
الفتى الحاضر في الرحمانيِّة
الفتى الحاضر في الرحمانيِّة
(الفتوَّة في القرآن والعرفان وفقه الإنسان)
د. محمود حيدر
مفكِّر وأستاذ محاضر في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان.
نكاد لا نجد ما يُعرب عن ماهيَّة الإنسان في حضوره واقتداره وتساميه، أكثر ممَّا تشي به كلمة الفتوَّة. لقد اتَّخذت مكانتها الفريدة في القرآن والعرفان وفقه الإنسان، من أجل أن تشير إلى خَطْبٍ فائق، أو أن تدلَّ على من هو مفارق في الوجود الإنسانيّ. وسنميل إلى “جميل الظنِّ” أنَّ الكلمة في نحوها ومعناها ترمي إلى استجلاء المخبوء من سجايا الذين استحقّوا اسمها ورسمها وشهادتها.
كذلك أعطى الحقُّ مثلًا عليها بأصحاب الكهف، إذ اصطفاهم بالصبر، وحباهم بالاقتدار. وهكذا الأمر مع يحي النبيِّ إذ نُودي من وحي الغيب أنْ خُذِ الكتاب بقوَّة. كأنما أريدَ بالأمثال أن يحوز الفتى الحاضر في الرحمانيَّة، هبة العلم والاقتدار مقرونين بالتأييد والاعتناء. من أجل ذلك ستظهر الفتوَّةُ في الحضرة الرحمانيَّة آمنة لا يشوبها خوفٌ ولا يغشاها غمّ. وما ذاك إلَّا لكونها راشدة، ودُربتها الصبرُ على قبول الهدى وتلقيِّ المعرفة. والخطبة الإلهيَّة تخبرنا أنَّ فِتية الكهف لمَّا بلغوا منازل الاصطفاء والقبول، ارتضوا جميل ما جاءهم به القدر. وهم كلَّما نالوا قسطًا من الجميل الرَضِيِّ فُتِحَ لهم باب على جميل أسمى.
II
عند شهود الحقيقة في بهائها، لا ينوء الفتى الرحمانيُّ بأثقال ما لَاحَ له ممَّا لا عهد لسواه به. فهو متهِّيىء للواردات أنَّى أدَّت إليه من رهبة أو ذهول. وما ذاك إلَّا لأنَّه مقتدرٌ على التمييز بين النورانيِّ والظلمانيّ. تجده آمنًا مطمئنًّا بين الخوف والرَّجاء.. خوفه من الفقد والخسران، ورجاؤه بالإيجاد والإحضار. وحتى يقتدر على الوصل المتكافئ بين خوف الفقدان ورجاء الوجدان لا مناص له من التعالي على الأشياء، والزُّهد بدنيا الممكنات الفانية. لقد صحَّ به القول: من عَلَتُ همَّته على الأكوان، وصل إلى مكوِّنها، ومن وقف بهمَّته على شيء سوى الحقِّ فاتَهُ الحقُّ، لأنَّه أعزُّ من أن يرضى معه بشريك…
والاقتدار سمة الفتوَّة وسمتُها جسمًا وروحًا ومعنى. وهو بالنسبة إلى أهلها شأن ذاتيٌّ، وهوّيَّة فعليَّة. دليلنا أنَّ لفتاها صفةً متفرِّدةً من القدرة المركَّبة: فيزيائيَّة وميتافيزيائيَّة. حيث الجسم والروح في نشأة واحدة. ولأنَّه على هاتيك الصورة صار الفتى الرحمانيُّ كونًا في عالم المعنى. وسيخاطبه الحقُّ على لسان العارفين: أيُّهذا الفتى أنت معنى الكون كلِّه. ومعناك أقوى من الأرض والسماء، تبصر بلا طرْفٍ، وتسمع بلا سمْع. معناك هنالك، لا تحيط به الألباب ولا تتعلَّق به الأسباب. فإنَّك لا تعرف نفسك بالحرف، ولا تعرف الله بالحرف. فإنَّ الحرف حجاب. والحجاب حرف…
يدرك الفتى المقتدر معنى ما هو عليه، ذلك بأنَّ صبغته الانتباه. ولولا انتباهُه إلى ما هو عليه شأنه وشأنيَّته مع الحقِّ، لانْحَدَر إلى وادي الغفلة فلا يغادرها قطٌّ. من أراد سؤاله عن علَّة فتوَّتِهِ يقول: ما تعرَّض العقل الغارق في الَّلهو والَّلعب لـ “الوارد الرحمانيِّ” إلَّا نجا من ضلالات التيه. حتى إذا عرف نفسه، عرف الكون، ولو عرف نفسه وتبصَّر آفاق الكون عرف الله. لهذا الداعي يؤمن الفتى الرحمانيُّ بأنَّ التوحيد هو أعلى مراتب الفتوَّة. وإنَّه على يقين من أنَّ كلَّ ما سوى ذلك هو محض خسران. فكلُّ فتوَّة لا ترى أنَّ حقيقة الإيمان بـ “ليس كمثله شيء”، إنَّما هي فتوَّة ناقصة مبتدأها الأبدان ومنتهاها الأبدان، فلا تشمُّ رائحة الأبديَّة أبدًا. فمقام التوحيد الذي يصله الفتى الرحمانيُّ هو عين الفتوَّة التي دارت مدار الحكمة الإلهيَّة. وبهذا يصير عِلْمُه مقامئذٍ علمًا حضوريًّا، ومعرفة شهوديَّة لا ترى إلى شيء إلَّا وترى عناية الله فيه ومعه وحواليه…
III
ثمَّة إذًا، ضرورة لاستكشاف الذات المتعالية لإنسان يمتلك الرؤية والبصيرة والإرادة والفعل، فضلًا عن حيازته مَلَكَة الخطاب الفصل. بفضل هذا، يحظى الفتى الرحمانيُّ بمكَنةٍ لا يناظره فيها إلَّا من نَدَرَ من أهل الكثرة. لذا يشبِّهُهُ ابن عربي بالقمر الذي فاز بالفتوَّة وتأيَّد بنور الروح والكلمة. وهذا التشبيه ينحصر بنظيرين: المسيح والمهدي. فإذا كان المسيح هو روح الله وكلمته، فالمهدي هو خاتم الولاية المحمديَّة المطلقة، وهما معًا كالسيف الصارم في كشوفات الحقائق. بل يرمزان إلى القول الفصل وكلمة الصدق. ثم يمضي ليبيِّن الصلة بين فتوَّة المسيح وفتوَّة المهدي لجهة اتِّصال الأول بالثاني بوصفه نور الشريعة المحمديَّة الذي سيظهر آخر الزمان لينشئ العدل ويقيم القسطاس.
أمَّا ملَّا صدرا فَيُنزِلُه منزلة الرحمانيَّة ومظهريَّتها في عالم الخلق. فهو المُنجي من ضلالات الدنيا ومُسدَّدًا بالحكمة التي بها يكون كماله. وهي الحكمة التي يُعبَّر عنها تارة بالقرآن، وتارة بالنور، وطورًا بالعقل البسيط. وغايتها أن تصير بها النفس عند تعقُّل الأشياء عالَمًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ.
التأسيسات النظريَّة لفتوَّة الفتى الرحمانيِّ وخصائصها متعلِّقة بميتافيزيقا العرفان ونظامها الإبستمولوجيّ. آيلة على الإجمال إلى التحقّْق بمقصدين متلازمين: العلم بالله، والإنهمام بشؤون الخلق. ومرجع الأمر إلى مركزيَّة الكائن الآدميِّ كمستخلفٍ إلهيٍّ في دنيا المخلوقات. وبوصف كون هذا الكائن نقطة الجاذبيَّة في الكون الأكبر الحاوي للموجودات كلِّها، فقد وقع التكليف عليه بالرِّضى والقبول والإقبال، ثمَّ لينجز مهمَّته العظمى في التوحيد بركْنَيْه: توحيد الخالق وتوحيد المخلوقات. فإذا كان مقتضى الأول توحيد الخالق بتنزيهه عن الثنائيَّة والتركيب، فمقتضى الثاني توحيد الخَلق، وتدبير حاجاتهم على كثرتها وتنوِّعها واختلافها.
IV
كينونة الفتى الرحمانيِّ تسمو على الأنانيَّة وترقى فوق الغيريَّة البتراء التي آنَسَت إليها الوثنيَّة، وتَعَبَّدَها عقلُها المقيَّد بالنقص وانعدامِ اليقين. ولأنَّ كينونته مفارقة لما تعوَّدته الوثنيَّات الغاربة والمستحدثة، ينظر الفتى الرحمانيُّ إلى النوع الإنسانيِّ كنظير له في عوالم الكثرة والإختلاف. وعلى ما يُبتنى للفتوَّة في أدب العرفاء فإنَّها تقوم على التآخي في الحقّ. أو ما يسمَّى عندهم بـ “الآخيَّة”. وهي تعني الأخوَّة الموثوقة برباط وطيد غير قابل للانفكاك. والآخِيَّة بالمدِّ والتشديد تؤول إلى الغيريَّة المحفوظة بالربوبيَّة. ولهذه الغيريَّة مسراها المفارق عمَّا اندرجت عليه في الحضارات البشريَّة المتعاقبة. ولعلَّ ما يعرِبُ بجلاء عن هذا المسرى قول أمير المؤمنين والعارفين علي بن أبي طالب (ك-ع): “الناس صنفان، إمَّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق”. فالنظير في الخلق هو الأساس الذي يقوم عليه مفهوم الفتوَّة في الميتافيزيقا الرحمانيَّة. هو مقام مبنيٌّ على حاضريَّة الله وعدله في عالم الاختلاف والكثرة، ذاك بأنَّ حاضريَّة الله في عالم الخلق تجعل النظير مخلوقًا صادَقَ الألوهيَّة بميثاق مُبرَم حتى منحته صفاتها في العطاء والجود والُّلطف. ولذا، جاءت حاضريَّة الله في محراب الفتوَّة على نشأة الُّلطف والتسديد. وعلى أرضها يستوي النوع الآدميُّ كلُّه على أرض العدل، فلا يُنجز فهم النظير على نصاب التعالي الرحمانيِّ إلَّا إذا عاينّاه بعين الحقِّ لا بعين ذاتنا. ولا تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع رؤيتنا المكتظة بالفقر، والأنانيَّة، ونكران الجميل. أمَّا قاعدة التناظر في الكثرة الخَلْقيَّة قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده. والخلق المأمورون بتمثُّلها لا ينالونها بغير الإيثار والإنفاق ممَّا يحبّون. ولهذه شرائط معرفيَّة وسلوكيَّة، هي من مقتضيات السفر المعرفيِّ العميق في المباحث الإلهيَّة المقرونة بحُسن السير والسلوك. ولو كان لنا أن نعثر على مكانة النظير في أفق الرحمانيَّة، لقلنا إنَّها الغاية التي يطلبها السَّالك إلى الحقِّ في دنيا الخلق. فلو بلغ المطلوب صار حاضرًا في أرض الحقيقة، ولكنَّه يعرف أنَّ مقتضى المهمَّة هو الأخذ بمشقّة الطريق أنّى كانت أثقالها. وإذا كان من خصائص هذه الأرض سَرَيان الوحي في التاريخ، بَانَ لنا النظير كتجلٍّ من تجلّياتها. ويمكن أن تظهر هذه التجلّيات من ثلاث جهات:
- الأولى: بصفة كونه سلك الطريق وترقَّى في معارجها حتى عرف نفسه فعرِف الله فعرَّفه الله على خلقه.
- الثانية: بوصف كونه عارفًا بغيره، معينًا لهذا الغير على التشبُّه بجميله وحُسن فعاله، إلى الدرجة التي يصير فيها الغير نظيرًا له في الصِّفات والأفعال.
- الثالثة: بوصفه مظْهرًا للحقِّ الأعلى في مقام الرحمانيَّة.
حين تجتمع الجهات الثلاث، حقَّ أن تتكامل ماهيَّة الفتى وحاضريَّته في أرض الحقيقة. بذلك نجده ينتقل إلى طور العمل ليبدأ سفره في عالم الآدميَّة ساعيًا إلى إنجاز مهمَّته الموكولة إليه. ولهذه المهمَّة أبعادٌ جوهريَّة ميزان تحقُّقِها تحصيل الرحمانيَّة كصفة فعليَّة لحاكميَّة الحقِّ الأعلى في نظم المفارقة بين الأنانيَّة والغيريَّة. فالنظير الرحمانيُّ يبقى حتى وهو في مقام التحقُّق مفتقرًا إلى حاكميَّة الحقِّ الأعلى وتسديده. فهو دائمًا على خوف مقيم من التقصير في الجود والعطاء وإظهار الجميل. والإنفاق من الحبِّ هو العطاء الزائد عن الواجب. وهو الدرجة العليا من الجود التي تدخل في فضاء يتعدّى فائض التملُّك. إنَّه الإنفاق من ذات الأنا التي لا يقدر عليها إلَّا من نال حظًّا موزونًا من حقيقة الوحي. وعليه، لم يكن للنظير أن يحرز كماله، لولا أن بلغ ما بلغه في معراج التوحيد. فلئن استوت جدليَّة الأنا والغير على أرض الله، أفلح العارف في تظهير فتوَّته على حسن المقام. حيث لا يُكتب له حظُّ اكتساب صفاته الفاضلة، ما لم يحرز مقام التوحيد كأساس لموقعيَّته في دنيا الاستخلاف الإلهيّ.
V
يظهر النظير في الحكمة الإلهيَّة البالغة، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. فهو إذًا، المساوي والمثيل ولكن على نصاب العدل. أي على “النشأة الأصليَّة للنوع الآدميِّ، حيث يؤاخي بين اثنين من أصل واحد. وهو ما نجده في زوجيَّة المثنَّى حيث لا انفصال للأصل، وإنَّما ضرب من تمييزٍ بين كلٍّ من طرفَي الزوجيَّة في الصفة والهويَّة. فكلُّ متقابلين على نحو التناظر، هما نظيران متعادلان في أصل تقابلهما وجهًا لوجه. وبذلك يؤول التناظر إلى مبدأ الإيجاد. فالكون بجميع ما به من كثرةٍ وتضادٍّ وتفارقٍ يُدار بسلسلة من الأنظمة والقوانين الذاتيَّة الثابتة التي لا تتغيَّر. ذلك بأنَّها نظائر لا متناهية الإتقان، فهي متعادلة في أصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ولذا فالعدل ـ بمعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله حكيمًا وعليمًا. وبمقتضى علمه الشامل، وحكمته العامَّة، يعلم أنَّ لبناء أيِّ شيء مقادير معيَّنة من العناصر. ولذا فهو من يركِّب تلك العناصر، لتشييد ذلك البناء. وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة بوصفهما صفتين من صفات الحقِّ تعالى، يتجلّى العدل الإلهيُّ من خلال فيضه على كلِّ مخلوق بقدر ما يستحقّ. وعلى قول الفيلسوف نصير الدين الطوسي: لا يوجد حكم لائق غير حكم الحقّ.. ولن يأتي حكمٌ يفضُلُ الحكمَ الحقّ، وكلُّ شيء موجود قد أُوجد كما كان ينبغي، ولم يوجد شيء لا ينبغي وجوده”.. ولأنَّ لازم الحكمة والعناية الإلهيَّة هو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأيُّ شيء يوجد، إمَّا أن يكون خيرًا بنفسه، أو يكون وسيلة للوصول إلى الخير… فالحكمة من لوازم كونه عليمًا ومريدًا، هي توضيح أصل العلَّة الغائيَّة للكون. أمَّا العدالة فليس لها علاقة بصفتَي العلم والإرادة، ولكنَّها بالمعنى الذي مرَّ تكون من شؤون فاعليَّة الله. أي أنَّها من صفات الفعل وليست من صفات الذات.
ولئن كان النظير هو في حيثيَّة ما حاصل لقاء الأنا والغير، فذلك يعني أنَّ حاضريَّته في الإجتماع الإنسانيِّ نتيجة فعليَّة لاستبدال مفهوم التناقض الوضعيِّ بمفهوم التدافع الإلهيّ. ولذا فهو لا يقوم على قانون نفي النفي كما تقرَّر الماديَّة الديالكتيكيَّة. ولا على قانون التناقض كما وجدت الوثنيَّات الحديثة، وإنما على ما نسمّيه بـ”زوجيَّة التكامل في عالم المثنَّى”… ففي هذا العالم بالذات يولد النظير من دون أن تشوب ولادته شائبة.
فلو أوَّلنا المثنَّى في توليده للنظير لظهر لنا ما نعتبره مجازًا “الديالكتيك الخلّاق”، بحيث لا يعود النظير مقابلًا للآخر وإنَّما هو حاصل الامتداد الخلّاق من الأنا إلى الآخر وبالعكس. وهو ما لا يقدر عليه إلَّا الفتى الذي أخذ الكتاب بقوَّة، ثمَّ استقام فأودع نفسه في رحاب الألوهة من أجل أن يمتلئ بألطافها وتدبيراتها.
لا يعمل مثل هذا النظير خارج المثنَّى.. بمعنى أنَّه ثالث يولد من لقاء الأنانيَّة والآخريَّة ثمَّ ليظهر على الملأ كبديل لهما. ولأنَّه متَّصل بالرحمانيَّة، لا يرتضي لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أوَّلًا من جديد. فلو فعل النظير هذا ما كان ليبلغ السموَّ، ولا تسنَّى له أن يكون له حظُّ المفارقة. ذلك أنَّه محفوظ في البيت الآمن فلا يغادره بأيِّ حال.
في هذا المقام بالذَّات، سوف يُرى النظير في ضمير الأنا والغير الَّلذين اكتملا بالمثنَّى، ثمَّ توثَّقت صلته بالحقِّ الأعلى. سوى أنَّه لا يفارق الجيرة الحميمة ليستقلَّ بذاته، فهو ممتدٌّ معها على أرض الأخوَّة الفاضلة. وتبعًاً لمبدأ الامتداد يصير النظير آخرَ في الأنا، والأنا تغدو نظيرًا في الآخر، فيما تتولَّى الرحمانيَّة بعنايتها تثبيت المثنَّى وتسديده. ولذا، يدخل كلٌّ من الأنا والغير في سنَّة التدافع الخلَّاق، بما هي سنَّة عمرانيَّة تمنع الفساد في الأرض، وتؤسِّس لإعمار دنيا الإنسان وتُيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.
وعلى هذا النحو، تصير نفس النظير في مقام الفاعليَّة المدركة مُظهِرَةً للآخر، وكلٌّ منهما يصبح مظهرًا لغيره، لأنَّ الفاعل المدرك في مقام التألُّه يُظهرُ خيريَّته طوعًا وطاعةً للخير الأوَّل. وهو في الوقت نفسه يدرك أنَّه مؤيَّد بالحقَّانيَّة الإلهيَّة ومحفوظ ٌ بها من كلِّ خلل وزيغ.
سيُكتبُ للفتى الرحمانيِّ أن يجتاز التناقض ليرى الوحدانيَّة في المثنَّى. وفي هذه الحال يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسرَيان الزوجيَّة الخلَّاقة في الوجود. لقد صار الأمر بيّنًا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وفي هذه الحال، لا حاجة لأحد من طرفَي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجه، لأنَّ كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلًّا منّهما يحسُّ بزوجه، ولولا رؤية كلِّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان أن يتلاءم مع صروف الدهر، فيحيا النقيض في نقيضه، ليُعدَّ لكلِّ حال عدَّته مزوَّدًا من غناه لفقره، ومن صحَّته لمرضه، ومن راحته لتعبه، ومن شبابه لهرمه. وإذا كان الفردُ العاديُّ يحيا هذا التناقض فطرةً وسليقةً وطبعًا بحياته النقيضين معًا، فإنّه على بصيرة من أمره، فكيف حياة أهل الغرام التي لا يعرفها إلَّا أصحابها، ولعلَّ السبب في غيابها عنَّا هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا، فلم نعش النقيض قائمًا في ذات نقيضه؟ لهذا، كان علمُنا بباطن الشيء يجعلنا نعلم ظاهره ضرورةً وبداهةً والعكس بالعكس. ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنَّ الحركة في كلٍّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنَّما هو من أجل أن تظلَّ مستمرَّة دائمًا وأبدًا. فالشيء المتحرِّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنَّما هي حركةٌ مستمرَّة لا تتوقَّف، وفيها تتمثَّل الصلة بين الخالق والمخلوق،- وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلِّ شيء. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الإتصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.
وهكذا، سيكون لمسار التعرُّف أن يترسَّخ عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصم بين الحقِّ والخلق. أمَّا ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيّز الذي يشهد فيه الحقُّ على الخلق. وهو ما اصطُلح عليه بعالم الشهادة. فسيكون على الفتى الرحمانيِّ وسط هذا العالم، أن يستبصر معنى الخير المتعالي، ويسلك سبيله إلى الحياة الفائقة. ثم أن يدلَّ ويبيّن ويعلِّم ويقيّم العدل ويزنَ بالقسط.