpunk) ومنها رسائل أشار إليها برنتانو بوضوح  في هذا العمل. موت مل المفاجئ حال دون لقاء شخصيّ بينهما كان من الممكن أن يكون حاسمًا في تكوين برنتانو، لكنّه مع ذلك، وحين زار إنكلترا بعد ذلك بفترة وجيزة، تعرّف بشكل مباشر على عقول متحرّرة كهربرت سبنسر وهنري نيومان الذي أصبح فيما بعد كاردينالًا، وعلى شخصيّات فكريّة من غير اللاهوتييّن، مثل سانت جورج جاكسون ميقارت، وعالم الكتاب المقدس الناقد وليام روبرستون سميث.

وإذا ما أظهرت هذه الأحداث كلّها الجانب السلبيّ لروح الإصلاح عند برنتانو، فما الهدف من جهوده التقويميّة حينئذ؟

جانب واحد على الأقلّ يكفي لتأكيد هدف نبيل، وهو مشاركة برنتانو للوضعيّين في طموحاتهم منذ بداية رحلته كفيلسوف. في أطروحته التأهيليّة الرابعة عام1866م. أعلن أنّ المنهج الحقيقيّ للفلسفة ليس إلّا منهج العلوم الطبيعيّة، وفي محاضرته الافتتاحيّة في فيينا «حول أسباب اليأس من الفلسفة»، وكذلك في محاضرته الأخيرة حول «مستقبل الفلسفة»، لم يحاول برنتانو دحض حجج منتقدي الفلسفة فحسب، بل أوصى مرة أخرى بتقليد طريقة العلوم الطبيعيّة ومنهجها. وعلى المنوال نفسه قاوم برنتانو إغراء إنشاء نسق فلسفيّ خاصّ به، وبدلًا من ذلك راح يقدّم مساهمات عميقة وتحقيقات جذريّة حول موضوعات بعينها.

من جهة أخرى، وعلى عكس الوضعيّين، لم يكن برنتانو مستعدًّا بأيّ معنى من المعاني للتخلّي عن هدف الميتافيزيقا، التي تفصح عنها الروح العلميّة الصارمة لأرسطو، ومع ذلك كان يبدي اعتقادًا بأنّ الفلسفة ربما قد أساءت تقدير حدودها، لكن يبقى لها مجال واسع من الأسئلة التي لا ينبغي التخلّي عن البحث لها عن إجابات، خدمة لمصالح البشريّة[12].

2- علم نفس جديد، كأساس لفلسفة عالميّة

أين يمكن إذن للفلسفة أن تأمل بإيجاد أساس لمثل هذا التحديد العلميّ؟

بالتأكيد ليس في عودة انتقاديّة إلى أرسطو، وهو شيء لم يكن يقصده برنتانو قطعًا، وفقًا لرواية كارل ستمبف، استنادًا إلى السنوات التي قضاها برنتانو استاذًا في فورسبوغ، حتى أنّ دروسه الأولى في الميتافيزيقيا كشفت عن اختلافه الجذريّ مع أرسطو «الفيلسوف» حول مسائل أساسيّة مثل قائمة الفئات، ومثل التمييز بين المادّة الصورة.

في محاضرة عن مؤسّس الوضعيّة أوغست كونت -الذي كان قد نشر مقالًا أوّليًّا حول فلسفته-[13] اكتشف برنتانو -بتعاطف- فرص التجديد الإيجابيّ التي يولّدها اشتغال كونت، مؤكّدًا أنّه على الرغم من إلحاده «ربما لم يكن هناك فيلسوف آخر في الآونة الأخيرة يستحقّ اهتمامنا مثل كونت»، فإنّ برنتانو لم يتبعه في رفضه التامّ للميتافيزيقيا، مع إبدائه قبولًا خجولًا لمعارضته لعلم النفس.

في الواقع، لقد كانت مناقشته لمشكلة الخلود في هذه المحاضرة، أساسًا دفع برنتانو لأوّل مرّة إلى تقديم إجابات واسعة حول الأسئلة النفسيّة[14]، وإذا قورن ذلك بدراسته الواسعة المكثّفة لجون ستيوارت مل، فإنّ ذلك يقودنا إلى استنتاج مفاده أنّ علم النفس كان يمكن أن يكون الرافعة الضروريّة لنهضة الفلسفة، وصعود المتافيزيقيا العلميّة حسب اعتقاد برنتانو، وهو اعتقاد وجد تعبيرًا حيًّا له في محاضرته الافتتاحيّة في فيينا، وفي مقدّمة كتابه علم النفس الصادر سنة 1874م.

حتى الآن يبدو أنّ برنتانو كان قد قرّر الاعتماد على علم النفس في القرن التاسع عشر، عند جيمس، وستيوارت مل، أفشر أوندن أو لوتزه، بشكل غير نقديّ، وكان الوقت مهيّأً لإنجاز  تجربة كلاسيكيّة في علم النفس… لكن ما غيّر من هذا الاحتمال هو أنّ برنتانو كان أدرك أنّه لا يمكن لأيٍّ من هذه السيكولوجيّات أن يطابق توقّعاته؛ ذلك أنّها كانت تفتقر إلى الوضوح الأوّليّ الذي لا غنى عنه لمفاهيمها الإنسانيّة.

كانت هذه المهمّة الفلسفيّة -أعني الوضوح الأوّليّ للمفاهيم- هي ما وجّه برنتانو في دراساته النفسيّة، وهو استنفذ كامل الإمكانات التي كان قدّمها علم النفس الكلاسيكيّ، بقدر ما كان يحمل من عناصرها في ذلك الوقت.

في الواقع، ما كان يأمله برنتانو من منهجه الخاصّ هو أنّه كان يرغب في جعل علم النفس علمًا حقيقيًّا يحلّ مكان كثير من مدارسه لتجتمع في كلٍّ موحّد. وفقط بعد ظهور علم نفس من هذا القبيل سيكون من الممكن التعامل مع الأسئلة الميتافيزيقيّة النهائيّة، من قبل علاقة العقل بالجسم، وفرص الخلود التي بقيت مدار اهتمام برنتانو الأساسيّ والنهائيّ، بالرغم من أنّه لم ينشر أيّ شيء عنها، ولم تتمّ طباعة أيّ مخطوطات له حولها[15].

وبالتالي معظم أعمال برنتانو النفسيّة يمكن وضعها بشكل مناسب، في صورة مقدّمة فلسفيّة لعلم النفس التجريبيّ، إنّ ذلك نموذج لطريقة علاج برنتانو المتقنة والدقيقة التي لم تكن تسمح له بالانتقال إلى استنتاجات سابقة لأوانها.

لم ينشر برنتانو إلّا الجزء الأوّل من «علم النفس». وهو لا يغطّي إلّا كتابين من الكتب الستّة التي كان خطّط لإنجازها. كلّ ما فعله لاحقًا (عام 1911م) كان إعادة نشر بعض فصوله في نسخ موسّعة، لكن برنتانو ترك عددًا كبيرًا من المخطوطات، بعضها نُشر بعد وفاته.

3- نوع جديد من التجريبيّة

لا شكّ أنّه عندما نشر برنتانو المجلد الأوّل من كتابه: علم النفس من وجهة نظر تجريبيّة ((pshychologie vom empirischen standpunk)) تابع فيه عن كثب تقاليد التجريبيّة الحديثة، وهو بدأ كتابه بالعبارات الآتية:

«يصف العنوان الذي أعطيته لكتابي موضوعه وطريقته. وجهة نظري في علم النفس التجريبيّ تقوم على أنّ التجربة وحدها هي أستاذي، لكنّني أشارك الآخرين الاقتناع بأنّ حدسًا معيّنًا (uideale Anschaunug) يمكن دمجه بشكل نافع مع وجهة نظري هذه».

وإذا كان قبول المصدر التجريبيّ للمعرفة أمرًا لا لبس فيه، فقد يتساءل المرء عن مصدر المعارف الأخرى، (أو المعرفة الأخرى) المعبّر عنها «بالحدس المثاليّ» (uideale Anschaunug).

لا يبدو أنّ «علم النفس التجريبيّ» هذا يقدّم بنفسه إيضاحًا صريحًا لذلك، كما لم تقدّم كتابات برنتانو الأخرى ذلك، ولا يبدو أنّ الشرّاح حاولوا تقديم توضيح حول هذه المسألة.

ومع ذلك فإنّ قراءة الكتاب في ضوء هذه العبارات السابقة يجعل من الواضح بما فيه الكفاية أنّ وصف برنتانو للظواهر النفسيّة استند إلى حدّ كبير على دراسة الأنواع المثاليّة بدل الملاحظة التفصيليّة وتجمع الحالات الملموسة بكلّ تعقيداتها، وبعبارة أخرى، لم يكن «الحدس المثاليّ» مجرّد تجربة انتقائيّة، بل كان إلى حدّ كبير تجربة مطابقة لشروطه النموذجيّة والأساسيّة.

ثمّة كذلك دلائل تشير إلى أنّ برنتانو لم يرفض كلّيًّا وجود مصادر غير تجريبيّة للمعرفة في التطوّر اللاحق لفكرة، وهو بينما كان يتنصّل من أيّ معارف مسبقة، خاصّة بعد النمط التأليفيّ الكانطيّ للبداهة (لبرنتانو تحيّز لا مبرّر له تمامًا هنا)، فقد راح يعترف شيئًا فشيئًا بوجود أفكار وتصوّرات غير تلك التي نكتشفها بالاستقراء من خلال التجربة. من الملفت أنّ ذلك تحقّق بشكل رئيسيّ في كتاباته الأخلاقيّة، وتحديدًا في ملاحظة تمّت إضافتها إلى محاضرته: (Vom vrspring sittlicher Erkenntnis) والتي تشير إلى رؤى حول الحبّ، ورذيلة الكراهية على التوالي، كأشياء تتحقّق «بضربة  واحدة، وبدون أيّ تلميح أو توجيه أو إشارة»[16].

وعلى الرغم من ذلك أراد برنتانو أن يقدّم لنا تفسيرًا لهذا النوع من المعرفة باعتباره نوعًا خاصًّا من الخبرة القادرة على الكشف عن الضروريّات والمستحيلات في العلاقات بين الظواهر التجريبيّة، كالحبّ والكراهية، وأن يقدّم هذه التجربة ذاتها في صورتها الأوّليّة وحدسها المباشر.

ومن الواضح أنّ برنتانو كان يتّجه نحو التعرّف على نوع جديد من الخبرة، غير مسموح به في التجريبيّة التقليديّة، ينبئ بنظريّة في المعرفة جديدة وموسعة.

4- علم النفس الوضعيّ، مقابل علم النفس الوراثيّ (الجينيّ)

إنّ محتويات «علم النفس التجريببيّ» لبرنتانو قد تفاجئ عالم النفس التجريببيّ الآن؛ لأنّه، على الأقلّ في الأجزاء المنشورة من نتاجه، لا يخصّص إلّا مساحة ضئيلة لعرض ومناقشة النتائج الملموسة (المحققة) لعلم النفس حتّى ذلك الحين، على الرغم من أنّ برنتانو أبدى اهتمامًا بها، وافترض أنّه يعلم بتفاصيلها، ودرس كذلك بعض الأسئلة الأساسيّة التي تثيرها، وبالتالي امتحن نقديًّا مبادئ (فيبر- فيغنر) في حين أنّ مبادئ التأسيس لا تنكشف أبدًا (لا تتضح أبدًا).

في الواقع لم يكن برنتانو نفسه يدرك تمامًا حداثة أسلوبه الخاصّ إلّا بعد نشر المجّلد الأوّل من عمله هذا «علم النفس التجريبيّ»، ووفقًا لأوسكار كراوس، فإنّ هذا الإدراك يفسّر لنا حتى فكرة التخلّي عن المجلّد الثاني من الكتاب الذي كان يتوقّع صدوره لاحقًا.

لقد حاول برنتانو تطوير منهجه الجديد في محاضراته التي لم تنشر في فيينا حول «علم النفس الوصفيّ» أو «علم النفس»[17].

كان علم النفس هذا مكوّنًا من قسمين أساسيّين، علم النفس الوصفيّ، وعلم النفس الوراثيّ، وكان الأوّل منهما هو الأساس، ووفقًا لبرنتانو فإنّ أيّ دراسة سببيّة للظواهر هي عمليّة ميؤوس منها، قبل أن يشرح عالم النفس شرحًا كافيًا، ويصف، كلّ ما يجب عليه شرحه أو وصفه. حين كان علم النفس الوصفيّ، وهذا هو اسمه على وجه الدقّة، ابتكارًا جديدًا على ما يبدو، اعتقد برنتانو أنّه يمكن العثور عليه في التقسيمات الفرعيّة للعديد من العلوم، سيّما علم التشريح الوضعيّ، والفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء). وحتى أكثر من ذلك، وبشكل صريح، في الجزء الوصفيّ من الجيولوجيا، الذي أطلق عليه علم الجيولوجيا (في الوقت الذي كان يطلق لفظ الجيولوجيا على نظيره الذي يدرس أسباب الظواهر). في الوقت الذي كان يطلق على نظيره الذي يدرس أسباب الظواهر اسم «جيولوجيا». والمصطلحات (petrography–psychognosie) مصطلحان محدّدان ما زالا يستعملان إلى الآن بمعنى علم وصف الصخور وتصنيفها، وبمعنى التشخيص النفسيّ.

وهكذا صاغ برنتانو في ذلك الحين لفظ (psychognosie) ليطلقه على الجزء الوصفيّ من علم النفس الذي كرّس له جلّ جهوده في هذا المجال.

إلى أيّ مدى يقع التشابه بين علم النفس الوصفيّ والعلوم الوصفيّة الاجتماعيّة؟ إنّ مقارنة دقيقة فقط بين هذين المجالين من النشاط هي التي يمكن أن تكشف عن كلّ القصّة، ومع ذلك يبدو أنّ مجالًا مثل علم التشريح الوصفيّ، على الرغم من أنّه أكثر تعقيدًا في مهامه العمليّة (وظيفته)، كانت وظيفته مهيّأة له بالفعل، خاصّة فيما يتعلّق بالموضوع والتقسيمات الفرعيّة الرئيسة، مع التعبير عن الظواهر المحدّدة بوضوح تامّ، ولم يكن هذا هو الحال مع عالم النفس الوصفيّ، حيث يواجه مشكلة كيفيّة تحديد حدود منطقته المترامية الأطراف والمراوغة وغير الواضحة، وكيفيّة تقسيمها.

في الواقع لقد كانت المشكلة بالتحديد، هي تقدير حدود المادّة، والتقسيمات الأساسيّة للظواهر، بوضوح تام، بدل وصفها التفصيليّ الذي أصبح شغل برنتانو في ميدان «علم النفس الوصفيّ».

وبوضوح، فإنّه قبل أن يكون لأيّ من هذه الأوصاف أيّ معنى علميّ بالنسبة لنا، فإنّه يجب أن نعرف التشخيص الأساسيّ للحقل والفئات الرئيسة التي يمكن استخدامها لوصفها. على سبيل المثال، هل الأحاسيس والمشاعر والأحكام هي ظواهر منفصلة في رتبة متساوية؟ هنا يبدو أنّ المتطلّبات الأساسيّة لأيّ وصف (بروتوكوليّ) مفقودة، أو أنّها مثيرة للجدل إلى حدّ كبير، وهكذا يبدو أنّ ما يتطلّبه علم النفس الوصفيّ في البداية، كأساس لأيّ وصف وتصنيف، هو فحص حدسيّ لمختلف الظواهر، من أجل الكشف عن خصائصها الأساسيّة وعلاقتها الطبيعيّة أو تنوّعها، وهكذا فإنّ الوصف، كما هو عند برنتانو يعتمد بشكل أساسيّ على دراسة بديهيّة دقيقة للخصائص النسقيّة (الهيكليّة) للظواهر فيما يتّصل بالسمات العامّة، والخبرات المحدّدة.

وهو بالتأكيد شيء مختلف تمامًا عن الوصف الروتينيّ لجامع الفراشات أو المفهرس، الذي يمتلك ميدانه، لكنّ جميع الفئات الوصفيّة تبقى مجهولة بالنسبة إليه.

لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة أخرى عن علم النفس الوصفيّ الجديد هذا الذي يؤكّد برنتانو على أولويّته المنطقيّة على علم النفس الوراثيّ، واستقلاله النسبيّ عنه، وبالتالي عن العلوم الطبيعيّة مثل الفيزياء والفيزيولوجيا، والتي كان هو نفسه يبشّر بها سابقًا باعتبارها تأشيرة دخول أو الأمل المشرق لمستقبل علميّ لعلم النفس.

هذه هي بدايه الانعكاس في الوضع النسبيّ لهذه العلوم، والتي بموجبها سيحاول «علم النفس الخالص» (pure) أي الخالي من العناصر غير النفسيّة، تقديم أساسه الخاصّ، والذي سيشكّل أساسًا غير مباشر كذلك لعلوم أخرى مثل الفيزياء النفسيّة وعلم النفس الفيزيولوجيّ، والتي بدت كأنّها بعيدة عن أن تنال شيئًا من الأسبقيّة.

علم النفس لم يعد علمًا يأخذ مشروعيّته ودوره من العلوم الطبيعيّة الأخرى، لقد تأسّس الآن ككيان مستقلّ إن لم يكن ككيان منفصل.

5- نوع جديد من الخبرة، المعرفة الباطنيّة مقابل الفكر

كيف يمكن لعلم النفس الوصفيّ المستقل هذا أن يأمل بالنجاح؟

ألا يعني هذا العودة إلى نوع من الاستبطان، الذي كان منذ هجوم كونت عليه، قد أصبح فاقد المصداقيّة، لا أقلّ كان محلّ إشكال كبير؟

كانت إجابة برنتانو على مثل هذا الخوف تتمثّل في الإشارة إلى الفرق بين فرعين من الوعي بالظواهر النفسيّة على الرغم من ارتباطهما.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالملاحظة الذاتيّة أو الاستبطان، فهما كانا يتقاسمان ثقة مشتركة، مع ذلك فإنّ برنتانو لم يعترف بأيّ عيب من هذا القبيل في الإدراك الداخليّ، أو الحدس المباشر لظواهرنا النفسيّة، أو أفراحنا وأتراحنا، حزننا أو غضبنا. لهذا الوعي، لكن مقيّدًا بالتأكيد حتى الآن، عزا برنتانو الأدلّة الذاتيّة المنزّهة عن الخطأ، مع ذلك كان هذا الإدراك الداخليّ ممكنًا فقط «كهامشيّ» وبالمصادفة، في حين كان يتوجّه انتباهنا الرئيسيّ نحو موضوعات خارجيّة على شكل إدراك كان يعتبر دومًا غير قابل للخطأ.

وبالتالي ما يزال من المستحيل تعليق محتوى هذا الإدراك الواضح كما يتطلّب علم النفس صراحة. كان طريق برنتانو للخروج من هذه المعضلة هو ادعاؤه أنّه من الممكن لعالم النفس دائمًا ملاحظة التتابع الفوريّ لهذا الإدراك، حين يكون مازال في نطاق مخيّلة المريض وذاكرته، وسيكون هذا الحلّ باعترافه المصدر الأوّل لكلّ خطأ محتمل، ولكن برنتانو يعتقد أنّه قدّم ما يكفي من أساس لعلم النفس التجريبيّ، وأنّه فعل ذلك حتى في حالة تلك المشاعر القويّة التي لا يمكن ملاحظتها مباشرة عندما تختبر. ومع ذلك، فإنّ حلّ برنتانو تركنا مع مفارقة الأدلّة الذاتيّة التي يبدو أنّ نطاقها المقيّد، كما هو الحال بالنسبة لحاضر المجرَّب، يبدو صغيرًا إلى حدود قصوى، والتي بقدر ما يتعلّق الأمر بتأمّل عالم النفس التتابعَ الفوريّ لهذا الإدراك حين يكون مازال في مخيّلة المريض، فمن المؤكّد أنّها لا تملك من الطول ما يكفي لتمنعنا من الوقوع في الخداع.

وبالرغم من أنّ التمييز بين هذين النوعين من المشاعر يترك الدليل الذاتيّ سليمًا للمرحلة ما قبل العلميّة، فإنّه يحرم منه العالم النفسانيّ. إنّ راحته الوحيدة تتبدى في أنّه يتشارك محنته مع جميع العلماء الآخرين.

6- «القصديّة» الظاهرة النفسيّة الأساسيّة

أوّل ما اهتمّ به برنتانو في علم النفس كان إيجاد خاصيّة تفصل بين الظواهر النفسيّة والظواهر الجسديّة[18].

فيما يتّصل بهذه المحاولة، طوّر الرجل فكرة «القصديّة» المشهورة لأوّل مرة كعنصر جوهري للظواهر النفسيّة.

الجملة التي يقدمها مصطلح «القصديّة» ذات أهمّيّة حاسمة، لدرجة أنني سأقرؤها هنا بترجمة حرفية:

«تتميّز كلّ ظاهرة نفسيّة بما أسماه السكولائيّون في القرون الوسطى بالإشارة- العقليّة في بعض الأحيان- غير المحدّدة إلى لا موضوع، والتي يمكن أن نسمّيها، بالرغم من أنّ ذلك ليس أمرًا واضحًا لا لبس فيه، بالقصد (Beziehung) إلى محتوى، أو التوجّه (Richting) نحو شيءٍ ما (والذي لا ينبغي أن يفهم على أنّه شيء، حقيقيّ) أو تجاه ما هو ذاتيّ جوهريّ في موضوع ما. (Imunante Ggjenstan dichkeit)»

تحتوي كلّ إشارة- أو قصيد- على شيء هو موضوعها غير المحدّد… لكن ليس كلّ قصد إنّما يتحقّق بنفس الطريقة. في التمثيل (Vorstellung) يتمّ تمثّل شيء ما، في الحكم يتمّ الاعتراف بشيء أو رفضه، في الرغبة المقصود هو المطلوب…إلخ. لا توجد ظاهرة مادّيّة ترينا شيئًا من هذا القبيل أو تحتويه وتتضمّنه، وبالتالي يمكن تحديد الظواهر النفسيّة بالقول: إنّها تحتوي موضوعاتها في ذاتها عن طريق القصد، أعني بما هي موضوعات مقصودة. في الواقع يستخدم هذا الوصف للظاهرة النفسيّة جملتين: «قصد لموضوع غير محدّد» و»قصد إلى محتوى». إنّ العبارة الأولى من هاتين العبارتين لفتت الكثير من الانتباه، ومنحت دفعًا للرأي الذي يؤيّده كلٌّ من التيّارين المناهضين للمدرسانيّة والنقّاد المدرسيّين الجدد، بأنّ هذا المبدأ كلّه لم يكن سوى استعارة من فلسفة العصور الوسطى، وعلى الرغم من أنّ القراءة السريعة للمقطع قد تؤدّي ذلك، إلّا أنّها مضلِّلة.

«قصد اللا موضوع» الذي يعني حرفيًّا وجود «Intention» القصد داخل الموضوع المقصود، كما لو كان متضمّنًا فيه، هو في الحقيقة  مصطلح تومائيّ (توماس أكوينوس)، لكنّ هذا المفهوم هو ما لم يتبنّه برنتانو نفسه وتخلّى عنه إلى حدود الاستغناء عن مصطلح «القصديّة» نفسه[19]،  وبالتالي فإنّ التوصيف الثاني للظاهرة النفسيّة، والوحيد عند برنتانو، وهو المدرج حصريًّا في جدول محتويات الكتاب منذ إصداره الأوّل. أكثر من ذلك، بقدر ما يمكننا القيام به، فإنّ هذا التوصيف هو برنتانيّ على نحو أصيل تمامًا، إذا ما استثنينا ما نسبه هو نفسه من فضل وسخاء إلى أرسطو في مرور بسيط إلى حدّ ما على المتافيزيقيا (1021 A29).

ومن المؤكّد أنّه بالرغم من أنّ أيّ محاولة من برنتانو لم تفلح في أن تضع المصطلح الجديد غير المدرسيّ بالكامل تحت عنوان «القصديّة»[20] القديم، فإنّ «الإشارة إلى موضوع ما» هي الميزة الأساسيّة التي لا يمكن إلّا أن تتحقّق في كلّ شيء يعتبر نفسانيًّا.

«لا سماع بدون شيء مسموع، لا تصديق دون أن يكون تصديقًا بشيء، لا أمل من دون شيء مأمول، لا نضال من دون شيء نناضل من أجله، لا فرح من دون شيء مبهج…إلخ»

تتميّز الظواهر الفيزيائيّة، على النقيض من ذلك، بأنّها تفتقر إلى هذه الإشارات، يتّضح كذلك في هذه المرحلة أنّ الظواهر النفسيّة عند برنتانو تعمل دائمًا… مع الأخذ بعين الاعتبار المعنى الواسع جدًّا لهذا المصطلح بما يجعله يشتمل على تجارب الترك مضافًا إلى عمليّات الفعل، وعلى حالات الوعي وكذلك حالات العلميّات الذهنيّة العابرة والثانويّة.

سيكشف برنتانو هنا إذن لأوّل مرّة عن نسق كان من المفترض أن يصبح أحد الأنماط الأساسيّة لجميع التحليلات الفينومينولوجيّة. صحيح، لقد حاول الوضعيّون -وأخيرًا وليم جيمس وبعده براند راسل- التخلّص من هذا المفهوم، لكن عند النظر عن كثب تتحوّل نظرتهم المضادّة الرئيسة للمفهوم المزعوم للقصديّة نحو اقتصاد العلم- القول بأنّ الإكثار من استعمال المفاهيم واختراعها ينافي مبدأ اقتصاد العلم- ونحو إمكانيّة أن يتحقّق وصف كافٍ للحالات التي تنطوي على أنواع مختلفة للسلوك.[21] لكن في ضوء التحليلات الدقيقة، مثل تحليلات رودريك م. تشيشولم، يبدو من المشكوك فيه أنّ هذه المحاولات للتخلّص من «القصديّة» قد نجحت، وحتى لو حالفها النجاح، فهي ليسن ضروريّة ولا لزوم لها.

ما يهمّ برنتانو كان الإجابة على سؤال: ما هو حكم الظواهر غير الخاضعة للتجربة، مهما كانت غير اقتصاديّة؟

أحد الاعتراضات الواضحة والمتكرّرة على استخدام برنتانو لمفهوم «القصديّة» كخاصّيّة مميّزة للظواهر النفسيّة، هو أنّها ضيقة للغاية، ذلك أنّ ثمّة كثيرًا من الظواهر النفسيّة – على سبيل المثال الحالة المزاجيّة- ليس لها أيّ موضوع تتعلّق به أو مرجع كما هو حال الرغبة أو الإدراك.

إجابة برنتانو على هذا الاعتراض تبدو مهمّة؛ إذ كانت مجرّد عيّنة على الطريقة التي نفسّر بها الظواهر التي لا تنسجم مع نسقه. وهي إجابة تحتوي على تمييز بين موضوع أساسيّ وبين موضوع ثانويّ أو (مرجع). الهدف الأساسيّ للقصد هو الموضوع الخارجيّ الذي تشير إليه المظاهرة النفسيّة، أمّا الثانويّ فهو الظاهرة نفسها. هذه الإشارة المزدوجة تجعل من الممكن الحفاظ على أنّه في حين لا يكون ثمّة مرجح أساسيّ لبعض الظواهر النفسيّة إلّا أنّه يجب أن يكون ثمّة مرجح ثانويّ دائمًا، وإلّا فإنّ الظاهرة النفسيّة لن تكون واعية. وهذا يثير بالطبع سؤالًا مفاده إلى أيّ مدى يعتبر الوعي الانعكاسيّ (وعي الوعي) ضروريًّا في جميع الظواهر التي يغطّيها علم النفس بحقّ، إجابة برنتانو الواسعة إلى حدّ ما هي أنّ الظواهر النفسيّة اللاواعية تتناقض مع نفسها، وبالتالي فهي وهميّة؛ (إذ كيف تكون ظواهر نفسيّة وهي لا واعية).

7- تصنيف طبيعيّ (Natural) للأفعال النفسيّة

إنّ الأفعال التي تشير إلى موضوعات هي بالتالي الأفعال التي تليق كموضوعات للدراسة في علم النفس، لكن ما هي الأنواع الأساسيّة لهذه الأفعال؟ يسأل برنتانو.

إنّ أهم النتائج وأدومها، التي توصّل إليها فحص برنتانو، هي تقسيم الظواهر النفسيّة – حسب اعتقاده – إلى ثلاث فئات أساسيّة هي: التمثيلات (vorslellugen) والأحكام (uileile)، وما أطلق عليه- بخلاف اسمه المعهود- أفعال الكراهية والحبّ (Liebenundhassem) والتي تشتمل على رغبات ومشاعر من فئة يمكن تصنيفها باللغة الإنكليزيّة تحت اسم «أفعال عاطفيّة».

لم يدّع برنتانو أيّ أصالة لهذا التقسيم، وكعادته قدّم عرفانًا سخيًا للآخرين في هذه الحالة، خاصّة لديكارت، وبخصوص التمييز بين الأحكام والقرارات لجون ستيوارت مل. ومع ذلك، فإنّ التركيز على عنصر القبول والرفض في الحكم عند برنتانو كان اكتشافًا أصلًا، وترك تأثيرًا كبيرًا، وبالقدر نفسه من الأهمّيّة بالنسبة لبرنتانو نفسه، وإن كان أقلّ إقناعًا خاصّة للوهلة الأولى، كان توحيد الظواهر العاطفيّة والإراديّة للشعور والرغبة تحت عنوان واحد هو «الحبّ».

ما قد يكون أكثر أهمّيّة في هذا السياق من هذه الفروق هو الطريقة التي حاول بها برنتانو استنباط هذه الظروف؛ ونظرًا لأنّ جميع الأفعال النفسيّة تتميّز أساسًا بإشاراتها إلى موضوعات، فمن اللازم أن نعثر على أنحاء التميّزات بين هذه الإشارات بأشكال، أو خصائص مختلفة منها يتمّ اكتشاف مثل هذه الاختلافات بتجربة فوريّة، أو بشكل أكثر تحديدًا، بإدراك داخليّ أو حدس مباشر. لكن ما هو الأساس للتصنيفات الجوهريّة بين هذه الأصناف العديدة من الإشارات، وبشكل أكثر تحديدًا من الطرق غير المعتادة للتمييز بين الأحكام والتمثيلات، من جهة، وللجمع ببين الشعور والرغبة من جهة أخرى؟ هنا يحيلنا برنتانو مرّة أخرى إلى تجربة فريدة؛ إذ بالانتقال من مجرّد التمثيل إلى الحكم المثبت أو المنفي نواجه انقطاعًا حادًّا في سلسلة من الظواهر، بينما في الانتقال من الشعور إلى الرغبة نجد سلسلة مستمرّة من التحوّلات، دون خطوط فصل حادّة بين عناصرها، وبالتالي فهي إذن تجربة مميّزة لإنجاز مسح تسلسليّ للظواهر أو التوقّف عنه، اللذين يوفّران الأساس الرئيس لتصنيف «طبيعيّ». مثل هذه الحقيقة تعد بتصنيف متحرّر من التعسّف التامّ، من خلال ترسيخها في الأنساق الأساسيّة للظواهر نفسها.

8- القانون الأساسيّ للظواهر النفسيّة

للوهلة الأولى يمكن للمرء أن يشكّ في أنّ الأصناف الثلاثة الأساسيّة للظواهر النفسيّة كلّها متساوية في الرتبة، لكن مع ذلك هذه  هي وجهة نظر برنتانو على كلّ حال.

تشكّل التمثيلات الظواهر الأساسيّة، فهي توفّر الأساس الذي لا غنى عنه للأحكام والأفعال، للحبّ والكراهية على التوالي، وتشكّل جزءًا منها. وسبب أسبقيّتها حسب برنتانو هو بساطتها واستقلالها وحضورها في جميع الظواهر النفسيّة، أمّا استقلالها النسبيّ، فإنّه نابع من أنّ التمثيل يتحقّق بلا حكم ولا مشاعر حبّ وبغض، وأنّ تصوّر كائن بلا حكم ولا مشاعر حبّ وبغض ويملك فقط تمثيلات هو أمرٌ ممكن، لكن العكس ليس صحيحًا.. ويساعدنا الشكل المميّز للتجربة في الخيال «التجربة الخياليّة» في تتبّع مثل هذه العلاقات، وبالتالي فإنّ المبدأ الذي يقضي بأنّ كلّ ظاهرة نفسيّة هي إمّا تمثيل أو بناء على تمثيل لا يستند إلى مجرّد رغبة أو تخمين، بل هو يفترض المعرفة التجريبيّة بهذه الظواهر (ولا يصحّ كذلك مجرد تعريف الظاهرة النفسيّة). وهكذا يكون هذا المبدأ هو (المبدأ الأوّل) لتلك العلاقات النفسيّة الأساسيّة التي نستعرض عنها أكثر من ذلك بكثير عند كلامنا على الظواهر النفسيّة.

9-  الحذر من الزمان

لا شيء جديد على الإطلاق حول اللغز الفلسفيّ المتعلّق بالزمان، لكنّ هذا اللغز وجد مع الفينومينولوجيّين اهتمامًا متجدّدًا، هذا الاهتمام المتجدّد والكثيف يتّخذ رأس الأمر في تفكير برنتانو.

ووفقًا لأوسكار كرواس لم تواجه أيّ مشكلة أخرىمثل هذا الاهتمام من برنتانو، باستثناء مشكلة الإله، وتأتّت هذه الزاوية الغريبة لاهتمامه من جهة انشغاله بمسألة أنّه كيف يتمّ انعطاء الوقت في تجربتنا؟ أو على وجه التحديد ما هو الفرق بين الطريقة التي نشهد بها الوقت الخاصّ، والطريقة التي تظهر لنا بها الأوقات الماضية والمستقبليّة (الزمن الماضي والمستقبل)؟

كانت إجابة برنتانو الأكثر وضوحًا، والتي تتّفق مع نظريّة (الإشارة)، المرجح (المقصود)، هي أنّ الفرق يكمن في الطريقة التي نشير بها إلى الظاهرة عندما نتمثّلها، وليس عندما نحكم عليها. من هنا فإنّ تمثّلنا هو الذي يصطبغ بالأنماط الزمانيّة. وفي الوقت الذي ينعطي لنا فيه الحاضر بشكل مباشر، كحدس، فإنّ الزمان الماضي أو المستقبل ينعطيان لنا بشكل غير مباشر. فقط، من خلال تمثّلنا في أنفسنا ما هي تجربة الزمان الماضي والزمان المستقبل.

في النهاية قاد هذا الأمر برنتانو إلى التوكيد على أنّ الأزمان غير الحاضرة ليست حقيقيّة في حدّ ذاتها، لكنّها تعتمد في وجودها دائمًا على ما  هو حاضر.

ومهما كانت مزايا هذا التأمّل لبرنتانو في الزمان، فقد أثبت النهج الذي اتّبعه في حلّ هذه المشكلة من منظور الاهتمام الحالي، أنّه استفزازيّ وغير مألوف بالنسبة لطلابه، كأنطوني مارتي، وخاصّة لأدموند هوسرل، الذي سيستخدمه كنقطة انطلاق لمحاضراته المهمّة حول «الوعي الباطن بالزمان».

10ـ نظير للإثبات الذاتيّ كأساس للمعرفة الأخلاقيّة

إنّ أكثر المجالات التي أثرت بواسطتها أفكار برنتانو في حركة الفينومينولوجيا دون وساطة هوسرل هي الأخلاقيّات.

لكنّ حتى في حالة هوسرل، فإنّه تجدر الإشارة إلى أنّ محاضرات برنتانو الوحيدة التي حضرها هوسرل كانت تلك المتعلّقة بالفلسفة العمليّة (1889)- في الحقيقة لم ينشر برنتانو في حياته إلّا القليل من كتاباته الاخلاقيّة- المنشورة الآن بعنوان (Vom ursprung sittfishen Erkemtnis) وحتى وقت قريب كانت هذه الكتابات الوحيدة التي نشرت في ترجمة إنكليزيّة، في هذه الحالة سيحصل برنتانو على مديح متحمّس من ناقد من طراز «جورج مور» الذي «أوصى بالكتاب في عام 1903 باعتباره «مناقشة أفضل بكثير لأهمّ مبادئ الأخلاق من أيّ مناقشة أخرى أنا على دراية بها» هذا بالرغم من حقيقة أنّ برنتانو متورّط ضمنًا في مغالطة طبيعته سيّئة السمعة[22].

وعلى ما يبدو لم يكن هذا العمل الصغير سوى نتيجة لمناسبة خاصّة، رغم أنّها مناسبة تستحقّ التذكير؛ لأنّه احتوى على ردّ برنتانو على محاضرة سابقة ألقاها الفقيه الألمانيّ الأوّل في ذلك الوقت «رودولف فون جيرنغ» أمام نادي المحامين في فيينا، في هذه المحاضرة حول نشأة (Entstehung) الشعور بالصواب والخطأ دعم جيرنغ النسبة التاريخيّة والاجتماعيّة النموذجيّة لطلاب القانون في القرن التاسع عشر، والتي سخرت من كلّ أفكار القانون الطبيعيّ والعدالة المستقلّة عن التشريع الإنسانيّ، والتي تفسّر جميع القوانين وجميع المعتقدات حول الصواب والخطأ باعتبارها مجرّد نتاج للقوى الاجتماعيّة النسبيّة التي أقرّت آثارها فلسفة «القوّة للحقّ» خلف سياسة القوّة الساخرة على نحو متزايد، وهكذا ستشكّل إجابة برنتانو على جيرنج تحدّيًا للروح النسبيّة للعصر بشكل عامّ، وعلى فلسفته القانونيّة بشكل خاصّ.

لم يكن هذا يعني أنّ برنتانو أنكر أثر الحقائق التاريخيّة في تكوين أفكارنا ومشاعر الصواب والخطأ عندنا، لكنّ السؤال يبقى قائمًا حول «النشأة التاريخيّة»، أو حول «الأساس الصحيح» لمعتقداتنا، أو كما قال برنتانو نفسه أخيرًا حول: «أساس معرفتنا الأخلاقيّة» (Ursprung).

إنّ وجود معرفة بما هو صواب وما هو خطأ بالطبيعة هو ما يجعل برنتانو جريئًا في توكيده، لكنّه لم يفعل ذلك استنادًا إلى أسس عقائديّة فقط، أو للأسباب التي عرضها الفلاسفة المدرسيّون الجدد، وهم الوحيدون الذين كانوا ما يزالون يدعمون فكرة القانون الطبيعيّ ضدّ الهجمات المركّزة للمدرسة التاريخيّة وللنفعيّين والتجريبيّين والتطوّريّين.

لم يدافع برنتانو عن أيّ أفكار فطريّة عن الصواب والخطأ، وهو ما اعتبره -شأنه شأن الجميع- مؤكّدًا من قبل التجريبيّين البريطانيّين. كان يجب أن يكون أساس إيمانه بالمعايير الموضوعيّة للصواب والخطأ علميًّا، وهو ما حاول تأسيسه في علم نفس جديد. كانت نقطة الانطلاق لهذا الاستنتاج النفسيّ للموضوع الأخلاقيّ تصنيف برنتانو للظواهر النفسيّة؛ ومن بين هذه الظواهر سيُظهر الحكم النظريّ والأفعال العاطفيّة توازنًا لافتًا للنظر ليس فقط في تأسيسها على التمثيلات، بل كذلك في كونها إيجابيّة أو سلبيّة، مصيبة أم خاطئة. وعلاوة على ذلك فإنّه وجد تجربة محدّدة من الثقة بالنفس مرتبطة ببعض الأحكام عندما يتمّ تمييزها ووصفها بأنّها صادقة.

الآن سيدّعي برنتانو أنّه حتى الانفعالات كالحبّ والكراهية (الأفعال الانفعاليّة) أظهرت خصائص مماثلة؛ إذ كما يقوم التفكير الصحيح على معايير منطقيّة، فإنّها هي نفسها تقدّم وفق نسق التفوّق الطبيعيّ (naturlicsher vorzag)؛ لذا فإنّ الأفعال الانفعاليّة، وتحديدًا تلك الموصوفة ضمن المعايير الأخلاقيّة، تقدّم نفسها على أنّها «صحيحة» أو «خاطئة» مع معيار شبيه ومماثل للأدلّة الذاتيّة النظريّة هذه مماثلة بين العاطفة «الصحيحة» والحكم الحقيقيّ، أو للأدلّة الحقيقيّة للحكم الحقيقيّ حين تتمّ تجربته كشيء مختلف تمامًا عن نظام التفضيل الأعمى المبنيّ على مجرّد التميّز؛ ذلك أنّ مجرّد القوّة الغريزيّة للتميّز تناقض بشكل تامّ القناعة المتولّدة عن الصدق البديهيّ، كما يختبر كلّ واحد الاختلاف بين نوعين من الأحكام. هنا كما في أيّ مكان آخر يمكن للتوضيح النهائيّ أن يتحقّق فقط في الإشارة إلى هذه التجربة كما هو الحال مع أيّ مفهوم آخر[23].

هذه هي الاختلافات التي لم يأخذها التجريبيّون مثل هيوم بعين الاعتبار. أن تحبّ على نحو الصواب وأن تكره خطأ أو على نحو الخطأ ليست مجرّد أمور ترتبط بالذوق الشخصيّ: لقد تمّ وصف هذه الأفعال على أنّها حقيقيّة استنادًا على أدلّة ذاتيّة تماثل تلك المتّصلة بقناعتنا مثلًا بقانون التناقض، وبمثل ذلك تُعطى درجات نسبيّة من الخير والشرّ في الأفعال التي يفضل فيها شيء ما على الأقلّ منه منزلة وفضلًا، والأسوأ على الأكثر سوءًا، وهي تؤكّد صحّتها بالأدلّة الذاتيّة المقترنة «دليلها الذاتيّ، دليلها معها». ومع هذا سيعترف برنتانو أنّ الاختلافات في درجات الخير لا يمكن قياسها بنفس الطريقة العلميّة.

إنّ أهمّيّة محاولة برنتانو لإثبات أنّ العواطف، التي كانت تعتبر حتى الآن موضوعات شخصيّة ميؤوس منها وغير عقلانيّة، تتأتّى من احتوائها على عنصر مميّز، يتمثّل في دعوى أنّ الموضوعيّة تحتاج إلى تأكيد، حتى لو كانت تجربة التماثل في الأدلّة الذاتيّة بين المشاعر والأحكام لا تثبتصلاحيّتها من تلقاء نفسها، كما يفعل القليل من الأدلّة الذاتيّة غير النقديّة في المجال النظريّ (كما في التناقض).

تجدر الإشارة إلى أنّ نظريّة برنتانو الأخلاقيّة لم تؤكّد بأيّ حال من الأحوال وجود قيم أبديّه مطلقة يستجيب لها حبّنا أو بغضنا وتجعلهما بنفسها صوابًا أو خطأً.

لقد ادّعى الجميع أنّ برنتانو يدّعي أنّ بعض الأفعال العاطفيّة لها طابع خاصّ من الصواب والخطأ المرتبط بها، لكن تجربة الكشف عن الأدلّة الذاتيّة كما هي، حبّنا (كصدق) مثلًا هو مصدر معرفتنا الأخلاقيّة وتعيين حدسيّ للصواب والخطأ في أفعال وظروف معيّنة في العالم، يظهر أنّ برنتانو لم يدّع أنّ حبّنا الصحيح هو استجابة لقيم في إشارات أنشطتنا الانفعاليّة، بل هو تجربة الكشف عن الأدلّة نفسها.

قد يتساءل المرء عمّا إذا كانت هذه المحاولة لإقامة الأخلاق على خصوصيّات مميّزة داخل الأنشطة الانفعاليّة لا تحرمنا في النهاية من القناعة التي يراد البرهنة عليها؛ لأنّه يبدو وفقًا لهذه النظريّة أنّ الأدلّة الذاتيّة والتماثليّة العاطفيّة المرتبطة بها (أدلّة ذاتيّة في المشاعر والأحكام) تتصل ببساطة بأفعال معيّنة هي كحقائق قصوى، دون أيّ سبب آخر واضح (غير كونها حقائق قصوى). لكن لا يجب على المرء أن يكون ذا نظرة ثاقبة في الأساس ليدرك لماذا يجب وصف فعل معيّن كالحب مثلًا بأنّه صواب وليس خطأ، يكفيه أن يدرك حقيقة القضيّة المتمثّلة في أنّ فعلنا الذي هو الحبّ مثلًا ينطوي على إشارة محدّدة إلى الأدلّة الذاتيّة التي تؤكّده، لكن لماذا يجب أن يحتوي على مثل هذه الإشارة بدل عكسها مثلًا؟ ذلك يبقى أمرًا غير مفهوم، مثل سبب ارتباط موجة مع الإحساس اللونيّ باللون الأحمر بدل الأخضر.

11- معركة برنتانو ضدّ «الكيانات الزائفة (Factitious Entities

في هذه النقطة بالذات، من الضروريّ ذكر توجّه في فكر برنتانو يمكن تسميته بـ «ضدّ فينومينولوجي». وهو في الواقع أصبح أكثر وضوحًا في السنوات التي تلت (1902)، في الوقت الذي تخطّاه معظم طلابه بالاعتراف بمجموعة كبيرة من الظواهر (الكيانات).

لقد كان عالم برنتانو الفلسفيّ بسيطًا في الأساس، وهو أراد له أن يبقى كذلك، لقد تألّف من ظواهر جسديّة ونفسيّة، بالإضافة إلى كلّ ما كان يسمح به لاهوته الخاصّ عن طريق «بواسطة» الوجود الإلهيّ؛ لذا امتنع بشكل متزايد عن أيّ محاولة لمضاعفة الكيانات الوجوديّة (multiply Entities) -بالطريقة التي حدث بها ذلك في العصور القروسطيّة المدرسيّة، وفي الفلسفة التفكّريّة (المثاليّة) الحديثة (recent speculative philosophie )- مثل هذا الصنيع جعله يعترض بشدّة على الاعتراف بالمكانة المستقلّة لظواهر غير نفسيّة أو «غير واقعيّة» (Irrealis)، مثل محتويات الفكر وحالات العاطفة (الشعور) أو الحالات الوجدانيّة (states of affairs)، العلاقات أو الارتباطات، الكلّيّات (uneversals)، القيم (valus)، الماهيّات (Ideals)، والمبادىء (norns).

كل ما أمكن أن يعترف به هو الوجود الدقيق للأشياء الحقيقيّة وللفكر الحقّ أو العقل، الكلّيّات وجود ولا وجود، ممكنة وضروريّة، وهي يمكن أن توجد فقط في عقول مفكّرين حقيقيّين.

كان على النقد المنهجيّ للغة أن يعيد تفسير المصطلحات التي تؤكّد، على ما يبدو، الوجود المستقلّ لهذه الكيانات، وراء طريقة التعبير ومستقلًّا عن اللغة (syncategorematic)، كما هو الحال في حروف العطف (conjuction) والأدوات (particles)  التي لا معنى لها إلّا بالاقتران مع الأسماء في الحالة الراهنة، أسماء تمنح هذه الكيانات معنى وتعطيها الوجود.

بخلاف ذلك فإنّ إحالة التعبيرات، سواء أكانت عاديّة أو فلسفيّة، والتي لا تشير على أشياء جسديّة أو نفسيّة، ينبغي اعتبارها مجرّد كيانات (entiarations) وهميّة. لقد تمّ التخفيف من هذا التراجع (Reism) فقط من خلال حقيقة أنّ برنتانو في معارضته الحازمة للأسمنة أكّد أنّ كلّ تفكير بالواقعيّ لا يمكن التعبير عنه إلّا في كلّيّات، وهذا في واقع الأمر يبيّن أنّ القول بأن تجاربنا لا ترينا وتكشف لنا إلا ما هو كلي يتشارك فيه برنتانو مع برتراند راسل.

ليس من السهل تحديد الأسباب التي دفعت برنتانو إلى مثل هذا التراجع، وهي أسباب غريبة عن سنوات تفكيره الأخيرة. لكن قد تكون استنتاجات بعض طلابه الأساسيّين مثل ستاميف ومينونغ وكذلك هوسرل، جعلته يتردّد بشكل متزايد في الاعتراف بظواهر معقّدة وجديدة. إنّ نظريّة الظواهر عند مينونغ، وفينومينولوجيا هوسرل- وهو يبدو أنّه لم يفرق بين الاثنتين- بدتا له رائعتين بمقدار ما لا تكونان خائنتين لمقاصده العلميّة.

إنّ هذا الرفض لتجاوز الظواهر النفسيّة والفيزيائيّة إلى جانب الجهود التفسيريّة لإيجاد بدائل للكيانات الزائفة (fictitious entities) يمثّل الحدّ الأقصى لتجربة برنتانو، كما يتضح من وجهة نظر الفينومينولوجيّين اللاحقين في خصوص مقاربته الفينومينولوجيّة.

لكن ذلك لا ينتقص من مساهماته الأساسيّة في تطوّر فلسفة فينومينولوجيّة، وهي مساهمات يمكن تلخيصها تحت العناوين الآتية:

أـ اتساع نطاق التجريبيّة التقليديّة من خلال قبول التجارب التي تمّ تجاهلها أو إهمالها حتى الآن، بما في ذلك بعض الأفكار غير المستقلّة في الأنساق، والعلاقات الأساسيّة بين المواد التجريبيّة.

ب ـ تطوير علم نفس وصفيّ جديد

ج ـ اكتشاف القصديّة (Intentional)

د ـ وصف التماثل في الأدلّة الذاتيّة في الأخلاق

12-  إلى أيّ حدّ كان برنتانو نفسانيًّا؟

إنّ القول بأنّ برنتانو نفسانيّ بالتأكيد ليس بلا سبب، لكن رغم كلّ المعلومات المتاحة، فإنّ هوسرل نفسه لم يتّهم برنتانو أبدًا بذلك، لكن فور صدور المجلّد الأوّل من (logische untersushunyen) بحوث منطقيّة ساد الانطباع بأنّه فعل ذلك بالرغم من غياب اسم برنتانو في الكتاب بشكل ملفت.

لقد كان برنتانو حسّاسًا جدًّا تجاه مثل هذا الانطباع، بالرغم من أنّ هوسرل، في محادثة خاصّة وفي خطاب حاول أقصى ما في وسعه تبريره.

بمعنى ما- بالمعنى الدقيق للكلمة الذي استعمله هوسرل في كتابه- فإنّ التهمة هذه لا تثبت بالتأكيد؛ إذ لم يحاول برنتانو أبدًا استخلاص المنطق من القوانين النفسيّة، وبالتالي تحويلها إلى تعميمات مجرّدة احتماليّة الطابع، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب النسبيّة المشكّكة[24]، وعلى العكس من ذلك أوضح الرجل أنّ المنطق خارج عن نطاق الشكوك المشروعة، وأنّه بالنسبة له، تمّ إثبات وجود معرفة ما موثوقة تمامًا ومحدّدة مستقلّة عن أيّ أسس نفسيّة. لكن ثمّة تصوّر آخر لمصطلح «نفسانيّ» لا تكون فيه المسألة واضحة، وهو الرأي القائل أنّ ما هو غير مادّيّ ينبغي أن يكون نفسانيًّا، وبالتالي يصبح علم النفس علمًا أساسيًّا لكلّ العلوم باستثناء العلوم الفيزيائيّة، ويمكن بالفعل تتبّع رأي كهذا والعثور عليه في عدد كبير من كتابات برنتانو، ففي محاضرته الافتتاحيّة في فيينا سنة (1874) أعطى علم النفس في علاقته بالعلوم الاجتماعيّة و»جميع الفلسفات الأخرى» دورًا موازيًا للرياضيّات والديناميكا في علاقتها بالعلوم الطبيعيّة».

لكن في الواقع، عندما رفض برنتانو أخيرًا كلّ محتويات التفكير غير الجسديّة وغير الذهنيّة باعتبارها مجرّد كيانات وهمّيّة، فقد صار من الحتم تعيين كلّ الأشياء «غير الحقيقيّة» بما في ذلك القوانين المنطقيّة باعتبارها مجرّد حالات نفسيّة، وحتى لو كان علم النفس بالنسبة لبرنتانو العلم الأساسيّ لكلّ فلسفة علميّة، فيجب أن نضع في اعتبارنا ما اكتشفناه حول تحوّلات علم النفس في نمط تفكيره الجديد.

بالنسبة إليه لم يعد علم النفس يرتكز على، ويستند إلى، الفيزياء والفيزيولوجيا، بل العلم النقيّ القائم على مصادر مستقلّة. لم يعد علم نفس التداعي (associalionist)، بل العلم الذي يعتمد على (intentional) أو المرجعيّة للظواهر النفسيّة، وعلى الاعتراف بكيانات مثل الأدلّة الذاتيّة كأفعال نفسيّة. علم نفس كهذا لا يفتقر إلى مجرّد الاكتفاء بالقصديّة نوعًا جديدًا من الخبرة الممنوعة للوصول إلى رؤى نسقيّة مباشرة وجدانيّة، وهكذا ففي الوقت الذي كان برنتانو ما يزال يؤمن بعلم النفس في نهاية المطاف باعتباره الأساس الضروريّ، إن لم يكن الكافي، للفلسفة فإنّه آمن بعلم نفس متحرّر من الفيزيولوجيا والفيزياء اللتين ارتهن لهما في الفترة السابقة، واللتين أدّتا إلى نشوء علم نفس مشكّك، كان هدفًا  دائمًا لهجمة هوسرل المرتدّة عليه.

خاتمة نقديّة

أدرك هسرل بوضوح لا التباس فيه عمق الأزمة التي كانت تعصف بالعلم الأوروبي، مفترضاً أن الأخير فشل في مساعدة الإنسانية الأوروبية، على حد قوله، على إدراك حقيقة العالم الذي تعيش فيه. ووجه الطرافة في مساءلة هسرل هو أن العلم الأوروبي استبدل العالم الموضوعي القائم بنفسه المستقل بذاته الذي لا تصله بعالم الذات الإنسانية التي انتجته إلا وشائج شكلية بالعالم كما نعيشه ونحياه ونتأمله…أعني بالعالم الذي تسبغ عليه الذات الفردية المعنى والدلالة والقصد. وهو في الحقيقة كان يتلمس بوعي فريد أزمة التجريبية من جهة وأزمة علم النفس الوضعاني من جهة أخرى وهما أزمتان ناقشهما بعمق منذ كتابه الأشهر مباحث منطقية من غير أن ينعطف إلى تلمس جذر المشكلة في منهج العلم الأوروبي نفسه إلا بعد سنة 1936 ومع محاضرته الشهيرة حول أزمة العلم الأوروبي والفلسفة، حيث أعاد طرح سؤال الفلسفة من جديد باعتباره سؤال المعنى بالدرجة الأولى، من حيث أنه كيف يتأتى للفلسفة نفسها أن تستكشف معنى العلوم الأوروبية عبر استقصاء فينومينولوجي باعتبارها ظاهرة روحية متميزة، وباعتبارها آخرَ أكثرِ المواقف أو رؤى العالم سعة وشمولاً وعمقا.

لكن ما معنى الأزمة أساساً؟ أعني كيف تفهم عبارة أزمة العلوم الأوروبية، وكيف تكون العلوم في أزمة، ومتى يتحقق ذلك؟

أزمة العلوم الأوروبية إنما نشأت في الحقيقة من كون علاقتها بالحياة بدأت تتقلص شيئاً فشيئاً كلما تعاظم شأن هذه العلوم وتراكمت آثارها ونتائجها ومحتوياتها. وليس المشكل أساساً في القيمة المنهجية للعلوم ولا في الأثر الهائل الذي تركته في ميادين التنظيم والتقدم الأداتي. بل المشكلة في الحقيقة مشكلة فلسفية تنشأ في من مشكل الموضوعية أعني من الاعتقاد الذي ترسخ كأيديولوجيا موجٌهة، والذي مفاده أن الموضوعية في العلم غير ممكنة إلا بالقطع مع الذات التي تنتجه وبتنحية الأسئلة الوجودية كلها التي تتعلق بالوجود البشري بأكمله وباطراح كل الرؤى الميتافيزيقية باعتبارها تتمتع بالقيمة فقط بالنسبة إلى الذات التي أنتجتها. فلا معنى إذن للسؤال عن العالم الذي نعيش فيه ولا عن الإنسان الذي هو نحن بوصفه مشكلة ميتافيزيقية.. أو الكون الذي يحتوينا أو القناعات القبلية الأولية التي نؤمن بها أو الأفكار الغيبية التي توجه حياتنا وكل أسئلة المعنى التي ولدتها مكابدات قرون وانشغالات مفكرين وفلاسفة ومنظرين.

مع برنتانو سنجد انشغالاً بعلم النفس يتجاوز حدود الخبرة التي فرضتها العلوم الوضعية منهجاً لا يصح تجاوزه. ذلك أن موضوعات الشعور والانفعالات وحياة الوعي لا يمكن أن تُدرس بمعزل عن الذات التي ينكشف لها هذا العالم كظاهرة. ليست موضوعات الوعي وقائع بالمعنى المجرد للكلمة، أعني تلك التي تتحقق كوقائع نفسية، كما هو الحال في الوقائع الطبيعية. إن السؤال الفلسفي عن معيش الوعي أو الحياة النفسية ليس سؤالاً عن الوقائع، لأن ما يجب أن يُسأل عنه أمر يتجاوز مستوى الوقائع الموضوعية. حياة الروح ليست موضوعاً أو واقعة موضوعية، إنها ظاهرة تتصل بالذات التي تتكشف لها.. ولمعيش الوعي الذي تحلّ فيه، ذلك أن كل وعي هو في الحقيقة وعي بشيء ما. وموضوعات الوعي ليست أشياء قائمة هناك بل ظواهر.

مثل هذه المشكلة بالذات هي التي قادت هسرل فيما بعد للاعتقاد بأن أسئلة الميتافيزيقا «تتخطى العالم من حيث كلية الوقائع المحضة التي يتشكل منها»[25] إلى سؤال كيف يظهر لنا العالم أو كيف يتبدى العالم كظاهرة، أو كيف يتأتى للوعي أن يحيط بالعالم كظاهرة. وبالتالي فمشكلة علم النفس وعلوم الإنسان كلها والميتافيزيقا صارت في حقيقتها مشكلة «علم» بالمعنى الضيق للكلمة أو مشكلة معرفة. وكل الفلسفات الحديثة منذ هيوم كانت تحاول بناء فهم ذاتي لطبيعة هذه الأزمة وجوهرها… لتتحدد بدقة بأنها أزمة عقل وضعي.

والأزمة هذه هي من وجه آخر أزمة عقل، بمعنى أن العقل الذي يفترض أنه يمنح العالم معناه أصبح مع الوضعية عقلاً أداتياً إجرائياً. لقد تمت موضعة العالم وترييضه وجعله مجرد كون هندسي، وعالم من الأشكال التي تم بناؤها منهجياً ومن الأجسام القابلة للقياس 1، عالم واحد يضم الأشياء نفسها، وفضاء متجانس من الأشياء المتجانسة يبلغه منهج عقلي موحد نسقياً»[26].

وبالتالي فإن الفينومينولوجيا منذ برنتانو ترى أن «تحسيب الهندسة قاد من تلقاء نفسه وبكيفيّة ما إلى إفراغ عالم الحياة من معناه»[27] ونسيان عالم البشر العملي، وتضييع المعنى[28].

هذا هو الفضاء الذي فكر فيه برنتانو. وهو حينما اندفع إلى بناء نفسانيات متعالية وضعية كان هدفه ربط حياة النفس بالطريقة التي تتبدى لنا فيها في خضم عالم الحياة الذي ننخرط فيه. فليس ممكناً على وجه الدقة بناء نسق نفساني استناداً إلى علم نفس وضعي يجعل أحداث النفس مجرد وقائع طبيعية قابلة للقياس وللخبرة المباشرة، تقوم هناك مستقلة عن أية طريقة لمقاربتها بما هي شأن خاص ومتدفق.

لقد انخرط برنتانو في التأسيس لعلم نفس منظم، وهو العلم الذي لا يقوم على وجه الدقة على التجربة الفيزيولوجيّة والبيولوجيّة والذي يتماشى مع تقاليد علم النفس الأقدم الذي ترسخ في التجارب الفلسفيّة الكلاسيكيّة، وسيكون أول مؤلف في سياق ترسيخ هذا العلم هو كتاب «علم النفس من وجهة نظر تجربية» الذي وضعه برنتانو سنة 1874م. وسيؤصل الكتاب هذا لعلم نفس الفعل، في مقابل علم نفس المحتوى الذي ساد بين التجريبين الأوائل من النفسانيين. والمسألة كلها تقوم في الحقيقة على النزاع الأقدم حول مفهوم العقل، نفسه، وكيفية عمله، حيث ساد مفهومان له، الأول يرى أن العقل آلة تعمِّق وتوسِّع المادة التي تأتيها من الحواس، من غير أن يكون له حظ من الإبداع والخلق. وسيجد الاتجاه هذا تجسده الحق في مذهب الارتباطيين المتطرفين الذين حاولوا فهم العقل من خلال قانون العلية في المادة. ولما كان المثل الأعلى لهؤلاء هو الفيزياء والفيزيولوجيا، فقد مالوا بشدة إلى اعتناق وجهة نظر ميكانيكية خالصة حول العقل، وبالتالي راحوا يهتمون بمحتوى العقل في لحظة معينة وبالقوانين الطبيعية التي تحكم ظهور انفعالات معينة متتالية، ووجدوا أن ما يناسبه تماماً هو المنهج الارتباطي البسيط، خاصة أن الارتباطات تؤمن بأن العقل مبني من عناصر حسية، وكان من السهل إخضاع ما هو حسي لعمل تجريبي. أما نشاط العقل عند هؤلاء فهو شيء لا يمكن التنبؤ به أو التحكم به وبالتالي فلا معنى لإخضاع فعل العقل لعمل تجريبي، ولا يحسن اتخاذه موضوعاً لعلم النفس 1.

أما الاتجاه الثاني فهو يرى أن العقل نفسه فاعل خلاق ونشيط، وأن جعل العقل مجرد آلة اختصار للعقل يستبعد منه ما شكل الظاهرة الأساسية فيه، وهي فعل إبداعه وخلاقيته وعمله. وتتبدى أصالة برنتانو في السياق في أنه حاول التوحيد بين الإلحاح على خلاقية العقل ونشاطه وبين تجريبية مدروسة، ذلك أن الخبرة عنده لا تكشف عن محتوى غير نشيط في الاحساسات أو من مضامين حسية مجتمعة، وإنما عن أفعال عقلية كذلك. الإحساس موجود لكنه ليس أمراً عقلياً. العقلي هو النشاط الذي تحدثه الإحساسات فينا، وهو إما تفكير أو حكم أو عمليات لا شعورية (orexis) وجدانية ونزوعية كالحب والكراهية والشهوة والرغبة والانفعال. فضلاً عن النشاط الذي يقوم فيه العقل بتأمل نشاط ذاته.

لقد دشن إذن برنتانو الأرضية التي على أساسها برزت فكرة الأزمة تلك التي دفعت بالعلم الأوروبي إلى أحضان نزعة وضعية أو وضعانية متطرفة ترى العقل مجرد آلة. وتحصر العلم بالخبرة وتضيع الآفاق الهائلة التي يضعها أمامنا تأمل العالم باعتباره حاملاً لمعنى حياتنا ووجودنا.

ولأن برنتانو لم يكن مجرد نفساني، بل فيلسوفاً من طراز متميز، فإن نزعته السيكولوجية سوف تخضع خضوعاً تاماً للرؤى الميتافيزيقية التي كان يحملها حول الإنسان والواقع والوجود. وأطروحتاه للدكتوراه حول معاني الوجود» و«حول علم النفس» عند أرسطو، ثم دراسته للاهوت، تكشف جانباً من شخصيته.

ولقد تعرض برنتانو لانتقادات شديدة فيما يتعلق بنظريته النفسانية على وجه خاص والتي عرضها في أبحاثه الثلاثة المعروفة: «علم النفس من الوجهة التجريبية» «تصنيف الظاهرة العقلية» و«الحس والوعي العقلي» الذي نشر بعد وفاته، ولأجل ذلك فقد امتنع عن نشر الكتب وتفرغ لنشر محاضراته العلمية في موضوعات متفرقة كعلم الجمال والأخلاق ونظرية المعرفة. لكن انقطاعه عن التأليف لم يدم طويلاً ذلك أنه بعد هجرته إلى فلورنسا عاود الكتابة والنشر، فنشر الأجزاء المتبقية من علم النفس التجريبي، وكتابان عن أرسطو، وبذلك تجددت النقاشات الحادة بينه وبين عالم اللاهوت (زيلر)… وهي مناقشات تعود إلى فترة مبكرة من حياة برنتانوالفكرية حينما انتقد برنتانو نفسه شروحات (زيلر) لأرسطو في أطروحته الثانية للدكتوراه.. وتحول الجدل هذا إلى معركة فكرية حامية على مدى عقود ثلاثة من أواخر القرن التاسع عشر.

لكن الملفت على كل حال في تراث برنتانو الفلسفي، الأثر الذي تركه التراث اليوناني والوسيط من تفكيره، حتى أن فكرة القصدية في الحدود التي عرضنا لها، كما سيأتي للتو، اقتبسها من أغسطينوس وطور دلالتها. ولأن برنتانو بقي بالدرجة الأولى فيلسوفاً فإن انشغاله السيكولوجي سيبقى انشغالاً فلسفياً بالرغم من دعوته الصارخة إلى أن تتخذ الفلسفة من مناهج العلوم نموجها في التفكير بالرغم من طموحه إلى إنشاء علم نفس يأخذ بعين الاعتبار طرائق البحث التجريبي.

وسيبقى كتابه الأشهر في علم النفس شاهداً على جهد نظري كبير وتأسيسي، لكنه لم يعد كتاباً يقرأ الآن. فلقد تم تجاوزه سواء من خلال الوضعانية النفسانية المتطرفة، أو من خلال علم النفس التجريبي. أو من خلال تطورات طلابه خاصة كارل ستمبق الذي أصبح رئيس مدرسة برلين لعلم النفس التجريبي والذي جادل بقوة أفكار أستاذه فيما يتصل نشاط العقل… وبالنزعة الشكلية في علم النفس التي لا تقيم كثير مكانة لمحتوى الوعي. وحاول جاهداً تطوير تصورات أستاذه من خلال أفكار لوتزه في الفلسفة والمنطق، والذي دفع باتجاه نشوء مذهب الجشطلت من خلال جهده في مدرسة برلين. وأما فننك فكان تلميذاً مباشراً لبرنتانو حضر عنده في جامعة فيينا فصولاً دراسية متنوعة، ثم وضع أطروحة معروفة حول برنتانو بعنوان «برنتانو ممتحنا» طور فيها أفكار أستاذه النفسانية، ومن ثم أنجز أطروحته الشهيرة تحت إشراف برنتانو حول دراسات هيوم ليصبح محاضراً في جامعة فيينا ثم ليحصل على درجة الأستاذية في جامعة كراز. ولأنه كان يطمح إلى تقديم رؤية شاملة في علم النفس فقد أسس مدرسة كراز لعلم النفس التجريبي، وكان أحد طلابه -وهو أنجز تحت إشرافه أطروحة دكتوراه- فون أهرنفلد المؤسس الفعلي لعلم نفس الجشطلت. ولقد ترك تفكير ميننك، الذي تجاوز فيه تصورات أستاذه، تأثيراً لا حدّ له على كارل ياسبرز في ما يتعلق بتفكيره الفلسفي والسيكولوجي.

وكيف كان فإن النقد الجذري للشكلانية عند برنتانو، ولتوجهه نحو توفيقية جذرية بين علم النفس التقليدي والتجريبية، ونزعته نحو الذاتية كما ستتبدى عند هسرل سيدفع علم النفس في اتجاهات جديدة مختلفة ركزت على الأسس التي وضعها برنتانو، لكنها تجاوزتها إلى غير رجعة.

وإذا كان برنتانو قد أدرك طبيعة الأزمة التي تعصف بالعلم الأوروبي وعرف بعمق المشكلات التي ولدتها النزعة التجريبية المتطرفة، والوضعانية العلمية، وحاول جاهداً أن يعيد التفكير في الفلسفة باعتباره علماً كما صنع هسرل فيما بعد. إلا أنه لم يكن بمقدوره إدراك الأسباب العميقة التي ولدتها ووقفت خلف بروزها. وهو كان قد بقي على اعتقاده بأن مشكلة العلم الأوروبي هي مشكلة معرفية أولاً وبالذات، وأن مشكلة الفلسفة هي مشكلة الأساس الذي يقوم عليه كل وعي بالعالم وكل رؤية لوجودنا. لكنه لم يكن يعي على وجه الدقة ما أبرزه هسرل فيما بعد من أن الأزمة هي أزمة معنى وأن الوضعانية باندفاعها نحو الخبرة التجريبية، وبعزلها للعقل عن أن يكون نشاطاً، وبإيمانها بالموضوعية الجافة الجامدة في مواجهة مذاهب الذاتية المتطرفة والمثالية أفقدت العالم كل معنى وقيمة، وحولته إلى مجرد كائنات رياضية، وأجسام قابلة للقياس الأمبريقي، وحولت العلم إلى علم كمي… وهو شيء أفقد رؤانا للعالم دلالاتها وحيّد الذات البشرية أو الوعي باعتباره مانحاً للمعنى وللدلالة ممسكاً بكلية العالم ومغزاه وهوشيء لم ينتبه له برنتانو ولم يلتفت إليه.. ولأجل ذلك كان في محاولة مواجهة تطرف الوضعية يعود إلى مجلوبات يونانية ووسيطة، لكنه مع ذلك كله، أسس للبؤرة التي منها ستبدأ الفينومينولوجيا بالظهور، وهي بؤرة الوعي بما هو وعي قصدي بالعالم وبما أنه مسبغ للمعنى وللدلالة.. وبما أنه نشاط حر فعال يسبغ على العالم مغزاه فيما يتصل بوجودنا وحياتنا..

أما كيف تحولت هذه البؤرة إلى مأزق نظري للفينومينولوجيا وكيف راح هيدغر يعيد تفكيكها لمصلحة فكرة الوجود في العالم. فهذا شيء يطول الحديث عنه.

المصادر والمراجع

1-  The lost portrait of edmund Husserl, by Ida and Franz Brentano” In: philomathes, the Hague: Martinus Nijhoff, 1971, espicially. and the Context of the phenomenological Movement.

2-  Akten der XII. Internationalen Kongresses fur philosophie, Vienna: 1968, vol II.

3-  Alfred Kastil,s introdiction «Franz Brentano, Die lehre jesu und ihre Bleibende Bedeulung, Leipzig: Meiner, 1922, PIX.

4-  Archiv jur mittelrheinische krichengeschichte VII, 1955.

5-  Auguste comte und die positive philosophie, leipzig: Meiner, 1926.

6-  Brentano,s vienna lectures on logic, (1874 – 1895), Now published in: Die lehre vom Richtigen urteil, Bern: Francke, 1956.

7-  Carl stumpf, «Erinnerungen an franz Brentano” in oskar Kraus, Franz Brintano, 1993.

8-  Der begriff der intentionalitat in Der scholastic,Bei Brentano and bei hesserl.

9-  Deskriptive psychologie oder beschreibende phanomenologie», 1888 – 1880.

10- Die philosophie Franz Brantanos, Bern: Francke, 1951.5-

11- Die viver phasen der philosophie, leipzige: Meiner, 1926.

12- e.g. Uber die Zukunft der philosophie, Leipzig: Meiner, 1929.

13- Erinnerungen an Franz Brentano in: Oskar Kraus, Franz Brentano, (Munich: beck, 1919).

14- In: philosophisce hefte,ed.by Maximilian beck, 1936, 72-91.

15- intention und intentionalistat in Der scholastic, Bei Brentano and bei Husserl” in: Studia philosophica, 39; 1970.

16- International journal of tlhics, XIV, 1903, 115 – 123.

17- Introduction to Franz Brentino’s psychologie vom empirischen standpunkt. leipzig: Felix Meiner, 1994.

18- Minnesota studies in philosophy, mind and language,urbana:university of Illinois press, 1972.

19- perceiving: A philosophical study, Ithaca, 1981.

20- Psychologie, II, 133, oskar Kraus, introductionto vocabulary III.

21- Religion und philosophie, Bern: Francke, 1954.

22- The hague: Martinus nijhoff, 1981.

23- The philosophy of Brentano, London, duckworth, 1976.

24- Uber die Zakunft der philosophie, Leipzig: Meiner, 1929.

25- Vom Ursprung sittlicher Erkenntnis, 2nd edition, 1921, note 13, English translation by R. M. Chisholm, London, Keganpaul, 1969.

—————————————

[1]*ـ باحث وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة.

[2] – وفقًا لتصريحات برنتانو الخاصّة في مراسلات غير المنشورة خاصّة مع أوسكار كراوس وأنطوني مارتي، لم يقرأ برنتانو أيًا من نصوص هوسرل الناضجة، خاصّة حول الفينومينولوجيا؛ لأنه بعد عام 1903 لم يعد بصره يسمح له بإجراء أيّ دراسات مباشرة. هوسرل نفسه في مراسلات مهمّة بين عامي 1904 – 1906، توفرت في ورقة بحثيّة في مؤتمر برنتانو في غرين عام 1977م ونشرت في: Grazer philosophische studien, 5, 1922 ومرّة أخرى بمناسبة زيارته مع برنتانو إلى فلورنسا عام 1907، جاهد كي يفسر تطوّره المستقلّ لسيده الميجل، ولكن وكما شعر هو نفسه لم يحقّق سوى القليل من النجاح.

انظر: «Erinnerungen an Franz Brentano» in: Oskar Kraus, Franz Brentano, (Munich: beck, 1919, p 165p).

ورواية فرانز برنتانو عن زيارته في رسالة إلى هوغو بيرجمان في 26 مارس 1907 المنشورة في:  PPR, VII, 1946, 93

انظر أيضًا: «The lost portrait of edmund Husserl, by Ida and Franz Brentano” In: philomathes, the Hague: Martinus Nijhoff, 1971, espicially pp: 343 – 345.and the Context of the phenomenological Movement, pp 119 – 124.

[3] – كانت  النسخة الأصليّة من الملاحظات المهمّة للغاية حول الدورة التدريبيّة حول: «Deskriptive psychologie oder beschreibende ضمن أوراق ما بعد الوفاة phanomenologie (ps77). وكانت بحوزة ابنه الراحل جون إم. برنتانو، والتي سمح بالاطلاع عليها (دراسات هوسرل حول برنتانو 1884 – 1886 سبقت هذا النصّ بأكثر من سنتين). وفقًا لأوسكار كراوس في:

(Introduction to Franz Brentino’s psychologie vom empirischen standpunkt. leipzig: Felix Meiner, 1994, p XII)

أعلن برنتانو عن هذه الدورة في العام السابق على أنّها مجرّد: «Deskriptive psychologie” (ps76).

وهو العنوان الذي، انطلاقًا من مقدّمة برنتانو الخاصّة على:  Vom Emprischen standpunkt, 1989.

سيخطّط لاستخدامه في كتاب جديد.

بعد ذلك بعامين 1890 – 1891، سيتمّ الإعلان عن الدورة التدريبيّة نفسها تحت عنوان: «علم النفس» El 77.ومن هنا يبدو أنّ مصطلح: (phenomenologie) في مذكرات 1888 – 1890 لم يتم – حسب ما أقدر – استئنافه ومناقشته في المحاضرة ذاتها وذلك يعكس عدم رضى برنتانو عن الاصطلاح الأوّل وبذله جهدًا ليحلّ محلّه مصطلحًا أفضل منه.

وعلى أيّ حال، ونظرًا لأنّ علم النفس عند برنتانو كان يصدر من الأساس كدراسة الظواهر النفسيّة، فإنّ اختيار مثل هذا المصطلح كان واضحًا بما فيه الكفاية دون حاجة إلى نسبة الفضل فيه إلى السير وليام هاملتون على سبيل المثال، الذي كان برنتانو على دراية كاملة بكتاباته انظر: (psycologie vom emprischen standpunk).

لقد تحدّث برنتانو كذلك عن ظواهر فيزيائّية حقيقة، وهذا يعني أنّه كان ضد اختيار المصطلح كعنوان لعلم نفس جديد.

لقد كان هذا مختلفًا عن مصطلح (phanomenal psychologie) الذي يعود إلى مواضيع متفرّقة تعود إلى العام 1874 أنظر: (psycologie vom – P 105).

[4] – لقد تمّ ذلك على الأقلّ بالنسبة للمراحل المتأخرة من عمل برنتانو لكن الأقل تأثيرًا، في دراسة الفريدي ستيل التي نشرت بعد وفاتها:

«Die philosophie Franz Brantanos, Bern: Francke, 1951».

لكن للأسف دون الإشارة إلى مصادر هذا الاعتبار.

[5] – Carl stumph, «Erinnerungen an Franz Brentano» in: oskar Kraus, Franz Brentano, pp. 90, 116.

أيضًا:- Edmund Husserl, “Erinnerungen an Franz Brentano, op. cit. p. 154.

[6] – أنظر: e.g. Uber die Zukunft der philosophie, Leipzig: Meiner, 1929, p 12

[7] – للاطلاع على هذه الحلقة انظر:

Alfred Kastil,s introdiction «Franz Brentano, Die lehre jesu und ihre Bleibende Bedeulung, Leipzig: Meiner, 1922, PIX.

ولقد تمّ نشر موجز عن بريتانو في:

Archiv jur mittelrheinische krichengeschichte VII, 1955, pp 295 – 334.

[8]– Carl stumpf, «Erinnerungen an franz Brentano” in oskar Kraus, Franz Brintano, 1993.

[9] – واحدة من أقوى التعبيرات ضدّ الاستبداد هذا، وجدت في خطاب مفتوح، حيث دعم برنتانو عام 1901 تيودور مومسن في نضاله من أجل التحرّر من الافتراضات المسبقة في العلوم:

«Voraussel Zungslose Korschung)

وعلى وجه التحديد، ضدّ الكراسي الموهوبة في جامعات الدولة، وهو يتضمّن الجمل التالية: «كما نرى، إنّ الشخص الذي يخطئ ضدّ الحقيقة، ليس هو الشخص الذي يتكلّم ويعلِّم بإيمان، بل هو الذي يحاول تسويق عقيدته التي يلتزم بها تحت عنوان المقترحات العلميّة الصرفة… ومهما يكن احترامنا للتفكير الدينيّ الإيجابيّ، فهو حقيقة تفتقر إلى الأدلّة الذاتيّة، كما أنّها ليست فكرة مباشرة، ولا يتمّ استنباط المعرفة منها بطريقة صارمة».

Die viver phasen der philosophie, leipzige: Meiner, 1926, p 138, f.

[10] – انظر على سبيل المثال، تمنّياته الأخيرة للنمسا، ورسالته إلى هربرت سبنسر عام 1872 مقتبسة من:

Alfred Kastil, op.cit. pp 12f.

[11] – Vom ursprung sittlicher erkenntnis, 2nd edition, leipzig: Meiner, 1921, p10.

وانظر كذلك الملحق الخامس: epikur und der krieg, pp 27 – 31.

[12] – Uber die Zakunft der philosophie, Leipzig: Meiner, 1929, p 98.

عندما تمّ فحصه بعناية بدا أنّ الأسباب التي قدّمت عمومًا عن اليأس من السعي وراء الميتافيزيقا لم تكن حاسمة بمجرّد أن تدرك أنّ التصوّف والمذهب الدوغمائيّ للمثاليّين لم يكن سوى صورة لميتافيزيقا حقيقيّة.

الآن يبدو أنّ الوقت قد حان لإعادة البناء البطيء، على أساس اعتماد أفضل الأساليب ونتائج العلوم. كانت قضيّة إعادة البناء هذه بالنسبة لبرنتانو ضروريّة، بكلّ ما تحمله من أهمّيّة؛ لأنّه كان يعتقد أنّه في أيّامه فقط يمكن للفلسفة أن تلبّي احتياجات البشريّة للحصول على إجابات مقنعة للأسئلة الميتافيزيقيّة والأخلاقيّة والدينيّة، وهي إجابات لم تعد الكنائس حسب برنتانو قادرة على توفيرها.

[13] – Auguste comte und die positive philosophie, leipzig: Meiner, 1926, p 99 ff.

[14] – Carl stumpk, «Erinnerungen an Franz Brentano» in: oskar Kraus, Franz Brentano, p. 106.

[15]– من أجل إعادة بناء صناعيّ لآرائه حول روحانيّة الروح وخلودها، بواسطة الفريد كاستيل يراجع:

Religion und philosophie, Bern: Francke, 1954, pp 185 RR.

[16] – Vom Ursprung sittlicher Erkenntnis, 2nd edition, 1921, note 13, English translation by R. M. Chisholm, London, Keganpaul, 1969, p. 24 note 33.

وانظر أيضًا:

Brentano,s vienna lectures on logic, (1874 – 1895), Now published in: Die lehre vom Richtigen urteil, Bern: Francke, 1956, pp 162 RR.

حيث انتقد برنتانو رفض مل للمعرفة المسبقة بشكل صريح.

[17] – لقد ناقش ر.م. شيزهولم هذه المحاضرات بشكل أكثر اكتمالًا في ورقته: «علم النفس الوصفيّ عند برنتانو» في:

Akten der XII. Internationalen Kongresses fur philosophie, Vienna: 1968, vol II, 164 – 174.

وستظهر طبعة من المحاضرات حول علم النفس والنصوص التكميليّة من المحاضرات السابقة عام 1918 تحت عنوان: (علم النفس الوصفيّ) Deskriptive psycologie.

[18] – استعمال برنتانو لمصطلح الظاهرة، ليس أثرًا للفينومينولوجيا، ولا لفلسفات المظهر كما عند لامبرت. كما أنّ الأمر لا يتعلّق بالتمييز الكانطيّ بين الفينومين والنومين، بل سيستخدمها بنفس المعنى الذي استعمله فيه علماء عصره وأقرانه من المتفلسفين مثل أوغست كونت، وجون ستيوارث مل. وهو بذلك أراد أن يتجنّب على وجه التحديد أيّ التزام، سابق لأوانه، بالافتراضات الميتافيزيقيّة (لعلم نفس الروح) بعد طريقة أرسطو وديكارت. من المؤكّد أنّ ثمّة مؤشّرات على وجود مفهوم أكثر تقدّمًا وأهمّيّة من مصطلح الظاهرة في بدايات محاضرات برنتانو حول:

«Deskriptive psychologie oder beschreibende phanomenologie», 1888 – 1880

[19] – تمّ الكشف عن أصالة برنتانو من خلال مقارنة استخدامه المصطلح (intentio) الذي دشّنه توماس أكوينوس، واستخدم في الفلسفة المدرسيّة، والذي يدلّ على الصورة الغريبة أو التشابه المشكل في الروح، في عمليّة اكتساب المعرفة، كما كان نوعًا من الانتزاع من العالم الخارجيّ.

يرتبط هذا (intentio) بما يسمّى نظريّة الأنواع الخاصّة بالمعرفة الإنسانيّة (الماهيّات) والتي تعود إلى نظريّة أرسطو عن الإدراك التي تعني امتلاك صورة الشيء دون مادّته.

يميّز توماس أكوينوس بين القصد الحسّيّ والقصد المفهوميّ intentio sensibilis و

Intentio intlligibilis وفي بعض الأحيان يستعمل القصد المجرّد أو الخياليّintentio intetiontellecta

وعلى المنوال نفسه تشير المصطلحات المدرسيّة المستخدمة كثيرًا (الأوّل والثاني) إلى كائنات ملموسة وإلى فئات منطقيّة على التوالي. ولا يوجد أيّ إشارة على الإطلاق إلى كائن باعتباره التسمية المميّزة لهذه القصديّة (intentio).  وبمقارنة هذا المفهوم للقصديّة مع ما قصده برنتانو لاحظ بعضهم أنّ الأخير لا يستخدم مطلقًا مصطلح قصديّة (intentio) بمعزل عن ما يتّصل به، بل فقط في روابط مثل (القصد، المقصود) (indentional relation) أو (intentional inexistence) والتي نادرًا ما توجد بين المصطلحات المدرسيّة، صحيح أنّه حينما يذكر الصفة (intentional) فهو ما يزال يخون آثار العقيدة المدرسيّة حول الشيء الذي كان يسمّى الروح.

لكنّ هذا المذهب الإنسانيّ الذي يرى عدم وجود عقليّ لموضوع المعرفة في الروح، هو ما جعل برنتانو يرفضه خلال ما أسماه دارسو برنتانو «بأزمة الفوضى» immaneng krise  سنة 1905، وبعد ذلك فإنّ المصطلح يختفي من المفردات النفسيّة لبرنتانو انظر:

Psychologie, II, 133, oskar Kraus, introductionto vocabulary III, p X liv.

وأيضًا حول رفض برنتانو لاستخدام هذا المصطلح في صورته القديمة، بالرغم من وجود دواع مختلفة لذلك في:II, 8, second footnote

[20] – للحصول على وصف مفصّل لمصطلح القصديّة يراجع:

Der begriff der intentionalitat in Der scholastic,Bei Brentano and bei hesserl»

In: philosophisce hefte,ed.by Maximilian beck,1936,72- 91.

وأعيدت طباعته تحت عنوان:

»intention und intentionalistat in Der scholastic, Bei Brentano and bei Husserl” in: Studia philosophica, 39;1970; pp.189- 216.

وهي ترجمت إلى الإنكليزيّة بواسطة ليندا ماكالستر ونشرت في:

The philosophy of Brentano, London, duckworth,1976;pp.108- 127.

وأيضًا في:

«context of the phenomenological movement»

The hague: Martinus nijhoff, 1981;pp.3 -26.

[21] – perceiving: A philosophical study, Ithaca, 1981, p. 168.

وللاطلاع  على أحدث التطوّرات في هذا النقاش، خاصّة فيما يتعلق بالتحليل اللغويّ أنظر نقاشه مع ويلفريد سيلارس في:

Minnesota studies in philosophy, mind and language,urbana:university of Illinois press,1972.

[22] – أنظر: International journal of tlhics, XIV, 1903, 115 – 123.

[23] – انظر: Vom Ursprung sittlicher Erkenntnis, p. 26.

[24] – ومع ذلك، فمن الصحيح أنّه في محاضراته عن المنطق التي ألقاها بين عامي (1874 – 1895) والتي نُشرت بواسطة فرانزيز كاماير – هللبراند، أنّ برنتانو ذكر مرارًا وتكرارًا هذا المنطق كنظريّة للحكم الصحيح، تستعير بعض مقترحاتها من علم النفس (ص4) حتى أنّها تفترض مسبقًا نتائج علم النفس (ص7). وأنّها تعتمد بشكل رئيسيّ على هذا العلم ص (IS). بمعنى آخر بدا أنّ علم النفس هذا كان ضروريًّا لكنّه ليس الأساس الكافي للمنطق.

[25]–  أزمة العلوم الأوروبية، ص 49.

[26]–  ص 65، وص 75.

[27]–  ص 95.

[28]–  ص 96، ص 100.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى