ما المقصود بـ البداء و ما رأي الشيعة الامامية فيه؟
ما المقصود بـ البداء و ما رأي الشيعة الامامية فيه؟
معنى البداء :
” البَدَاء ” في اللغة هو الظهور و الإبانة بعد الخفاء .
قال الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات القرآن : ” بدا الشيء بدواً و بداءً : أي ظهر ظهورا بيّناً ” 1 ، و من الواضح أن الظهور إنما يكون بعد الخفاء ، و لو قيل ” بدا لزيدٍ ” فمعناه أنه علم بالشيء بعد الجهل به .
و لقد جاء ذكر البَدَاء بهذا المعنى في القرآن الكريم في مواضع منها :
1. قال الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم : ﴿ … وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ 2 .
2. و قال سبحانه : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ … ﴾ 3 .
3. و قال تعالى أيضا : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ 4 .
4. و قال سبحانه أيضا : ﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ 5 .
و قد يطلق البَدَاء و يراد منه تغيير الإرادة و تبدّل العزم تبعا لتغيّر العلم ، كقوله تعالى : ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ 6 .
و لقد اتفقت الشيعة الإمامية بأن البَدَاء بمعنى الظهور بعد الخفاء ، و العلم بالشيء بعد الجهل به ، و بمعنى تغيّر الإرادة و العزم يستحيل إطلاقه على الله سبحانه و تعالى و لم يقل به أحد من الشيعة بتاتا ، لأنه كما هو واضح مستلزم لحدوث علمه و تغيّره و تبدّل إرادته و عدم إحاطته بما كان و ما هو كائن و ما سيكون ، و لا يُظن بمسلم عارف بالكتاب و السنة و أحكام العقل أن يُطلق البَدَاء بهذا المعنى على الله سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
و لقد جاء في الحديث عن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السَّلام ) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟
قال : ” لا ، من قال هذا فأخزاه الله ” .
قلت : أ رأيت ما كان ، أ رأيت ما هو كائن إلى يوم القيامة ، أ ليس في علم الله ؟
قال : ” بلى قبل أن يخلق الله الخلق ” 7 .
النصوص الدالة على بطلان البداء :
ثم إن النصوص الشريفة من القرآن و الحديث تؤكد بطلان هذا الإطلاق كلياً ، و فيما يلي نشير إلى بعض الآيات و الأحاديث الدالة على استحالة إطلاق هذا المعنى على الله سبحانه و تعالى :
1. قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ 8 .
2. و قال سبحانه و تعالى أيضا : ﴿ … وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ 9 .
3. و قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) و هو يخاطب الله تعالى : ” كل سرّ عندك علانية ، و كل غيب عندك شهادة ” 10 .
4. و قال الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) : ” كان الله و لا شيء غيره ، و لم يزل الله عالما بما كوّن ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه ” 11 ، إلى غيرها من النصوص الكثيرة .
رأي الشيعة في البداء :
لذا فقد اتفقت الشيعة الإمامية تبعاً لنصوص القرآن و الحديث و البراهين العقلية على أنه سبحانه و تعالى عالم بالأشياء و الحوادث كلها غابرها و حاضرها و مستقبلها ، كليها و جزئيها ، لا يخفى عليه شيء في السماوات و الأرض .
فالبَدَاء بمعنى تغيّر الإرادة و تبدّل العزم الناشئين عن تجدد علمه لم يقل به أحد من الشيعة بالنسبة إلى الله تعالى ، بل يرونه ضلالًا و فساداً في العقيدة ، و كل ما يُنسب إليهم إنما هو افتراء و بهتان أو نتيجة لسوء الفهم أو لعدم الاطلاع على رأي الشيعة بالنسبة إلى هذا الموضوع ، كما هو السبب في كثير من الأمور الأخرى .
كلما هناك أن البداء قد يُطلق و يُراد منه تعليق أمر على آخر ، و لازم ذلك عدم حصول المشروط إذا لم يحصل الشرط .
و بتعبير آخر : البداء يعني أن الله يُغَيِّرُ مصير الإنسان إذا غيَّر الإنسان سلوكه و مسيره في الحياة .
و قد ورد في جملة من المرويات عن الأئمة أن من وَصَلَ رَحِمَه مَدّ الله في حياته و ضاعف له الرزق ، و معنى ذلك أن الله جعل لصلة الرحم هذه الآثار ، فإذا أوجد الإنسان هذا الأمر ترتب عليه أثره و إن لم يحصل الأثر المجعول لعدم حصول شرطه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة نشير إلى بعضها كالتالي :
1. قال الله تعالى : ﴿ … إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 12 .
2. و قال الله سبحانه و تعالى أيضا : ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 13 .
3. قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : ” إن الدعاء يردّ القضاء ، و إن المؤمن ليذنب فيُحرم بذنبه الرزق ” 14 .
4. و قال الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) : ” صلة الرحم تُزكّي الأعمال ، و تُنمّي الأموال ، و تدفع البلوى ، و تيسّر الحساب ، و تُنْسيءُ في الأجل ” 15 .
و هذه العقيدة ردٌّ على من يقول أن الإنسان مقدَّرٌ عليه منذ نشأته في رحم أمه أن يكون شقياً جهنمياً أو سعيداً و من أهل الجنة ، و إن هذا المقدَّر لا يمكن تغييره قط ، لا من قِبَل الإنسان و لا من قِبَل الله سبحانه و تعالى !!
مُجمل القول في البداء :
و مُجْمَل القول في البَدَاء إن الله تعالى عالم بكل شيء ما كان و ما هو كائن و ما سيكون و إن علمه غير حادث و لا يتجدد ، لكنه سبحانه و تعالى علّق أمورا على بعضها بحيث إذا أتى الإنسان بها تغيرت الأمور بالنسبة إليه و ظهرت له ـ أي للإنسان ـ بصورة لم يكن يتوقعها ، و على هذا الأساس تؤول الأحاديث التي تشير إلى البداء .
يقول آية الله العظمى الخوئي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) : ” و البداء إنما يكون في القضاء الموقوف ، المعبّر عنه بلوح المحو و الإثبات ، و الالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله .
فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالَم تحت سلطان الله و قدرته في حدوثه و بقائه ، و إن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً و أبداً .
بل و في القول بالبَدَاء يتضح الفارق بين العلم الإلهي و بين علم المخلوقين ، فعلم المخلوقين ـ و إن كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى ، فان بعضا منهم و إن كان عالما ـ بتعليم الله إيّاه ـ بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فانه لا يعلم بمشيئة الله تعالى ـ لوجود شيء ـ أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم 16 .
و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله و طلبه إجابة دعائه منه ، و كفاية مهماته ، و توفيقه للطاعة ، و ابعاده عن المعصية .
فان إنكار البَدَاء و الالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فان ما يطلبه العبد من ربّه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، و لا حاجة إلى الدعاء و التوسل ، و إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبداً ، و لم ينفعه الدعاء و لا التضرّع ، و إذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك .
و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين ( عليهم السَّلام ) أنها تزيد في العمر أو في الرزق ، أو غير ذلك مما يطلبه العبد .
و هذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السَّلام ) من الاهتمام بشأن البداء .
فقد رَوى الصدوق في كتاب ” التوحيد ” بأسناده عن زرارة ، عن أحدهما 17 ، قال : ” ما عُبد الله عَزَّ و جَلَّ بشيءٍ مثل البداء ” 18 .
و رَوى بأسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ( عليه السَّلام ) قال : ” ما بعث الله عَزَّ و جَلَّ نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، و خلع الأنداد ، و إن الله يُقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء ” 19 .
و السر في هذا الاهتمام أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ” [20] .
و بالتالي فإن للإعتقاد بالبداء أثراً تربوياً لأن الإنسان العاصي مدةً من العمر إذا ظن أو اعتقد أن العصيان و الشقاء قدره المقدَّر عليه من جانب الله و أنه لا يمكنه تغييره من سيء إلى حسن ، أو من حسن إلى أحسن ، لتَمادى في غيِّه و عصيانه و في تمرُّده و طغيانه ، و لم يحاول تحسين أعماله و تصرفاته ، على العكس من الشخص الذي اعتقد بأنه لو غيَّر سلوكه غيَّر الله له مصيره و أنه عَزَّ و جَلَّ قادر على ذلك ، فإن مثل هذا الإنسان سيحاول تغيير حالته و سلوكه ليحصل على مصير جيِّد .
الهوامش:
- مفردات القرآن : 40 .
- القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 47 ، الصفحة : 463 .
- القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 28 ، الصفحة : 131 .
- القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 464 .
- القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 152 .
- القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 35 ، الصفحة : 239 .
- التوحيد : 334 .
- القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 50 .
- القران الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 38 ، الصفحة : 260 .
- نهج البلاغة : خطبة / 105 .
- بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 23 / 86 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
- القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 250 .
- القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 88 ، الصفحة : 329 .
- بحار الأنوار : 90 / كتاب الذكر والدعاء ، الباب : 16 .
- الكافي : 2/470 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- هذا المعنى مستفاد من كلام الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : ” إن لله علمين ، علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ، و علم علّمه ملائكته و رسله و أنبيائه ، و نحن نعلمه ” ، يراجع : بصائر الدرجات : 109 ، لمحمد بن حسن بن فروخ الصَّفار ، المتوفى سنة : 290 هجرية بقم ، الطبعة الثانية ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، قم / إيران .
- أي أحد الإمامين : الامام محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) ، أو الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) .
- التوحيد : 332 .
- الكافي : 1 / 147 .
*نقلًا عن موقع ” مركز الإشعاع الإسلامي”.